مقتطفات من كتاب “هنري ويلكم” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Henry Wellcome 

روبرت روديس جيمس Robert Rhodes James
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لصفحات قليلة من كتاب بعنوان "هنري ويلكم" صدر للكاتب روبرت روديس جيمس عام 1994م في لندن عن دار نشر هودر ايستوتن. والصفحات المختارة للترجمة هنا هي تلك التي ورد فيها ذكر للسودان، ونشاط ويلكم فيه.
أغدق المؤلف في كتابه هذا المدح على هنري ويلكم، ولكنه تعرض أيضا في بعض مواطن متفرقة من الكتاب بإيجاز شديد لما ذكره منتقدوه عنه.
وروبرت روديس جيمس (1877 – 1943م) - بحسب سيرته المبذولة في موسوعة الويكيبديا - كاتب سير ومؤرخ وسياسي بريطاني محافظ، ولد في الهند في 10 أبريل 1933، وتوفي ببريطانيا في 20 مايو 1999م. له العديد من الكتب عن سير بعض الشخصيات البريطانية البارزة مثل ونستن شيرشل وانتوني إيدن وغيرهما، وكتاب عن السويس.
أما السير هنري سولومون ويلكم (1835 م – 1936م) فهو أمريكي – بريطاني كان قد أسس شركة أدوية "بروز، ويلكوم وشركاهم" وهي شركة أدمجت فيما بعد مع شركة غلاكسو سميث كلاين العالمية. واستخدم الرجل ثروته الكبيرة لإنشاء وقف / صندوق ويلكم، الذي أصبح أكبر جمعية خيرية وقفيةً في العالم بلغت موجوداتها نحو 15 مليار من الجنيهات الإسترلينية (£).
يمكن النظر في بعض المقالات المترجمة المنشورة سابقا عن ويلكم ونشاطاته في السودان (2،1).
المترجم
******* ****** ************
ورد في الفصل السابع من هذا الكتاب تحت عنوان "مغامرات جديدة" ذكر لمجيء ويلكم للسودان. ونقتطف هنا – باختصار – بعض ما جاء في ذلك الفصل:
أبحر ويلكم من بريطانيا للسودان في أواخر عام 1900م، ولم يكن يدري أن تلك الرحلة ستقوده لأكبر مغامرة يقوم بها في حياته.
كان اهتمام ويلكم بالشؤون الأفريقية يتعدى المصالح التجارية المحضة، وكان مغرما بسماع ما يحكيه له أصحابه استانلي وجيفسون وشيلدون من قصص عن أفريقيا. وبدأ يطَّلَع باهتمام وشغف على كل الأدبيات الجديدة التي نُشرت حول أفريقيا، خاصة بعد عام 1890م، حين اشتدت هرولة وتسابق البلجيك والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين لـ "فتح" أفريقيا.
وكان البريطانيون قد تعرضوا لهزائم وخسائر فادحة في ثمانينيات القرن التاسع عشر بجنوب أفريقيا، وبالسودان أيضا، حين مَثَّلَ مقتل الجنرال غردون على يد أنصار المهدي في 1885م كارثة قومية وإذلالا مهينا. وكان مقتله كارثيا على السودانيين أيضا، حين ساءت أحوالهم وتفاقمت معاناتهم وهم تحت حكم خليفة المهدي. وتعالت في بريطانيا (وفي مصر أيضا) صيحات المطالبة بالثأر لغردون، وباستعادة السودان وبسط الأمن والسلم في ربوعه. ولم تكن هنالك فرصة كبيرة للاستجابة لتلك المطالبات الشعبية وغلاديستون على رأس الوزارة البريطانية. غير أن تلك الوزارة تغيرت في عام 1894م، وتولاها رجل من حزب المحافظين، وضمت الوزارة أيضا جوزيف شامبرلين كوزير للمستعمرات.
وكانت الشخصيات البريطانية المهمة في مصر في تلك السنوات هي ايفيلين بارينق (لورد كرومر) واللواء كتشنر سردار الجيش المصري، والعقيد ريجيلاند وينجت. وكان كرومر يعمل في البدء كممثل للمصالح البريطانية في مصر (لمتابعة أمر الديون البريطانية المتراكمة على مصر)، ثم عاد لمصر مرة أخرى كمفوض بريطاني وقنصل عام لبريطانيا في القاهرة، وكان يُعد الحاكم الفعلي لمصر، بل " كانت كلمته هي القانون" كما كتب ونستن تشرشل ذات مرة.
وكان رئيس المخابرات المصرية وينجت قد نشر في عام 1891م كتابا بعنوان: "المهدية والسودان المصري" وصف فيها بتفصيل ودقة الأحوال البائسة التي كان يكابدها السودانيون وهم تحت حكم المهدية. وساهم ذلك الكتاب في زيادة توزيع كتاب "السيف والنار في السودان"، الذي حكى فيه مؤلفه سلاطين عن قصص أسره في 1884م وفراره لمصر في 1895م، وعن الأحوال الكارثية في السودان وهو يرزح تحت طغيان واستبداد وقسوة النظام المهدوي. لا ريب أن تلك الكتب كانت محض منشورات سياسية دعائية، غير أنها كانت مبنية على حقائق، وكان تأثيرها على الرأي العام البريطاني عظيما جدا.
ولم يكن كرومر قد وافق على القيام بتلك المحاولة الكارثية لاسترداد السودان في عامي 1883 – 1884م، أو على إرسال غردون في تلك البعثة المشؤمة للخرطوم. ولكنه أفلح في عام 1885م في سحب كل (أو معظم) القوات البريطانية والمصرية من جميع أنحاء السودان، عدا تلك الموجودة بميناء سواكن على البحر الأحمر. وكانت الحكومة المصرية تعارض (إعادة) احتلال السودان، بينما كانت الحكومة غير متحمسة لذلك الاحتلال. غير أن نفوذ كرومر كان كبيرا جدا بحيث مكنه من إرسال حملة بريطانية – مصرية مشتركة، سُيرت من مصر وتمكنت من هزيمة جيش الخليفة في معركة كرري يوم 2/9/ 1898م، دون وقوع إلا أقل الخسائر في صفوف القوات البريطانية – المصرية. وغدا كتشنر قائد تلك الحملة بطلا قوميا في بريطانيا. غير أن سؤالا مهما قد برز بعد الاستيلاء على السودان: ما الذي سنفعله فيه الآن بعد أن اِحتلَّيناه؟
كان ويلكم يتابع تلك الأحداث عن قرب وبإثارة واهتمام شديدين. وكان هداياه في يوم عيد الميلاد (في عام 1898م) لمن يعملون معه هو كتاب جي دبيلو ستيفنس المعنون "مع كتشنر للخرطوم"، وكتاب سلاطين "السيف والنار في السودان"، إذ كان قد ابتاع 800 نسخة من الكتاب الأول و870 من الكتاب الثاني ليهديها لهم. وكان أكثر ما لفت نظر ويلكم بعد السيطرة على السودان هو ما أعلنه كتشنر من طِمَاح لتمدين السودان والبدء في نشر التعليم فيه. وكان ويلكم يؤمن بأن بإمكانه فعل شيء في هذا الجانب بذلك البلد الواسع المترامي الأطراف، المَرْزوء بالمجاعات والأمراض، وبنقص في الأنفس أحدثته الحروب المتتالية.
وعندما وجه كتشنر نداءً إلى عامة أفراد الشعب البريطاني في نوفمبر 1898م يحضهم فيه على التبرع بمبلغ 100,000£ لبناء كلية في الخرطوم تحمل اسم وذكرى غردون، سارع ويلكم بالكتابة لكتشنر وأرفق مع رسالته تبرعا شخصيا بمبلغ 100£، وعرض تقديم أجهزة طبية وأدوية صيدلية كاملة لتلك الكلية. وظفر نداء كتشنر للبريطانيين بنجاح منقطع النظير. ولم يخل الأمر من عامل شخصي. فقد كان كتشنر واحدا من القلائل في الخدمة العامة البريطانية الذين سمعوا وقرأوا عن هنود ميتلاكاهتلان Metlakahtlan Indians، وقابلوا فعليا في السكا ويليام دينكان W. Duncan (المبشر الأنغليكاني المثير للجدل الذي عمل على تأسيس مجتمع طوباوي في أوساط السكان الأصليين بشمال أمريكا. المترجم)، الذي غدا فيما بعد أحد الأصدقاء والمعجبين. وكان كتشنر، للغرابة، من الذين قرأوا كتاب ويلكم، وأخبر ويلكم بتلك الحقيقة الاستثنائية، فضاعف ذلك من حماسة ويلكم واهتمامه بالسودان. وبالفعل سافر ويلكم في خريف 1900م إلى القاهرة، وفي جعبته خطابات تقديم إلى كرومر ووينجت (الذي حل في ذلك التاريخ محل كتشنر، الذي بُعث على عجل إلى جنوب أفريقيا ليساعد الجنرال فريديرك روبرتس بعد نَكَسات حرب البوير). ولم تكن رحلة ويلكم موفقة في كل الجوانب، إذ كان قد وقع - بطريقة ما – في فتحة باب أرضي في السفينة التي كانت تقله لمصر، وأصيب إصابة بالغة في رجله وذراعه اليُمْنَيين، جعلت طبيبه المعالج يشخص حالته على أنها "إعاقة مُعَطِّلة تماما". وتبين فيما بعد أن ذلك كان وصفا مبالغا فيه لحالته. وحصل ويلكم على تعويض مجزٍ من شركة تأمينه بعد تبادل وكيله في لندن لمراسلات حادة معها.
ولقي ويلكم استقبالا حارا من كرومر وكتشنر ووينجت، إذ أنه كان من أوائل المدنيين الإنجليز الذين قدموا للسودان بعد "الفتح"، خاصة وهو قد جاء ليقدم بعضا مما عنده لشعب البلاد المفقر الذي كانوا قد احتلوه لتوهم. وقام المسؤولون البريطانيون بمصر والسودان بتقديم كل مساعدة ممكنة له.
كتب ويلكم لاحقا في مذكراته بعض الانطباعات عن زيارته الأولى للسودان، وجاء فيها:
" كانت من أهداف زيارتي دراسة أحوال الأهالي في الوقت الراهن، وملاحظة أي خواص انثولوجية تميزهم عن غيرهم. وكانت حكومة السودان قد ساعدتني في تحويل مركب شراعي يستخدمه الأهالي إلى "دهباية" (عوامة أو مركب تستخدم كبيت) للسفر عبر النيل في زيارة للمستوطنات بتلك المناطق. وفي إحدى الزيارات مررت على جزيرة صغيرة تقع فوق شلال السبلوقة وجدت بها نحو 30 أو 40 فردا كانوا جميعا في غاية الهزال، مُنْبَطِحين على بطونهم دون حراك، وفي حالة متأخرة من الإعياء والتَوَعُّك بسبب الإصابة بملاريا ربما كانت من النوع الخبيث. إنني على ثقة من أنه ليس هنالك من أحد يمكن أن يرى مثل تلك الهياكل العظيمة الهزيلة للرجال والنساء والأطفال من دون أن يحس بالأسى والحزن لحالهم، وأن تتحرك في نفسه مشاعر التعاطف العميق معهم، وأن يصمم على عمل شيء ما لمساعدتهم وتخفيف آلامهم... وفي ذلك الوقت لم يكن قد بُدئ العمل في أية بحوث طبية أو صحية في السودان".
لقد كانت الأحوال في الخرطوم نفسها في غاية السوء، وكان حجم الدمار الذي خلفته القوات البريطانية المنتصرة أكبر مما تخيله ويلكم (وأي فرد آخر في بريطانيا) قبل صدور الطبعة الأولى من كتاب ونستن تشرشل الكلاسيكي "حرب النهر" في 1899م، الذي حوى نقدا لاذعا لمعاملة الجيش الغازي لجرحى الدراويش (3)، والذي قام المؤلف لاحقا بتخفيفه في طبعات تلت تلك الطبعة الأولى.
وكانت الخرطوم تعاني من غياب تام للصحة العامة وتشيع فيها الأمراض المنقولة بالماء وأمراض الملاريا والكوليرا وسوء التغذية وغير ذلك من الأمراض القاتلة التي أودت بحياة عدد من جنود الجيش البريطاني – المصري يفوق عددهم عدد الذين قتلهم أنصار المهدي. لقد كانت حالة السودانيين الفقراء بالتأكيد أشد سوءًا من حال أولئك الجنود. وكما ذكر ويلكم، كانت هنالك حاجة ماسة لتوفير الضرورات الأساسية مثل الماء النظيف والطعام، والتخلص الكامل من كل مشاكل الصحة العامة. ولم تكن هنالك وقاية أو علاج للملاريا سوى إعطاء دواء كوينين بجرعات يومية، والقيام كل ما يمكن عمله لإصلاح أوضاع الصحة العامة. ووعد ويلكم بالعمل على توفير الأدوية والمواد المستخدمة في تطهير البيئة، وكلف في بدايات 1901م من يبعثوا بتلك المواد للسودان من بريطانيا. ووافق كرومر ووينجت على كل ما أقترحه ويلكم عليهم. وساهمت الصيدلية التي أقامها ويلكم في توفير الأدوية لأطباء الجيش الذين كانوا يجدون عسرا شديدا في علاج مرضاهم.
وكتب ويلكم أن الطقس في السودان كان من الجودة بحيث أنه "أعاد إليه الحياة، وجعله ينعم بالصحة والعافية مرة أخرى". كانت تحديات السودان قد ألهمت ويلكم ليبذل ما في وسعه لمساعدة البلاد وأهلها. وعاد ويلكم للقاهرة حاملا خطة طموحة تتضمن إنشاء مختبر للأبحاث المدارية (الاستوائية)، يهدف في المقام الأول لتقليل عبء الأمراض المدارية بتطبيق وسائل العلاج والوقاية العلمية المعروفة، ويسعى أيضا لإجراء أبحاث (علمية وطبية وبيطرية. المترجم) عن الأمراض في مناطق السودان المختلفة. وتكفل ويلكم في عرضه لكرومر بتوفير كل الأجهزة والمعينات الأخرى لإقامة المختبر، ولم يشترط غير أن يعتمد المختبر على تمويل نفسه من موارده الذاتية بفرض رسوم معقولة على المستفيدين من خدماته كي تُستخدم في صيانة الأجهزة والمعدات، وأن تقوم حكومة السودان بدفع رواتب كل العاملين بالمختبر، وبالمساهمة في صيانته. وقبل كرومر عرض ويلكم في سرعة قياسية. بعد ذلك أرسل ويلكم لأعوانه في مؤسسته بإنجلترا للعمل بسرعة على توسيع عملهم ومد صيدلية ومختبر كلية غردون بالمزيد من الأدوية والمواد الكيماوية "حتى تغدوا مماثلة لأفضل الصيدليات والمختبرات في أوروبا". وكان ويلكم حريصا على الاهتمام بالتفاصيل، وأصر على أن تكون مواد بناء المختبر من أفضل الأنواع (مثل الأخشاب التي اختارها من خشب التيك الممتاز الذي أوصى بتخزينه تحت حرارة عالية لشهور عديدة حتى يناسب ظروف السودان الطبيعية).
وعند بلوغه مدينة لندن، شرع ويلكم في البحث عن مدير لمختبره بالسودان بمقدوره تحقيق ما يطمح لتنفيذه في السودان، وكتب أنه يريد أن يكون ذلك المدير "من الرجال الحاذقين المَهَرَة الذين يجيدون التعامل بحماس واخلاص مع كل شؤون إدارة وتسيير كل فروع العمل بالمختبر. وينبغي أن يكون ذلك المدير مستعدا ليهب حياته من أجل العمل في هذه المؤسسة".
وجد ويلكم ضالته عندما قابل شخصا مناسبا هو دكتور أندرو بالفور من جامعة أدنبرا (4)، كان صديقه دكتور سير باتريك مانسون الملقب بـ "أبو طب المناطق الحارة" قد رشحه له. وكان بالفور قد تخصص في طب المناطق المدارية (الحارة) على يد مانسون (الذي أسس في عام 1899م "مدرسة طب المناطق الحارة" بلندن، وكان من أكبر خبراء علم الطفيليات في العالم، وعمل في ذلك المجال في الصين وهونج كونج، وبحث في مسألة العلاقة بين البعوض ومرض الملاريا، التي أسس لنظريتها رولاند روس ونال عليها جائزة نوبل في مجال الفيزيولوجيا / الطب عام 1902م).
وكان بالفور يتحدث العربية (المبسطة للتخاطب)، وسبق له أن شارك في حرب جنوب أفريقيا. وغادر بالفور لندن متجها إلى الخرطوم لإنشاء مختبر ويلكم لأبحاث المناطق المدارية في 1902م، وهو في سن التاسعة والعشرين. وتسلم ذلك العالم الشاب فور وصوله الخرطوم وظيفته كمدير للمختبر، وعُين في ذات الوقت في وظيفة كبير مسؤولي الصحة، مما أتاح له نفوذا وسلطة (شبه) مطلقة لتنفيذ قرارته. وكانت من أهم إنجازات بالفور هي تقليل نسبة الوفيات في الخرطوم وحدها من 60 إلى 7 لكل 1000 شخص، وغدت الخرطوم واحدة من أفضل المدن الأفريقية والآسيوية في مجالي النظافة والصحة العامة (4). وقد حدث كل ذلك "في المستقبل"، بعد أن كان ويلكم قد ودعه بوليمة ضخمة أعلن عنها مسبقا في الصحف السيارة، وحضرها كبار الأطباء والعلماء في لندن (كان منهم بالطبع باتريك مانسون، ورئيس الجمعية الملكية، وستانلي، الذي أرهب وجوده في ذلك الحفل الشاب الصغير بالفور).
وكان بالفور قد نال درجة البكالوريوس في مجال "الصحة العامة"، وقدم لاحقا رسالته لنيل درجة الدكتوراه الطبية عام 1890م حول تلوث الأنهار بنفايات صناعة الأصبغة. وكان مجيدا للألعاب الرياضية في أيام الطلب بجامعتي أدنبرا وكمبردج، مما أكسبه طاقة وحماسة ورغبة في إنجاز أعماله بسرعة. وفي السودان وجد بالفور أن طاقم العمل في المختبر لا يتعدى ثلاثة أشخاص فحسب: مساعد فني مختبر بريطاني وعاملين سودانيين (أحدهما صبي صغير). وعند نهاية عام 1911م كان يعمل معه في المختبر تسعة من العلماء الأوربيين، وكتبة وبعض مساعدي المختبر من العمالة المحلية. ولم يكن هذا كافيا لبالفور، فحماسته لا تقل – بل تفوق في الواقع - حماسة ويلكم نفسه. لقد كان بالفور مهووسا بالعمل، ومفتونا بتخصصه العلمي الأثير، وشديد النشاط الفكري. غير أن محاولاته الأدبية (غير الناجحة) في كتابة الروايات الرومانسية لا يمكن أن تقارن البتة بإنجازاته العلمية والطبية الفذة. ومن السهل على المرء الآن أن يرى لم اختار ويلكم للعمل معه ذلك الشباب صاحب المواهب المتنوعة.
وكانت زيارة ويلكم لمصر قد أسفرت عن نتيجة أخرى هي مقابلته – للمرة الأولى – لمطران أوغندا الفرد تيكر. واستمع ويلكم لتيكر باهتمام، وأبدى إعجابه بما تقوم به إرسالية كنيسة إنجلترا في شرق أفريقيا من أعمال خيرية في مجالي التعليم والصحة. وتحدث مع المطران حول أعمال الأخوين ألبرت وهاورد كوك في المستشفى الصغير الذي افتتحاه في عام 1897م على الضفاف الشرقية لبحيرة فيكتوريا. وكان هاورد كوك قد اكتشف مرض النوم في تلك المنطقة، وسجل تقريرا عنه في الأدبيات الطبية. وكانت صيدلية ذلك المستشفى قد تدمرت تماما بحريق في عام 1900م. وتولى ويلكم إعادة بناء تلك الصيدلية من جديد وأثثها وظل يرسل لها الأدوية والمواد اللازمة الأخرى سنويا طيلة حياته.
وكانت من نتائج زيارة ويلكم للخرطوم أنه صادف في خلال رحلة عودته للقاهرة باخرة نيلية كبيرة تحمل على ظهرها عددا كبيرا من السيدات الإنجليزيات. وكانت إحداهن – لدهشته البالغة هي سيري بارنارود (5).
(أتى الكاتب على تفاصيل دقيقة لقصة زواج ويلكم من تلك الآنسة، وعن رفض والدها اقترانها برجل "أمريكي الأصل" ومريض ويكبرها بأكثر من عشرين سنة. وتوسع الكاتب أيضا فيما شاع بين الناس من أن
*************** *********** **********
ورد في الفصل التاسع من هذا الكتاب تحت عنوان "جامع للتحف وعالم آثار" ذكر لعمل ويلكم في مجال الآثار بالسودان. وسبق لنا ترجمة مقال عن أعمال الرجل في منطقة "جبل موية" (1):
عندما زار هنري ويلكم السودان للمرة الأولى في عام 1901م اكتشف سريعا وجود العديد من الفرص للبحث في مجال الآثار بالبلاد في عدة أماكن قام بزيارتها. وفي عام 1909م تم تعيينه في " لجنة الحفريات السودانية" بمعهد الآثار التابع لجامعة ليفربول الإنجليزية. وكانت تلك اللجنة– بقيادة بروفيسور جون قارستانق – قد قامت بنجاح كبير بالتنقيب عن الآثار بمصر، وكانت تأمل في أن تصيب مثل ذلك النجاح في السودان أيضا. وتكفل ويلكم بدفع ما يلزم من مال لتلك اللجنة (ولغيرها) لتبدأ العمل الآثاري في السودان، بل قاد بنفسه فرقة خاصة به للتنقيب عن الآثار بالسودان بعد عام 1910م.
كان ويلكم في صيف عام 1910م رجلا وحيدا ومحبطا وتعيسا. فقد كان رجلا ناجحا وواسع الثراء، غير أنه كان مثقلا بهموم مرضه، وزواجه الفاشل، وخلافاته مع بعض إخوانه، ووفاة عدد من أفضل أصدقائه في عمر باكر نسبيا. غير أنه بدأ، بعد انقشاع تلك السحابة الحزينة عن حياته وطلاقه من زوجه سيري، في استعادة حيويته، وأقام علاقات صداقة جديدة مع الكثيرين. وشرع يفكر في مغامرة جديدة في السودان (وكانت مُطَلّقتُه سيري تمقت - كما قالت –سفره لـ "تلك الأماكن"). وشجعه طبيبه على السفر للسودان، لأن طقسه الدافئ الجاف سيكون مفيدا لصحته. فبدأ في أول خريف عام 1910م في رحلة لمصر والسودان. وكتب في سبتمبر من عام 1912م لقسم الآثار بـ "الجمعية البريطانية لتقدم العلوم" في دنديي بإسكتلندا رسالة جاء فيها:
"قمت باستئجار "دهباية" في الخرطوم وسرت بها جنوبا على النيل الأزرق بقدر ما كان ممكنا، مستكشفا ما صادفني على شاطئيه الشرقي والغربي من مواقع استيطانية قديمة. وفي طريق عودتي توقفت في سنار، وسرت منها غربا في رحلة مضنية وبطيئة إلى منطقة بها سلسلة من تلال الجرانيت اسمها "جبل موية" تبعد نحو 25 كم من النيل الأزرق. وترتفع تلك التلال الصخرية عالية فجأة بين السهول، وتتكون من صخور وحواف ضخمة تنتشر بينها أشجار الأكاسيا والتبلدي والأبنوس. وتوفر بعض الآبار بين رُدُوب تلك التلال القليل من المياه المالحة. وعندما تجف تلك الآبار يجد سكان المنطقة إلى النيل الأزرق أنفسهم مضطرين إلى الرحيل بقطعان بهائمهم إلى النيل الأزرق حتى بداية موسم الأمطار التالي. وكان مرور سنوات طويلة من الجفاف الشديد والمجاعة قد أحدث الكثير من المعاناة والضيق للأهالي. وكانت هنالك قرية مبنية من أكواخ من القش في سهل المنطقة عند نهاية الجهة الشمالية لسلسة الجبال، عدد سكانها 800 فردا. وكانت تقطن بجوار تلك القرية عدة قبائل من الرحل مع قطعانهم".
وعثر ويلكم على موقع عَدَّه مهما وجعله مركزا له. غير أنه لقي عداءً شديدا من شيوخ المنطقة، واكتشف (بحسب زعمه. المترجم) أن القوى العاملة المحتملة بها تفتقر للمهارة، وتتلكأ في العمل، وتَنَزَّعَ إلى الإجرام والنزاع (خاصة عند احتسائهم لقدر كبير من "المريسة"). وأرتكب ويلكم الغلطة الأمريكية المشهورة بإعطاء عماله مرتبات كبيرة، مما زاد من طمعهم، وليس في ثقتهم فيه. وكانوا يقولون بأنهم يدينون بالإسلام، إلا أنهم لا يلتزمون بتعاليمه بصورة تامة (هكذا!؟ المترجم). وكان ويلكم قد قرأ القرآن ودرس بعض تعاليمه، وكان يستخدم نصوص أو معاني بعض الآيات عند نصحه لأهالي في المنطقة من أجل حثهم على وقف التنازع العنيف والشقاق الحاد بينهم. وكانت جرائم القتل شائعة في أوساطهم، مما دعا وينجت – وغيره - لنصحه بتوخي الحذر الشديد، إذ أن حياته ستكون في خطر حقيقي في تلك المنطقة.
واكتشف ويلكم عند رؤيته للموقع الأساس (جنوب سهل الجزيرة بين النهرين الأزرق والأبيض) لأول مرة، أن به أوانٍ فخارية قديمة وبعض الأدوات الحجرية ودلائل أخرى تشير إلى وجود بشري تليد. وحَسِبَ ويلكم أنه اكتشف موقعا من عصر قديم ما قبل التاريخ، بل كتب في 1912م مطالبا بـ "مواصلة البحث هنا عن المكان الحقيقي للميلاد البشري"، وتساءل إن كانت رمال أرض الألغاز هذه "لا تزال تخفي في أعماقها الإجابة عن اللغز الأبدي لبدايات الإنسان ... وتسجل أول بداية خطواته على طريق المعرفة". وكان عمدة المنطقة يعد بمساعدة ويلكم ولكنه ظل مُتشكَّكا ودَائِبا على وضع العوائق في طريقه. ولذا بدأ ويلكم عمليات الحفر والتنقيب في المرحلة الأولى بإثني عشر رجلا وبعض الصبية. ثم تقدم لحكومة السودان بتكليفه رسميا بتلك المهمة، وحصل بالفعل على الموافقة. غير أن فرانك أديسون ناقض في عمل نُشر في 1949م مزاعم ويلكم من أنه هو من أكتشف بنفسه ذلك الموقع، وذهب إلى أن حكومة السودان كانت قد قدمت لويلكم كل المعلومات المتوفرة آنذاك عن ذلك الموقع المعروف (وغير المنقّب) عندما طلب ويلكم من الحكومة التصريح له بالتنقيب (6). غير أن هذا لا يعني بالطبع أن ويلكم لم يقم باختيار "جبل موية" بنفسه.
لقد كان ويلكم شديد الاهتمام بعلم الآثار وبتلك المنطقة، غير أنه لا يمكن أن يُعد بأي حال من الأحوال سوى رجل ثري وهاوٍ. ولكن يجب أيضا الإقرار بأن الأثرياء الهواة قد ساهموا بقدر كبير في تقدم علم الآثار الحديث.
لقد توصل ويلكم لنتائجه بسرعة شديدة، ومن دون توجيه أو إرشاد من متخصصين، ومن غير فحص مهني لما وجده ملقيا على الأرض. وتم لاحقا التأكد من أن ذلك الموقع هو من بقايا أواخر العصر الحجري الحديث. ورغم أنه موقع مثير للانتباه ولا يخلو من بعض الأهمية، إلا أن اكتشافه ليس بالأمر المثير ولا الجديد أو غير المألوف كما خلص ويلكم في فحصه السريع المتعجل نحوا ما. ولم يقتنع ويلكم قط بآراء منتقديه وبما وضعوه أمامه من أدلة. كان يقول بأنه شديد الثقة بأنه لو قدر لرجاله أن يحفروا لأعماق أكبر في ذلك الموقع، وأن يحفروا أيضا في مواقع قريبة منه لكان قد وجد – أخيرا – آثارا أكثر وأقيم، ولنال شهرة تماثل الشهرة التي حظي بها كبار علماء الآثار من أمثال هينريش شيليمان وجونز إيفانز.
وللمرة الأولى، يخفق ويلكم في مسعاه، رغم كل ما أنفقه من مال واهتمام شخصي وتنظيم في مشروعه العظيم. ولكن إن تمخض مشروع "جبل موية" عن خيبة أمل كبيرة من ناحية آثارية، إلا أنه قصته تظل في غاية الأهمية في حياة هنري ويلكم.
******** ******** **********
إشارات مرجعية
(1) انظر المقال المترجم بعنون: "حول أعمال هنري ويلكم في جبل موية" shorturl.at/bgqY1
(2) "من تاريخ الخدمات الصحية بالسودان في العشرين عاما الأولى" shorturl.at/cdsL5
(3) انظر على سبيل المثال لمقال ميشيل غردون المترجم بعنوان " مُشَاهَدَة العنف في الإمبراطورية البريطانية: تَصاوير فظائع معركة أم درمان، 1898م" https://tinyurl.com/y27ajv8r
(4) انظر للمقال المترجم بعنوان "الخرطوم: إعادة بناء مدينة استعمارية صحية 1899- 1912م"، والذي ورد فيه ذكر لدكتور أندرو بالفور مدير مختبر ويلكم بالخرطوم. https://tinyurl.com/y44knm9m
(5) سيري بارنارود (1879 – 1955م) هي مهندسة ديكور / تصميم داخلي. التقت بهنري ويلكم في الخرطوم إبان زيارة لها للسودان في رفقة والدها. وتزوجها ويلكم عام 1901م، وعمره 48 عاما، وهي "بنت عشرين"، وطلقها في عام 1915، لتتزوج بعده الروائي البريطاني الشهير سومسرت موم.
(6). وردت هذه المعلومة في:
Frank Addison. The Wellcome Excavations in the Sudan, vol 1. Jebel Moya (oxford University Press, Oxford, 1949), p.2.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء