مقدمة لكتاب “السودان في طريق التطور” لبيرسي مارتن

 


 

 

مشروع الترجمة التنويري الذي تبناه الباحث المتمرس بدرالدين الهاشمي يلعب دورا كبيرا في رفد المكتبة السودانية ببعض النصوص والمخطوطات المنشورة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ظل الإدارة البريطانية للسودان بالنصف الأول للقرن العشرين. تلك النصوص ظلت إما مجهولة أو متداولة فقط بين قلة من الباحثين بسبب حاجز اللغة التي نشرت بها. أهمية المشروع أنه يتيح بيانات ومخطوطات مباشرة وأصيلة يمكن أن تسهم في إعادة كتابة وتأويل وتفسير تاريخ السودان خلال حقبة الإدارة البريطانية. ومشروع الهاشمي يمكن فهمه وتبريره في ضوء بعض الانتقادات الجوهرية للمصادر التاريخية والأدبيات المنشورة حول التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها القارة الأفريقية.
الانتقاد الأول للمصادر التاريخية أشار إليه المؤرخ البريطاني (أنتوني هوبكنز) عندما نشر مقالا بعنوان "البنك الدولي في أفريقيا: تأملات تاريخية عن الحاضر الأفريقي" في مجلد "مجلة التنمية العالمية" لعام 1986. تشكك المقالة بشكل أساسي في القاعدة المعرفية التي استند عليها تقرير البنك الدولي، المعروف باسم "تقرير بيرج Berg Report"، لعام 1981، بعنوان "التنمية المتسارعة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: برنامج عمل" . من العبارات الملهمة في مقالة أنتوني، ما يلي: "القليل من المعرفة يعزز التعميمات السهلة، والكثير منها يَشَلُّ العقل". لا يوجد إرث معرفي تنطبق عليه تلك المقولة أكثر من الكتابات التاريخية عن السودان خاصة المصادر المنشورة حول حقبة الإدارة البريطانية. في الواقع، إن معظم الأدبيات المنشورة حول تاريخ السودان في تلك الفترة إما تستند إلى القليل من المعرفة وبالتالي فهي معيبة مع الكثير من التعميمات التي لا أساس لها من الناحية التجريبية والمشوهة للتاريخ أو مليئة بالعديد من الكتابات المتناقضة التي تقوم على تحريف الواقع الموضوعي ليتناسب مع الانحياز الأيديولوجي المسبق للكاتب. هذا الوضع يثير شكوكاً خطيرة بشأن الدور المحتمل للكتابات التاريخية المتاحة في توفير قاعدة معرفية متينة لفهم وتفسير الحاضر الأمر الذي لا غنى عنه في عملية التكهن بالمستقبل.
السنوات الأولى للإدارة البريطانية ربما تكون الفترة الأكثر صعوبة للتعامل معها في أي نقاش حول تاريخ السودان. المصادر المكتوبة ليست نادرة فقط، ولكن ما هو متاح يعكس، بطبيعة الحال، المصلحة السياسية لمنشئيها، وبالتالي يمكن اعتبارها جزئية في تسجيل الأحداث وتفسيراتها. ومن ناحية أخرى، هناك السناريوهات التي تم كتابتها أو جمعها بشكل أساسي من المواد الأرشيفية التي تم إعدادها، من قبل المسؤولين البريطانيين في ذلك الوقت. كانت هذه تهدف بشكل أساسي لأسباب دعائية ليس فقط لتبرير إعادة احتلال السودان ولكن، الأهم من ذلك، إعداد الرأي العام الأوروبي لقبول مثل هذا الغزو. مثال نموذجي لمثل هذه الروايات نوه إليه مارتن دالي، الذي كتب: "في دعايته، كمدير لمخابرات الجيش المصري، صور ونجيت الدولة المهدية على أنها واحدة من أكثر الأنظمة دموية في التاريخ، تميزت بالمذابح والأوبئة، ولعنات أخرى من السكان: كان من واجب بريطانيا الأخلاقي إنقاذ أولئك الذين بقوا على قيد الحياة " .
ومن ناحية أخرى، هناك تلك السيناريوهات "السلبية"، التي كتبها بشكل رئيسي علماء سودانيون معاصرون وغير سودانيون، وبشكل عام، حفزها ما وصفه جيمس سكوت بأنه "الرومانسية الأكاديمية اليسارية مع حروب التحرير الوطني" . وهكذا، في تلك الكتابات، تُمجَّد ثورة ود حبوبة وثورة 1924 وحركة الخريجين ليس فقط على أنها ثورة حقيقية ضد قوة إمبريالية أجنبية، ولكن الأهم من ذلك أنها ثورات "حقيقية" قامت بتفكيك جميع رموز القمع والاستغلال والهيمنة "الطبقية".
إن الدخول في نقد مقارن مفصل لهذين النوعين من الكتابات عن حقبة الإدارة البريطانية في السودان خارج نطاق هذا التقديم. ومع ذلك، فإن تعليقًا موجزًا سيكون كافيًا لغرض سبر غور المغزى الفكري التنويري من مشروع الترجمة للهاشمي. لا أحد يجادل في الأغراض الدعائية للسناريوهات التي كتبها الإداريون الاستعماريون لتبرير إعادة غزو السودان. في الواقع، كانت تلك الكتابات المرحلة الأخيرة فقط في خطة طويلة المدى نسبياً، حيث تم استخدام الآليات السياسية والاقتصادية بهدف إضعاف الدولة الوطنية، وبالتالي تمهيد الطريق لتبرير إعادة فتح السودان. وبالمثل، لا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أن الحركة الوطنية السودانية كانت ثورة ضد قوة أجنبية وإمبريالية، وأن المثقفين، بصفتهم المجموعة الاجتماعية الأكثر تنويرا، لعبوا دورًا رئيسيًا في تحقيق حلم الاستقلال عن الإدارة البريطانية. وما هو مرفوض هو أي دعوة لتأييد موقف واحد، وبالتالي رسم صورة رمادية أو مشرقة للإدارة البريطانية في السودان. أي من الصورتين لن تكون أكثر من تشويه للتاريخ. كانت الإدارة البريطانية في السودان، مثل أي دولة أخرى، مزيجًا من الحظوظ والمصائب التي يجب فهمها في سياقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بها بدلاً عن قراءتها من روايات محددة سلفًا.
الانتقاد الثاني للمصادر التاريخية نوه له في عام 1980عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي چان كوبانز عندما نشر مقالا بعنوان "من سنغامبيا إلى السنغال: تطور الفلاحين" في نسخته الانجليزية . تصدرت المقال العبارة الملهمة التالية: "التاريخ هو تاريخ الجماعات المهيمنة ومؤسسات السلطة ... إنه يخبرنا القليل عن طبيعة النظام الإنتاجي، والكيفية التي يعمل بها، وتطوره"، أي أن التاريخ المكتوب يركز على سيرة الأقوياء في المجتمع مع تجاهل كامل للحياة اليومية للسواد الأعظم من أفراد الجماعات والمجتمعات. هذا التوصيف ينطبق تمامًا على المصادر التاريخية المعروفة حول السودان. كانت السمة المشتركة لهذه الكتابات، هو التركيز المفرط على ما وصفه طلال الأسد بأنه "... بحث عن أصول الأقسام الفرعية المختلفة التي تشكل قبيلة معينة اليوم" . هذا القصور يمكن إرجاعه إلى اعتماد المؤرخين على الإفادات الشفاهية التي تمجد الحكام والزعماء بدلا عن البحث في الوثائق الشخصية والرسمية التي تتناول الحياة اليومية للأفراد العاديين بكل تفاصيلها وتعقيداتها.
مشروع الترجمة للهاشمي يقوم على فكرة أن الإدارة البريطانية في السودان تركت خلفها العديد من الوثائق الشخصية والرسمية، منشورة وغير منشورة، تعتبر مصدراً قيماً للمعلومات التاريخية العامة، التي يمكن أن تكون مفيدة كنقطة انطلاق لدراسة وإعادة كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للسودان في النصف الأول القرن العشرين.. تلك المواد الأرشيفية تتناول التنظيم الاجتماعي والاقتصادي في السودان والتغيرات التي طرأت عليه، بشكل أكثر عمقا وتفصيلا من الكثير من الكتب المنشورة حول تاريخ السودان.
وترجمة كتاب بيرسي مارتن يمكن النظر إليه كإضافة مقدرة لمشروع الهاشمي التنويري. هذا عمل كبير من حوالي 550 صفحة في نسخته الإنجليزية الأصلية. الكتاب يتناول بالتفصيل السنوات الأولى للإدارة البريطانية في السودان، الإجراءات الصارمة لاختيار وتأهيل من يقع عليه العمل في السودان، ويقدم ملاحظة قصيرة عن كل مديرية من المديريات. المخطط العام للكتاب مثير للإعجاب، لكن التنفيذ اعترته بعض الأخطاء التي لا تقلل من قيمة الكتاب، خاصة وأن المترجم أشار إليها بدقته المعهودة. الدقة في مثل هذه الكتابات شيء مهم، على الرغم من أن المؤلف حاول تحصين عمله من النقد من خلال الإشارة إلى أن نشر العمل تأخر بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلا أن الأخطاء في الكتاب لا ترجع إلى أن الكثير من المعلومات صارت قديمة في وقت النشر، بل هي أخطاء متوقعة نتيجة للمشاهدات الانتقائية في فترة وجيزة نسبيا مع صعوبة التحرر من مأزق "التمركز الثقافي" والذي يقوم على تفسير وتأويل المشاهدات من وجهة نظر المراقب (المؤلف)، بدلا عن تبنى نهج "النسبية الثقافية" والذي يتند إلى تفسير وتأويل المشاهدات من وجهة نظر الفاعل.
إن مشروع الهاشمي التنويري ينبغي النظر إليه في سياق أشواق وأحلام المؤرخين والتي تؤكد على أهمية أن تكون توصيفات الناس والأحداث الماضية، وتأويل الموضوعات التاريخية، وتفسيرات التغييرات التاريخية منصفة وغير مضللة. في بعض الأحيان تكون الروايات غير العادلة للماضي هي نتيجة تحيز المؤرخين، وتفضيلهم لرؤية واحدة على حساب الرؤى الأخرى لأنها تتوافق مع مصالحهم واهتماماتهم. ومن المفيد تمييز التاريخ المضلل عن طريق الصدفة عن ذلك الناتج عن التحيز الشخصي؛ والتمييز بين التحيز الشخصي والتحيز الثقافي والنسبية الثقافية .
******
دكتور مصطفى أبو شيبة
مسقط – عمان
27 يونيو 2020

alibadreldin@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء