مقتطفات من كتاب “الدم والحديد والذهب: كيف غيرت السكة حديد العالم” .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

 

 

Blood, Iron and Gold: How the railroads transformed the world
Christian Wolmar كريستيان وولمار
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لما ورد في كتاب كريستيان وولمار المعنون: "الدم والحديد والذهب: كيف غيرت السكة حديد العالم" عن تاريخ إنشاء السكة حديد بالسودان. نُشر الكتاب عام 2009م من دار Public Affairs بنيويورك.
اِمْتَازَ هذا الكتاب باستعراض وافٍ لتاريخ إنشاء السكة حديد في كل قارات العالم، وبصور فتوغرافية ورسومات تاريخية لعمال وقطارات ومحركات (وابورات) السكة حديد فيها، وللجسور التي أقيمت خصيصا لتمر عليها القطارات.
وكريستيان وولمار (1949م - الآن) إعلامي بريطاني وكاتب متخصص في النقل وتاريخ السكة حديد عبر العالم. وسبق له أن نال عدة جوائز عن أعماله في مجال تاريخ وحاضر النقل والسكة حديد في بريطانيا.
للمزيد عن تاريخ السكة حديد بالسودان يمكن النظر في المقال المترجم المنشور بعنوان "قصة بناء خط السكة حديد عبر الصحراء" (1).
المترجم
******** ********** **********
تطرق الكاتب لتاريخ مشروع خط سكة حديد الرابط بين مدينة الكاب بجنوب أفريقيا والقاهرة (بطول 6,000 م/ 9656 كم)، الذي اقترحه البريطاني سيسيل روديس (2)، ذلك الاستعماري الكبير الذي بسط سيطرة بريطانيا على أفريقيا الجنوبية. وكان رودس يحلم بخط حديدي واحد يربط أقصى جنوب القارة بشمالها، به يضمن السيطرة البريطانية على تلك القارة. ولخص أحد مؤرخي السكة حديد الأمر بالقول بأن: "تاريخ السكة حديد هو تاريخ البريطانيين في أفريقيا. وأينما يرفرف العلم البريطاني، تظهر السكة حديد بحسبانها وسيلة الاتصال الرئيسة والتوسع الاستعماري. وتعادل السكة حديد عند الإمبراطورية البريطانية الطرق البرية التي أقامها الرومان في المناطق التي احتلوها".
كان الهدف الرئيس من إنشاء خطوط للسكة حديد في وسط أفريقيا هو استغلال الموارد وليس تنمية المناطق التي أقيمت فيها. وخلافا لخطوط السكة حديد التي أقيمت في بعض مناطق أفريقيا الأخرى، لم تكن خطوط السكة حديد بوسط أفريقيا قد أقيمت لفتح باب الهجرة للذين يودون إقامة مستوطنات ومجتمعات تعتمد على أنفسها. كذلك لم تساهم تلك الخطوط بوسط أفريقيا في إنعاش وتحفيز التنمية الاقتصادية المحلية لسكان المنطقة (الأصليين). بل أزيح الأفارقة جانبا بنفس الطريقة التي عُومل بها الهنود في الولايات المتحدة (أي السكان الأصليين. المترجم). غير أن الطقس الوخيم والأحوال السائدة في تلك المنطقة كانت من الشدة بحيث تعذر علي البيض الإقامة الدائمة بها. وعوضا عن الهجرة والإقامة قامت السلطات الاستعمارية بنقل المعادن بأقل التكاليف عن طريق السكة حديد، بعد أن تخلى عنها الزعماء المحليون، بالقوة أو بالحيلة. وعلى الرغم من أن تلك الخطوط الحديدية قد خلقت القليل من الوظائف لسكان المنطقة في المناجم، إلا أن الغرض الرئيس من إنشائها كان هو استخراج المعادن والموارد الأخرى عن طريق عمليات لا توفر إلا قدرا قليلا من الفائدة للسكان المحليين ومجتمعاتهم. لقد كان هدف المستعمر في الحقيقة هو ذات الهدف الذي عمل له من صنعوا العربات wagonways الأصلية ببريطانيا وبقية الدول الأوروبية في القرن السابع عشر وما تلاه من قرون، وهو: ربط المناجم بأقرب الممرات المائية الصالحة للملاحة، عدا بالطبع أنها كانت أطول.
ولم يمتد في الواقع ذلك الجزء الجنوبي من خط الكيب – القاهرة الحديدي قط، كما كان يؤمل رودس (أو حتى مهندس السكة حديد الأسكتلندي روبرت ويليامز). وحدث نفس الشيء في الجزء الشمالي من ذلك الخط المقترح الذي كان يمتد من مصر ويشق الأراضي السودانية. وكان مشروعا طموحا، مثله مثل ذلك الجزء الجنوبي، لمجرد أنه كان مشروعا شديد الضخامة، رغم أنه كان سيمر على أراضٍ سهلة نسبيا. وكان ذلك الخط سيقطع مساحات شاسعة من الصحراء، ولم يكن لإنشائه أن يكتمل تحت تلك الظروف القاسية إلا باستخدام أقصى درجات الانضباط العسكري. لقد كان بالفعل خطا حديديا عسكريا أقيم من أجل غزو السودان والوصول من أقصى شماله إلى مناطقه الداخلية. وكان من أول من فكر في إقامته هو هربرت (الآن لورد) كتشنر، الذي كان في تلك السنوات سردارا للجيش المصري.
وكان هنالك خط سكة حديد بدائي بمصر من قبل احتلال بريطانيا لها في 1882م، وهو يُعد الأول في أفريقيا. وكان العمل في إنشاء ذلك الخط بين الإسكندرية والقاهرة - البالغ طوله 120 م /193كم - قد بدأ في عام 1856م. وكان مهندس ذلك المشروع هو البريطاني روبرت ستيفنسون (3). ولم يكن ذلك العمل إنجازا سهلا أو بسيطا بالنظر إلى أن ذلك الخط الحديدي كان يقطع نهر النيل مرتين. غير أنه كان مشروعا تجاريا مربحا إذ كان ينقل الكثير من الركاب الذين يودون السفر برا بين أوروبا والهند، ويرغبون في تحاشي السفر الطويل بحرا عبر الكيب. وكان هؤلاء قبل ذلك يستخدمون الإبل أو العربات التي تجرها الخيول ليسافروا عبر الأراضي المصرية. وعلى الرغم من افتتاح قناة السويس في عام 1869م (التي استحوذت على معظم ما كان تجلبه السكة حديد من دخل)، مُد الخط الحديدي لمدينة أسيوط على ضفاف النيل في عام 1874م، ثم مُد إلى الأقصر التي تقع جنوب القاهرة على مسافة 340 م / 547 كم في عام 1898م.
كان البريطانيون قد انسحبوا / تخلوا عن السودان في عام 1885م بعد حصار المهدي وجنوده للخرطوم. وانتهى ذلك الحصار بمقتل الجنرال شارلس جورج غردون ومن بقي معه من الجند. وكان يقود من تمردوا على الحكومة هو محمد أحمد المهدي، القائد الديني المعارض للسيطرة الغربية على مصر. وبعد نحو عقد من الزمان على قيام الدولة المهدية تحصل كتشنر على الإذن من الحكومة البريطانية للشروع في بناء خط عسكري للسكة حديد يمتد إلى الخرطوم حتى يمكن "استعادة" السودان وهزيمة المتمردين المهدويين. وكان بلوغ الخرطوم يتطلب بناء خط سكة حديد بطول مئات الأميال عبر الصحراء من حدود السودان الشمالية في وادي حلفا على النيل، التي يمكن الوصول إليها بالسفن والبواخر من الأقصر.
وتولى مساعدة كتشنر في مشروعه هذا مهندس عسكري كندي غريب الأطوار اسمه إيدوارد جيروارد Edouard Girouard (4). وجلبت كل المواد اللازمة لهذا المشروع من بريطانيا. وشرع كتشنر في العمل في عام 1896م بإصلاح ما كان موجودا من خط حديدي كان أنصار المهدي قد دمروه. وكان العمل في البدء شديد البطء. وعلى الرغم من انبساط الأرض الصحراوية التي كان يقام عليها الخط الحديدي، إلا أن ظروف العمل كانت شديدة العسر بسبب شح الماء (وهي نفس الصعوبة التي قابلت المهندس البريطاني جورج بولينق في صحراء كلهاري على بعد 3,000 م جنوبا، وهو يقيم خطا للسكة حديد في جنوب أفريقيا وروديسيا). وكانت درجة الحرارة نهارا بشمال السودان لا تقل عن 100 درجة ف /38 م. ولحسن الحظ عثر جيش كتشنر على قدر كافٍ من الماء الضروري للبشر والآلات في مكانين على طول الخط الحديدي. وكانت العمالة المطلوبة لإكمال العمل غير كافية، مما جعل كتشنر يقبل بتعيين بعض العمال من المساجين والمدانين سابقا في قضايا متنوعة وكانوا غير جديرين بالثقة ولا يمكن الاعتماد عليهم. غير أن التطبيق الحازم والصارم للضبط والربط العسكري جعل الجميع في نهاية المطاف يلتزمون بالعمل التزاما واضحا. وتسارعت وتيرة العمل فصار العمال يقيمون نحو 3 أميال/ 4.8 كم في اليوم. وساهم دَّيْنُ / مساهمة قدمها رودس (عبارة عن خمسة محركات) لإيدوارد جيروارد في الإسراع بإنجاز العمل.
وكان كتشنر يبعث بقطارين يوميا من وادي حلفا (حيث تجرى الأعمال الهندسية) عبر الخط الحديدي إلى فرق العمل العاملة على تشييد الخط الحديدي. وكان القطار الأول يصل لتلك الفرق عند بزوغ الفجر وهو يحمل 2,000 ياردة / 1.8 كم من القضبان الحديدية والمستلزمات الفنية الأخرى، والماء بالطبع. وكان القطار الثاني يصل لهم عند منتصف الظهيرة وهو يحمل المزيد من القضبان الحديدية والمستلزمات المطلوبة لإرساء الخط الحديدي. وكان ذلك القطار يحمل أيضا للمهندسين البيض بعض الكماليات ومواد الترفيه للحفاظ على "الروح المعنوية" عندهم (مثل أنواع خاصة من الأطعمة والويسكي والسجائر، وحتى الصحف). ولم تصادف تلك الفرق العاملة في تشييد الخط الحديدي من أي صعوبات سوى تأخير وصول أدوات العمل في بعض الحالات، وبعض المناوشات مع أنصار المهدي والتي كان يكسبها العاملون بالخط بيسر شديد بفضل ما كان يصلهم من إمدادات. (جدير بالذكر أن مارك استراج مؤلف كتاب "من الكيب للقاهرة" ذكر خلاف ما ذهب إليه مؤلف هذا الكتاب، فقد أورد أنه "لسبب غير معلوم تماما لم تقم جيوش الدراويش بمهاجمة بناة الخط الحديدي بصورة جادة أو مكثفة، مع أن هؤلاء كانوا لقمة سائغة لكل من كان يود مهاجمتهم، ولم يحاول الدراويش قط تخريب ما تم إنشاءه من الخط الحديدي، والذي لم يكن تحت أي نوع من أنواع الحماية" (1).
وبلغ الخط الحديدي نقطته الأخيرة بالقرب من الخرطوم في سبتمبر من عام 1898م، حيث وقعت المعركة الحاسمة التي أنهت الحكم المهدوي (وقعت بعد تلك المعركة معركة حاسمة أخرى في أم دبكيرات في نوفمبر 1899م قُتل فيها خليفة المهدي، وكانت تلك هي النهاية الرسمية لدولة المهدية). وعند تلك النقطة كان خط السكة حديد قد مُد إلى مسافة 576 م / 927 كم في أقل من عامين، وتحت ظروف بالغة الشدة والعدائية من الطقس ومن السكان المحليين (ورد في مصادر أخرى أن الجيش الإنجليزي – المصري وجد استقبالا حسنا - وليس عدائيا- من قبائل الشمال وهو يدخل للسودان. المترجم). فلا عجب إذن قال بعض كتاب العصر الفيكتوري إن "السكة حديد هي أعظم الأسلحة ضد المهدية".
كانت السكة حديد في مصر تستخدم خطا حديديا معياري العرض، غير أن كتشنر آثر أن يستخدم عرضا أصغر (3 أقدام ونصف) وأقل كلفة، وكان يؤمل أن يلاقي خطه الحديدي ذلك الخط الذي كان رودس يعمل على إقامته جنوبا. ومع مطلع عام 1900م قوي الأمل في إمكانية تحقيق حلم بناء خط سكة حديد الكيب – القاهرة. وفي ذلك العام أرسل رودس لكتشنر برقية يداعبه فيه بصورة لا تخلو من وقاحة قال له فيها: "إذا لم تجتهد أكثر، فسأصل أوغندا قبلك". ورد عليه كتشنر ببرقية مماثلة من كلمة واحدة فقط:" أسرع Hurry up". غير أن ذلك الخط الحديدي لم يكتمل كما كان يؤمل له بسبب اندلاع حرب البوير (5)، وغياب الإرادة عند الحكومة البريطانية، واحتلال الألمان لتنجانيقا، وعظم طِمَاح المشروع وكبره الهائل.
وكما هو الحال مع الطريقة البريطانية في الإنشاءات، فقد تولى القطاع الخاص الجزء الأكبر من تشييد الخط الحديدي بين الكيب والقاهرة (باستثناء الخط الحديدي الذي أقامه كتشنر، والجزء الصغير من خط مستعمرة الكيب وشرق أفريقيا)
صحيح أن ذلك الخط لم يكتمل قط، غير أن إنشاء أجزاء منه ترك إرثا ملحوظا ساهم في إقامة وجود دائم في غالب مناطق وسط وجنوب أفريقيا، وخلق عمليا مستعمرتين جديدتين في شمال وجنوب روديسيا، سميتا، لأسباب مفهومة، باسم ردوس، زعيم السكة حديد الرئيس.
ولو قدر لذلك الخط الحديدي أن يكتمل لما عُد من خطوط السكة حديد المكتملة بالفعل مثل الخطوط التي تربط بين الدول في القارات الأخرى. ولم يكن المتوقع قط أن يكمل راكب ما كل رحلته في قطار واحد وذلك لاختلاف عرض الخط الحديدي في المناطق التي يمر بها، ونسبة لأن هنالك بعض الأجزاء التي ينبغي أن تكمل بالمراكب. وكان طول المسافة للرحلة النهرية يبلغ 850 م/ 1388 كم، ولم تكن هنالك أي نية لبناء خط سكة حديد موازٍ للنهر.
وفي عام 1928 اكتمل تشييد خط السكة حديد في أوغندا. وصار من الممكن الوصول لممبسا (على الساحل الكيني) بالبواخر والقطار من الخرطوم. وحفز بناء خط سكة حديد عسكري في السودان لمد الخطوط الحديدية لمناطق عديدة في البلاد لخدمة مصالحها، وليس كجزء من ذلك المشروع الطموح لبناء خط من الكيب للقاهرة. ومدت حكومة السودان خط السكة حديد إلى كوستي (على بعد 240 م /386 ك) في عام 1911م، ومنها يمكن السفر بالبواخر إلى جوبا. ومن جوبا يمكن ركوب حافلة لمسافة 100 م /160 كم إلى الحدود إلى اوغندا. ومن نمولي يمكن السفر بالباخرة وبحافلة أخرى لبلوغ محطة سكة حديد في ناماغاسالي. وأخيرا، بعد ركوب القطار على خطين مختلفين أقيما في عام 1928م، كان هنالك قطار يسير مباشرة إلى ممبسا. وكما هو واضح فهذه رحلة طويلة وعسيرة ولا تصلح لراكب عابر.
******** ********* ************
إشارات مرجعية
(1) https://www.sudaress.com/sudanile/28558

(2) كان البريطاني سيسل ردوس (1853 – 1902م) من كبار المستثمرين في المعادن في مستعمرة الكيب (الآن جنوب أفريقيا)، وتولى رئاستها، وكان حلمه أن يربط الكيب بالقاهرة بخط سكة حديد. https://www.britannica.com/biography/Cecil-Rhodes

(3) روبرت ستيفنسون (1803 – 1853م) هو مصمم سكك حديدية ومهندس مدني إنجليزي. وهو الابن الوحيد لجورج ستيفنسون، الذي قام بإنشاء أول خط سكة حديد في العالم يستخدم قطارات البخار، وكان يلقب بـ "عراب السكك الحديدية".

(4) انظر مقال عدنان زاهر بعنوان (كنديون في السودان) الذي ورد فيه عن ذلك المهندس: "... ولد في مونتريال عام 1867 من أسرة ارستقراطية تعمل بالمحاماة، وكان أجداده الفرنسين قد هاجروا إلى كندا منذ القرن السابع عشرو تزوج والده من امرأة إيرلندية. ورغما عن اعتراض والده على دراسته للهندسة فقد أكمل كلية الهندسة بمدينة "كنجستون" وعمل مهندسا واكتسب سمعة مهنية عالية مما كانت سببا في سفره إلى انجلترا، ومن ثم استيعابه في الجيش الإنجليزي- القسم الخاص- بإنشاءات السكك الحديدية" http://www.d-a.org.uk/opinion/sadati/adnan15_9_07.htm

(5) للمزيد عن "حرب البوير الثانية" يمكن النظر في موقع "المعرفة": https://tinyurl.com/yysf6dw9

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء