مع ظلال بُردة البوصيري في الأدب السوداني

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يسعدني ويشرفني كثيراً أيها القارئ الكريم ، أن أكتب هذا التقديم المتواضع لهذا السفر الجليل ، الموسوم ب " ظلال بردة البوصيري في الأدب السوداني " لمؤلفه الأستاذ " عماد محمد بابكر " ، هذا الأديب والشاعر والصحافي والباحث السوداني الشاب النابه ، الذي اجترح مبحثاً أُنُفاً لم يسبقه عليه أحد فيما نعلم ، وبذل فيه جهداً بحثياً مضنياً ، تتبَّع من خلاله مظاهر تأثير قصيدة الإمام أبي عبد الله ، شرف الدين ، محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي الأبوصيري المصري ، المسماة: " الكواكب الدُّرية في مدح خير البرية " ، والمشهورة على نحو أكثر شيوعاً ببردة المديح أو " البردة " ، على مجمل المنجز الإبداعي الأدبي في السودان على وجه التحديد ، عبر مسيرته الطويلة ، سواء كان ذلك على مستوى النظم والشعر الفصيح منه والعامي ، أو على مستوى الدراسات الأدبية والمباحث النقدية.
نقَّب المؤلف عن مظاهر ذلك التأثير في مظانها ومصادرها الخطية المتاحة والمحتملة ، من دوواين شعرية ، ومؤلفات نثرية مطبوعة أو مخطوطة ، فضلاً عن بحثه عن أمثلة وشواهد محددة لذلك التأثير أيضا ، في مواقع النشر الإلكتروني من خلال الشبكة الدولية للمعلومات ، فجاء كتابه غزير المادة ، جيد العرض والتحليل ، حسن التبويب ، ومنطقي الترابط بين مباحثه المتنوعة ، مع حرص واضح من جانب المؤلف على التزام منهج أكاديمي محكم و صارم ، هو الذي أهله – في تقديرنا – في نهاية المطاف للفوز بالجائزة الأولى في مجال البحوث ، في مسابقة جائزة الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني ، للمديح النبوي للعام 2016م / 1437هـ.
لقد تقصَّى المؤلف عبر نماذج وأمثلة محددة ، مظاهر تأثر الشعراء والمادحين السودانيين بقصيدة " البردة " للبوصيري ، معارضةً ، وتضميناً ، وتشطيراً ، وتخميسا ، عبر أجيالهم المتعاقبة ، رجوعاً إلى أبكر مظاهر ذلك التأثر ، وحتى العصر الحديث ، حيث ذكر من بين أولئك الشعراء المتأثرين بنظم البردة كلاً من المشائخ: إبراهيم أبو النور ، والطيب أحمد هاشم ، وعبد الله محمد يونس العركي ، نزولاً إلى عهد الشباب المعاصرين ممن تأثروا بالبردة ونسجوا على منوالها ، مثل " لؤي عبد الله " المولود في العام 1980م ، لكي يستخلص من ذلك – كما قال – حقيقة: " التصاق البردة بالوجدان السوداني ، إذ أنها ما زالت تستثير الأقلام ، وتستدعي القوافي .. ".
ولم يغفل المؤلف بالطبع الإشارة عرضاً إلى تأثير قصيدة البردة للبوصيري على مجمل المنجز الشعري العربي في العصر الحديث ، حيث نوّه في هذا الجانب بصفة خاصة بقصيدة " نهج البردة " لأمير الشعراء أحمد شوقي التي مطلعها:
ريمٌ على القاع بين البان والعلمِ
أحلّ سفكَ دمي في الأشهُر الحُرُمِ
أما فيما يتعلق بأثر بردة البوصيري على التأليف النقدي في السودان ، فقد آثر المؤلف أن يمثَّل لذلك بمثال باهر ، هو ما ورد عن هذه القصيدة في الكتاب الأشهر لعلاّمة العرب و السودان ، الراحل الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب ، الموسوم ب : " المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها " ، حيث يشير الأستاذ عماد إلى استبصار العلاّمة عبد الله الطيب في كتابه المومى إليه ، لتأثُّر البوصيري فنياً ، وخصوصاً من حيث الوزن والقافية وبعض الصور ، بقصيدة أبي الطيب المتنبئ الميمية التي مطلعها:
ضيفٌ ألمَّ برأسي غيرَ محتشمِ
السيفُ أحسنُ فعلاً منه باللِّممِ
وأما بخصوص زعم المؤلف في مقدمة هذا الكتاب أن قصيدة البردة " تكاد تكون الأكثر رواية وتداولاً بين الناس " ، ففيه نظر – على الأقل بالنسبة للسودان – وليسمح لنا الأستاذ عماد بالاعتراض بأننا لا نُسلِّم بصحة هذا الزعم على إطلاقه هكذا. ذلك بأن " البردة " ربما تكون بالفعل أكثر رواية وتداولاً بين معاشر الأدباء والعلماء والفقهاء ومن إليهم من المطلعين والمهتمين عموماً بالتراث الإسلامي و العربي الكلاسيكي على نحو أخص ، بينما أن القصيدة الأكثر سيرورةً بين عامة الأميين والمتعلمين على حد سواء في السودان خاصة ، هي في تقديرنا قصيدة الشيخ عبد الرحيم البرعي اليماني التي مطلعها:
يا راحلين إلى منىً بقيادي
هيجتمو يومَ الرحيلِ فؤادي
ومما رسَّخ شهرة البرعي وقصائده لدى السودانيين خاصة ، إكثار ماديحهم التقليديين ذكرهم له في مدائحهم وأشعارهم ، على نحو ما جاء على لسان " حاج الماحي " على سبيل المثال في قصيجة " الليلة الحجاز لاح ضوى برّقو ":
البرعي اللبيب لبِّسنا باخلاقو
قتلو الحب حليلو انشقّ بخناقو
ولعل من أقوى أسباب شهرة وذيوع قصيدة البرعي اليمني " يا راحلين إلى منى " ، هو الأداء المتميز الذي أداها به المنشد والمادح الراحل الشيخ " السمّاني أحمد عالم " بصوته ذاك الشجي ، الذي ظلَّ عالقاً في وجدان السودانيين وذواكرهم منذ بضعة عقود ، وحتى الآن.
هذا ، ولا يظننَّ ظانٌّ بأن هذا الكتاب ، لمجرد أنه يعالج موضوع المديح النبوي عموماً ، وقصيدة " البردة " على وجه الخصوص ، خلوٌ من أية إشارة إلى الحداثة الشعرية بالكلية. ذلك بأنَّ هذا المؤلف الشاب ، الذي هو نفسه شاعر حداثي التوجه والذائقة والإبداع ، قد عمد بالفعل إلى إبراز جملة من الشواهد والنصوص الحداثية ، ذات الصلة بالموضوع. فمن ذلك قوله في المقدمة أيضاً:
" صار المديح ملازماً للسودانيين في تفاصيل حياتهم اليومية .... حتى غدا طقساً سودانياً أصيلا ، حتى قال شاعرهم في مغتربه:
رياحكم ماسخةٌ عجوز
في بلدي نعطِّرُ الهواء بالمديح "
والشاعر المعني هو: " محمد المكي إبراهيم " ، أحد أساطين الحداثة الشعرية في السودان ، وهو ذاته الذي شدا بعد نظمه هذا المقطع بسنوات في مدح مدينة الرسول الكريم قائلاً:
مدينتك الهدى والنور
ودمعة التقوى ووجه النور
وتسبيحُ الملائكِ في ذؤابات النخيل
وعلى الحصى المنثورْ
مدينتك الحقيقة والسلام
على السجوفِ حمامةٌ
وعلى الرُبى عُصفورْ
ثم نراه يذكر من بين شعراء الحداثة من الشباب السودانيين ، الذين نظموا في المديح النبوي ، الشاعر: " أبو عاقلة إدريس إسماعيل " ، ويثبت له نصاً منه قوله:
ويا غايةَ القصدِ
وجّهتُ طرفيَ يا مجتبىً
عند نورك يهفو بياني
ويجفلُ سحري
ويغزو عباقرةَ الشعرِ شعري
وأخطو بلا قائدِ في الزِّحامْ
سلام القوافي من الصَرصرِيِّ
يجاهدُ فيكَ .. جلالقة الشِّرْكِ
يوم التَّتارْ ..
وصفوة القول في الختام ، أنَّ هذا الباحث الجاد ، والناقد المبدع البصير ، قد استطاع رغم شحِّ المصادر والمراجع ، أن يُخرج لنا سِفراً في غاية الفائدة والإمتاع ، وهو بذلك قمين بأن يسدَّ ثغرة معرفية وبحثية مهمة في بابه ، كما أنَّ من شأنه أن يُسهم بجلاء ، في بيان هذا الملمح المهم من ملامح أدبنا السوداني الباذخ ، وتسليط الضوء على مكانته اللائقة به ، من مجمل خارطة الأدب العربي.



khaldoon90@hotmail.com

 

آراء