مناهضة جار مسيحى: تصورات السودانيين عن إثيوبيا (الحبشة) فى عهود المهدية الأولى .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Confronting a Christian Neighbor: Sudanese Representations of Ethiopia in the Early Mahdist Period
Iris Seri – Hersch أيريس سيري – هيرش
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة (بتصرف) لبعض ما ورد في مقال من عشرين صفحة عن الصراع بين السودان في بواكير عهده المهدوي وبين إثيوبيا من وجهة نظر المخيلة السودانية، نشر في العدد الحادي والأربعين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط العالمية Inter J Middle East Studies" الصادرة عام 2009م.
ويفضل الكثيرون فى الكتابة التاريخية بالعربية بصفة خاصة الإشارة لإثيوبيا بالحبشة، فهي الاسم القديم الذي عرفه العرب والعربية، ولم تعرف لدى الغرب والرحالة إلا أنها " Abyssinia ابسينيا"، ولكنا هنا التزمنا بما ذكرته الكاتبة.
وتخصصت كاتبة المقال في التاريخ الحديث للسودان وفلسطين / إسرائيل، وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عددا من الأوراق المنشورة في عدد من الدوريات العالمية. وتعمل الآن أستاذة مساعدة في جامعة مارسيليا بفرنسا.
أشكر المؤلفة على إرسالها لي بعض مقالاتها المنشورة.
المترجم
********** ********* ************
"أمر الزاكي (طمل) رجاله بإخراج جثة يوحنا (يوهانس / يوحَنس) من الصندوق. ولما أخرجوها، أمرهم بقطع الرأس وتعليقه فوق حَرْبَة طويلة، ففعلوا. وفرح الأنصار فرحا شديدا بذلك الانتصار، والذي سيظل وساما يعلق على رايات الجيوش الإسلامية لقرون قادمات".
كان ذلك هو ما سجله المؤرخ الإخباري (chronicler) للمهدية إسماعيل بن عبد القادر عن أهمية التأثير الشامل الذي أحدثته هزيمة الأنصار للجيوش الإثيوبية بالقلابات في مارس من عام 1889م (لعل القلابات هي "المتمة" بإثيوبيا الحالية. المترجم). وتوج ذلك الانتصار بمقتل الإمبراطور يوحنا الرابع، وانتهت بذلك أربع سنوات من المواجهات بين السودان المهدوي وإثيوبيا المسيحية (1885 – 1889م). وبقيت لتلك المواجهات، مع ذلك، تداعيات تخطت المحيط المحلي، وتعدته لتصل إلى ذلك التاريخ المتشابك للسودان وإثيوبيا والإمبريالية الأوربية في وداي النيل ومناطق البحر الأحمر.
ولم تحظ العلاقات السودانية – الإثيوبية في المشهد التأريخي في صدر عهد المهدية باهتمام كبير من الباحثين. واكتفى هؤلاء ببعض الدراسات القليلة في تاريخ العلاقات العسكرية والسياسية في تلك الفترة. وسأحاول هنا تناول هذا الجانب التاريخي حول مفاهيم ومواقف المهدويين من إثيوبيا المسيحية عن طريق مقاربة المسألة بدراسة التصورات (representations). وللكلمة معنيان متميزان في سياق هذه الدراسة: التصورات باعتبارها غاية (object)، والتصورات بحسبانها أداة من أدوات التاريخ. ويتناول هذا المقال هذه الأسئلة الحيوية: كيف صور عالم مهدوي العلاقات السودانية – الإثيوبية، ولأي غرض؟ وهل كان الحكام السودانيون يوافقونه في تلك الأفكار؟ وإلى أي حد تعكس تلك الأفكار الممارسة الحقيقة في التعامل مع إثيوبيا المسيحية.
قمت بتطبيق تلك الأسئلة بين عامي 1885 – 1895م، مركزة على المناطق الحدودية الممتدة من نهر أتبرا إلى النيل الأزرق. وكانت تلك المنطقة مسرحا رئيسا للصدام بين المهدويين والإثيوبيين في كثير من المصادر الأولية والثانوية (فعلى سبيل المقال تعرضت قوات الأمير عثمان دقنة في يوم 23 سبتمبر1885م لهزيمة ساحقة من الإثيوبيين في معركة "كوفيت Kufit"، التي تقع الآن في إرتريا الحالية). فبالإضافة إلى كتابات عبد القادر، فقد اِطَّلَعَت على أرشيف دار الوثائق القومية بالخرطوم، وكتابات الأجانب الرحالة الذين سافروا للسودان وأثيوبيا أو عاشوا فيهما في غضون سنوات المهدية، بالإضافة إلى كتابات المؤرخين، خاصة من السودانيين من أمثال محمد إبراهيم أبو سليم ومحمد سعيد القدال.
من الألفية الثورية إلى بناء الدولة
لقد أنهت الثورة التي قادتها الحركة المهدوية بين عامي 1881 و1885م ستين عاما من الحكم المصري – التركي، وحقق قائدها محمد بن عبد الله، الذي زعم أنه "المهدي المنتظر"، انتصارات عسكرية وسياسية سريعة ضد النظام القائم بفضل الدعم الواسع الذي وجده من مختلف قطاعات المجتمع السوداني. وكان الحكم المصري – التركي مبغوضا من الكثيرين لطبيعته الأجنبية، ولاعتماده على الإداريين المسيحيين (مثل صمويل بيكر وشارلس غردون)، ولسياسته المالية القمعية المتعسفة، ولبذله الجهود من اجل فرض الإسلام "الأزهري" على السودانيين، ولمحاولته كبح تجارة الرقيق بالسودان (هنالك اختلاف كبير بين المؤرخين الغربيين والسودانيين في اعتبار أن كبح تجارة الرقيق كان أحد أسباب الثورة المهدية. انظر على سبيل المثال المقالات المترجمة " تجارة الرقيق في السودان في القرن التاسع عشر ومنعها بين عامي 1877 – 1880م، و "الرق المنزلي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في شمال السودان" و"مواقف مهدي السودان حيال الرق وتحريره". المترجم).
وتعد أعوام 1881 – 1885م هي سنوات التكوين لدولة المهدية. فقد بسطت الحركة الثورية سيطرتها على مساحات شاسعة من أرض السودان، وهي في مرحلة تحول إلى "جهاز دولة". وحول فتح الحركة المهدوية للخرطوم في يناير 1885م عاصمة الحركة من "جبل قدير"، تلك المنطقة الريفية الهامشية، إلى الخرطوم، حيث مركز سيطرة الحكم التركي – المصري القوي. كذلك طورت المهدية من عملية المؤسّساتيّة / بناء الأنظمة (institutionalization)، خاصة في المجالات الإدارية والعسكرية والمالية والقضائية، وركزت كل سلطات اتخاذ القرارات في يد المهدي. وقام المهدي بالفعل بإلغاء كل الطرق الصوفية، وأبطل العمل بكل المذاهب الإسلامية، ولم يعترف بغير السنة، والقرآن، والإلهام (الحضرة النبوية في اليقظة والمنام) بحسبانها مصادر التشريع الوحيدة التي يعمل بها في دولته (انظر المقال المترجم "منهجية المهدي القانونية". المترجم). واندلعت حركات تمرد في دارفور وعلى الحدود السودانية – الإثيوبية، حملت معظمها إيحاءات عيسوية. وعِلاوة على كل تلك المهددات الأمنية والمصاعب السياسية، ضربت البلاد مجاعة مدمرة بين عامي 1889 – 1890م، كان لها آثار دراماتيكية بالغة في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسكان.
وعلى الصعيد الخارجي حافظت الدولة المهدية على علاقات متوترة مع جارتيها مصر وإثيوبيا. فقد شكلت الأولى هدفا رئيسا لطِمَاح المهدية التوسعي في المنطقة. ورغم أن المهدي كان يخطط لغزو جارته الشمالية، إلا أن ذلك لم يبدأ إلا في عام 1889م بسبب العديد من الصعوبات المادية والسياسية. وأوقعت القوات المصرية – البريطانية هزيمة ساحقة على القوات السودانية التي سيرت شمالا في معركة توشكي الشهيرة (3 أغسطس 1889م)، وأنهت بذلك الطموحات المهدوية في احتلال مصر.
ترسيخ نظام ملكي
بينما كان الخليفة عبد الله قد أكمل تحويل الحركة المهدوية إلى شكل دولة، كان يوحنا الرابع (1872 – 1889م، الذي منح نفسه لقب "ملك ملوك إثيوبيا" و"مختار الرب" و"ملك صهيون") يعمل على توحيد أقاليم أثيوبيا كإمبراطورية واحدة، وهو سعي كان قد ابتدره سلفه تيودورز الثاني (1855 – 1868م). وفضل يوحنا العمل في سبيل ذلك التوحيد طبقا لسياسة "Controlled regionism"، وهو ما أدى لتنازل قائدين محليين كبيرين عن السلطة، وهما منيليك (في منطقة شوا) بتاريخ مارس 1878م، وآدال (في منطقة قوجام) بتاريخ أكتوبر 1874م. وكان لعملية توحيد المملكة أبعاد دينية عميقة، نتجت عنها اتخاذ سياسات للتنصير (بالجملة) لأعداد كبيرة من السكان.
وفي شهري مايو ويونيو من عام 1878، اجتمع يوحنا الرابع بمجلسه في بورو ميدا (Boru Meda) حيث أعلنت عقيدة "توحيدو" / التوحيد (Tewahedo creed) عقيدة رسمية للمملكة، بينما شجبت وانتقدت بشدة طوائف الهرطقة المسيحية (Christian heretical sects). ولم يخاطب المرسوم الملكي في ذلك الشأن مسيحيي إثيوبيا فحسب، بل شمل الأمر الملكي ضرورة تنصَّر المسلمين والوثنيين واليهود والقالا (Gallas/ Galla) المعروفين بأبناء الأورومو (غالب هؤلاء مسلمين. المترجم)، وإلا تعرضوا للنفي من بلادهم. وقبل زعيمان من زعماء المسلمين في إقليم وَلّو Wallo (بشمال شرق إثيوبيا، وعاصمته دييسي. المترجم) وهما أمادي لبان ومحمد علي التحول للديانة المسيحية، وغير الأول منهما اسمه وتم تعميده هايلي مريم ومنح لقب dajjazmach، بينما سمي الآخر "راس ميكاييل"، ومنح أراض شاسعة في مرتفعات وَلّو الوسطى. وبذا يمكن القول بإن التحول والالتزام بالديانة الرسمية (للمملكة الإثيوبية) كان شرطا ضروريا للتقدم في سلم التراتبية السياسية والعسكرية الإثيوبية.
وتضمنت سياسة يوحنا الرابع التنصيرية بناء العديد من الكنائس في وَلّو، ومنع المسلمين من دخول مدينة أكسوم (على سفح جبال عدوة شرق إقليم تجراي. المترجم) ومصادرة كل الكتب الإسلامية. وذكر القس جون سبنسر ترمنجهام في كتابه "الإسلام في إثيوبيا" بأنه ما أن حل عام 1880م حتى كان نحو 50,000 من المسلمين، و20,000 من "الوثنيين" و500,000 من القالا قد أجبروا على التحول للمسيحية. وتفاوتت تفاعلات المسلمين في وَلّو بسياسة التنصير القسري تلك. فقد قبل معظم زعمائهم بالتحويل لدين الملك حتى يحافظوا على مواقعهم القيادية، بينما تنصَّر آخرون ظاهريا، وكتموا إسلامهم وظلوا يمارسون شعائرهم سرا. وهاجر آخرون (بدينهم) جنوبا أو غربا للسودان، وقاوم بعضهم تلك السياسة عسكريا في مرات عديدة.
وعلى الصعيد الخارجي، فقد كان توحيد إثيوبيا عرضة لخطر الغزو المصري والأوربي، إذ جلب افتتاح قناة السويس في عام 1869م القوى الأوربية إلى البحر الأحمر. وكذلك رغب الخديوي إسماعيل (1863 – 1879م) في التوسع صوب السودان وإثيوبيا. فقام باحتلال منطقة بوقوس Bogos (والتي تسمى أيضا سنهيت Senhit، وهي بإريتريا الحالية) في عام 1872م، واحتلال مدينة هرر عام 1875م. وأفلح يوحنا الرابع في سحق طموحات المصريين والأتراك عندما انتصر عليهم في معركتين في قندت وقورا بين عامي 1875 و1876م. غير أن الفرنسيين والإيطاليين نجحوا في احتلال أجزاء من الشواطئ الإثيوبية الشرقية في "أوبوك" و"عصب"، على التوالي، وخططوا لمزيد من التوسع المستقبلي في داخل أراضي إثيوبيا. وفي أخريات سبعينيات القرن التاسع عشر كانت سلطة الإمبراطور قد بلغت ذروتها، فقد هزم منافسيه على السلطة، ونصَّر كثيرا من أفراد شعبه المسلمين، وانتصر على المصريين والأتراك الذين حاولوا غزو بلاده. غير أن وقوع تغيرات استراتيجية عديدة بالمنطقة في ثمانينات القرن التاسع عشر، مثل قيام ثورة المهدي، واحتلال بريطانيا لمصر، وضعت أمام يوحنا الرابع الكثير من التحديات التي هددت وجوده الشخصي والسياسي. وحل الحكم المهدوي المتشدد محل مصر في قائمة خصومه عند حدود بلاده مباشرة. وسهل تزايد الوجود البريطاني في حوض النيل والبحر الأحمر على الإيطاليين النفاذ إلى الجزء الشرقي من إثيوبيا. وشكلت سنة 1885م نقطة تحول في تاريخ حكم الإمبراطور يوحنا الرابع. ففي ذلك العام سيطرت إيطاليا على ميناء ومدينة مصوع باتفاق ضمني مع بريطانيا (3 فبراير 1885م)، واندلع صراع مسلح بين السودان وإثيوبيا. وزاد تمرد القائد المحلي منيليك الطين بلة، فغدا موقف يوحنا الرابع السياسي أكثر حرجا وأقل أمانا.
دور الإمبريالية الأوربية في الصراع بين السودان وإثيوبيا
عجلت معاهدة هويت التي أبرمت بين إثيوبيا وبريطانيا العظمى في 3 يونيو 1884م بتأجيج الصراع السياسي والعسكري بين السودان وإثيوبيا (معاهدة هويت أو معاهدة عدوة هي معاهدة من سبعة بنود عقدت في عدوة بين إثيوبيا من جهة، وبين مصر وبريطانيا من جهة أخرى. وقد أنهت تلك المعاهدة صراع إثيوبيا مع مصر، ولكنها أشرعت الأبواب لصراع إثيوبيا مع إيطاليا. المترجم). وفي تلك المعاهدة التزم يوحنا الرابع بالمساعدة في إخلاء الجيش المصري – التركي من حدوده الغربية. وفي المقابل استرد الإمبراطور إقليم بوقوس، وتلقى وعودا بالسماح له باستخدام ميناء مصوع، وبتلقي بعثة تبشيرية من قساوسة الإسكندرية، وبوساطة بريطانية لتسوية خلافاته مع خديوي مصر.
وكان من نتائج / مُخْرَجات تلك الاتفاقية أن وجد جنود يوحنا الرابع أنفسهم يحاربون القوات المهدية في كسلا، وفي المناطق بين نهري أتبرا والنيل الأزرق. وسقطت في غضون تلك المعارك بين عامي 1884 – 1885م ثلاثة مراكز تتبع للحكومة المصرية – التركية في أيدي القوات المهدية هي القضارف والقلابات والجيرة.
وبدأت في مارس 1885م هجمات متبادلة على طول الحدود السودانية - الإثيوبية بين قوات المهدية وجيش يوحنا الرابع. وقتل في إحدى تلك المعارك بالقلابات آلاف الأنصار كان منهم القائد المهدوي محمد ود أرباب في يناير من عام 1887م. وقام يونس ود الدكيم، الذي خلف محمد ود أرباب في القلابات، باستفزاز الإثيوبيين بأسره لقافلة تجار إثيوبيين، وأرسلهم لأم درمان بحسبانهم أسرى حرب. ولتعزيز موقف القوات المهدية في الشرق أمر الخليفة عبد الله الأمير حمدان أبو عنجة بترك موقعه في جبال النوبة والتوجه للقلابات ليكون بجانب الأمير يونس ود الدكيم. ولكن مع وصول حمدان للقلابات في ديسمبر 1887م دبت الخلافات السياسية والدينية بين الأميرين، خاصة عند ظهور رجل في أوساط الجيش المهدوي في القلابات اسمه آدم محمد، أدعى النبوة، ونجح في جمع عدد من الجنود حوله. وأبلغ حمدان أبو عنجة الخليفة بالأمر، فأمر بقتل الرجل ومن آمن به. ولم يكن يونس ود الدكيم قد قام بما يلزم لكبح جماح تمرد ذلك المتنبئ، فاستدعاه الخليفة لأم درمان، وثبت حمدان أبو عنجة مكانه.
وأفلح حمدان أبو عنجة في العام الذي قضاه أميرا على تلك المنطقة في القيام بحملتين ناجحتين في داخل الأراضي الإثيوبية، الأولى في يناير 1888م على تكلا – هامينوت، والثانية على اقليم بلايسا شرق بحيرة تانا في يونيو 1888م. غير أن وفاة حمدان أبو عنجة المفاجأة في يناير 1889م أحدثت بعض الارتباك في صفوف المهدويين، إلى أن تم تعيين قائد (من قبيلة الخليفة أو من جماعة المنضلة من جنوب دارفور) هو الزاكي طمل. وقرر يوحنا الرابع الهجوم على القلابات في التاسع من مارس 1889م، ونجح بالفعل في دخول المدينة، وكاد يسيطر عليها، إلا أن رصاصتين (في يديه وصدره) أصابتا الإمبراطور فخر صريعا. وأربك ذلك الجنود الإثيوبيين فولوا الأدبار، وتحول نصرهم لهزيمة ماحقة. وغنم الأنصار الكثير مما خلفه جنود يوحنا الرابع، وكانت الغنيمة الكبرى هي مقتنيات الإمبراطور من خيول وأسلحة وتاج. وظلت معركة القلابات هي إحدى أهم معالم الصراع بين الدولة السودانية في عهد المهدية وإثيوبيا. غير أن العلاقات بين الدولتين بدأت في التحسن التدريجي في تسعينيات القرن التاسع عشر إلى أن تم توقيع اتفاقية سلام بينهما في عام 1897م. وعلى الرغم من محدودية الأراضي التي دارت فيها المعارك بين إثيوبيا (في عهد يوحنا الرابع) والسودان (في عهد الخليفة عبد الله) بين 1885 و1889م، إلا أن تلك المعارك كانت ذات آثار استراتيجية مهمة في المنطقة بأكملها. فقد عنى مقتل يوحنا الرابع نهاية التقراي كمركز سياسي في إثيوبيا، وتحول السلطة للشوا (Shewa) مع استيلاء منيليك على عرش الإمبراطورية، واقراره لسياسة مهادنة مع السودان. كذلك نتج عن تلك الصراعات السودانية – الإثيوبية تقدم القوات الإيطالية في الأراضي الإثيوبية بسبب غياب الإمبراطور ووكيله "الولا" عن جبهة الشرق الإثيوبية. وأدى توغل القوات الإيطالية بشمال شرق إثيوبيا وعقدها لمعاهدة ويشالي في الثاني من مايو 1889م (كانت تلك المعاهدة – بحسب ما جاء في موسوعة الويكيبيديا - بين منيليك الثاني والقائد الإيطالي بيدرو انتونيلي، تنازل فيها منيليك عن أراض إثيوبية للإيطاليين، وغدت فيما بعد مستعمرة إرتريا الإيطالية في يناير من عام 1890م. المترجم). وبذا يمكن القول بأن إيطاليا كانت الرابح الأول من الصراع السوداني – الإثيوبي. فقد خسرت إثيوبيا بسبب ذلك الصراع الكثير من أراضيها، ووجد سودان المهدية نفسه معرضا لهجمات القوات الإيطالية.
"الطراز المنقوش ببشرى قتل يوحنا ملك الحبوش": تطريز أدبي مادح مقدم للخليفة
بدا جليا أن الصراع الإثيوبي – السوداني كان أحد أهم اهتمامات الخليفة عبد الله. وكان الرجل يرغب في أن يتم تسجيل وقائع تلك المعارك رسميا، وأن توزع على كل من يقرأ في بلاده. وأسند أمر ذلك لإسماعيل بن عبد القادر (1844 – 1897م)، الذي سبق له تأليف كتاب عن حياة المهدي وسنوات المهدية الباكرة (المقصود هو كتاب "سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي"، الذي حققه ونشره بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم عام 1982م. المترجم). وأكمل إسماعيل بن عبد القادر المهمة بعد ثلاثة أشهر من معركة القلابات.
والكاتب هو إسماعيل المفتي الكردفاني بن عبد القادر، والذي ولد بالأبيض ودرس بالأزهر لاثني عشر عاما، عمل بعدها مفتيا لكردفان في العهد المصري – التركي، ثم انضم للمهدي في سبتمبر من عام 1882م (لأسباب مجهولة، كما تقول الكاتبة. المترجم). ثم استقر بأم درمان بعد سقوط (فتح) الخرطوم في يناير من عام 1885م، وتولى القضاء في عهد الخليفة، الى أن فسدت علاقاتهما (لأسباب مختلف عليها) فنفاه للرجاف في أغسطس من عام 1893م حيث توفي هنالك بعد سنوات قليلة.
وأمر الخليفة بحرق كل نسخ كتب الرجل الأدبية والتاريخية والعلمية بعد نفيه. كيف لنا أن نفسر ذلك، خاصة وأن المؤلف مدح الخليفة في مواطن كثيرة في كتاب الطراز؟ ربما يكون للأمر علاقة برغبة منيليك الثاني في تحسين علاقته بجارة دولته الغربية، ورغبة الخليفة في محو آثار كل دعاية مناهضة لإثيوبيا في بلاده. ويمكن أن يكون السبب هو تمجيد كاتب الطراز لغير الخليفة، مثل بعض قادة جيش المهدية الذين كان الخليفة يخشى من شيوع نفوذهم، ويرتاب في ولائهم له (تناول ذلك من قبل ج. ن، ساندرسون في مقالة له بعنوان "الصراع والتعاون بين إثيوبيا ودولة المهدية بين عامي 1884 و1898م بالعدد رقم 26 من مجلة "السودان في رسائل ومدونات". المترجم).
ولا ريب أن كتاب "الطراز المنقوش ببشرى قتل يوحنا ملك الحبوش" يمثل، من منظور تأريخي، مصدرا أوليا لدراسة العلاقات السودانية – الإثيوبية، فهو قد رتب بحسب زمني متسلسل، وسجل معظم وقائع الصراعات التي دارت بين عامي 1885 و1889م من وجهة نظر الجانب المهدوي في ذلك الصراع. وندين بالفضل في العثور على ذلك المُؤَلَّف إلى الكاتب محمد أحمد هاشم، والذي خاطر – في سرية بالغة – بالمحافظة على نسخة من ذلك الكتاب، متحديا أمر الخليفة بحرق كل نسخه، ونسخ كل ما خطه يراعه من كتب أخرى. وكان نعوم شقير هو أول شخص يحصل على تلك النسخة في أبريل من عام 1895م، وسلمها لرئيسه وينجت باشا. وفي عام 1958م أهديت تلك النسخة لمكتبة السودان في جامعة درم البريطانية، وتم "اكتشافها" هناك بعد ذلك بعقد من الزمان.
ومعلوم أن مؤلف "الطراز" لم يشهد بنفسه تلك المعارك التي سجل وقائعها. فعلام اعتمد الرجل في كتاباته؟ اعتمد الرجل في كتاباته عن مراحل المهدية الباكرة على منشورات المهدي والخليفة، وعلى مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الخليفة وقواد جيشه في القلابات. غير أنه استفاد كثيرا في كتابه مما سمعه من أفواه الذين شهدوا تلك المعارك مثل قاضي الإسلام أحمد علي.
وشمل الكتاب تمهيدا أوضح فيه المؤلف الدوافع التي حدت به لتأليف الكتاب، وحدد فيها ما يتضمنه الكتاب، وأعقب ذلك بمقدمة أطنب فيها في مدح الخليفة وشرعية حكمه. ثم خصص الفصل الأول للحديث عن إمارة يونس ود الدكيم (من ربيع 1887 إلى يناير 1888م)، والفصل الثاني عن إمارة حمدان أبو عنجة (ديسمبر 1887 – يناير 1889م)، والفصل الثالث عن إمارة الزاكي طمل (فبراير ومارس من عام 1889م). أما خاتمة الكتاب فقد تناولت عمليات المهدية في دارفور والاستوائية وسواكن، وخطة المهدية للانتصار على مصر. وركز المؤلف في كل أجزاء كتابه على انتصارات المهدية، ليس فقط ضد إثيوبيا، بل في دارفور ومصر وساحل البحر الأحمر. وأستطرد مؤلف "الطراز" في مدح الخليفة وتمجيده، والدعاية لانتصاراته بغرض تثبيت دعائم حكمه سياسيا، ومنحه (مزيدا من) الشرعية الدينية، خاصة في مقابل ما دعا له "الأشراف" وآخرون من مناهضي حكم الخليفة. وصور الكتاب الخليفة عبد الله بحسبانه رجلا تقيا، وقائدا مثاليا، ورجل دولة من الطراز الرفيع.
ما من شك في أن المؤلف لم يخف – في أول صفحات كتابه- غرضه من الكتاب، ألا وهو إقناع العالم بصحة ما جاء به المهدي. وفي سبيل ذلك لم يتردد المؤلف أحيانا في تغيير أو تشويه بعض حقائق التاريخ أو حذفها بالكلية من أجل تحقيق غرضه من مدح للمهدية وإقناع الآخرين بصدق دعواها. كذلك وردت في الكتاب بعض الأخطاء التاريخية (ربما مقصودة أو غير مقصودة) في تواريخ المعارك وقادتها وترتيب وقوعها زمنيا. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإن كتاب "الطراز" لا يمكن أن يعتمد عليه ككتاب تاريخي (من وجهة النظر الكلاسيكية)، إلا أنه مصدر (لا تاريخي ahistoric) مفيد لدراسة تصورات المهدويين لتلك الفترة، خاصة عند المقابلة بين "الأنصار" والأحباش "عبدة الصليب" أو "الكفار" (وتعني هنا غير المؤمنين، ومنهم المسلمين الذي لا يؤمنون بالمهدية).
الرؤى (الحضرات) النبوية
لجأ إسماعيل المفتي الكردفاني بن عبد القادر، بالإضافة لاستخدام أداة التنشيط الرمزي (symbolic reactivation) النظرية في كتابه "الطراز"، إلى أداة أكثر "عملية" من أجل إيصال غرضه في إكساب الشرعية (الدينية) لمعارك الخليفة، وذلك عن طرق سرد "الحضرة النبوية" التي ذكرها الخليفة مرتين في رسائله لقواده في الجبهة. فقد ذكر الخليفة في رسالة له للأمير حمدان أبو عنجة حضرة نبوية فسرها بأنها دعوة له للهجوم على إثيوبيا، ووصف له في الرسالة انتصار جيش المهدية وكأنه قد وقع بالفعل. وتنتهي الرؤية بالتكبير (على إثيوبيا). وسارع حمدان ببدء الهجوم بعد ثلاث ليال من سماعة لنبأ تلك الحضرة. وبالفعل أحرز جيش المهدية نصرا كبيرا على قوات تكلا – هامينوت في دامبايا، وغنمت مدينة قوندر/ غندار، وأحرقت كنائسها (48 كنيسة بحسب زعم المصادر الإثيوبية).
أما الرؤية الثانية فقد كانت في أبريل / مايو من عام 1888م، وكانت موجهة لكل الأنصار في السودان، وكان الغرض منها هو التشديد على شرعية حكم الخليفة منذ تقلده للسلطة، وقانونية سياساته المحلية وسياساته الخارجية المستقبلية. فقد ورد فيها أن النبي قد أخبره في تلك الرؤية بأن أعداء الله (الأحباش) قد عادوا للهجوم على الأنصار، وأن أياديهم قد قيدت على أعناقهم، ولكنهم سيهزمون ويولون الأدبار. وكان الخليفة مهموما ومشفقا من هجوم انتقامي من الإثيوبيين ردا على هجوم حمدان أبو عنجة. وسعى لتنبه شعبه إلى احتمال حدوث ذلك الهجوم من العدو، ووعدهم بالنصر عليه إن حاول الانتقام.
ومن مزايا استخدام تلك الرؤى النبوية هو عدم وجود أي إمكانية لدحضها. ولعل معظم الأنصار كانوا على إيمان تام بتلك "الحضرات النوبية" للخليفة، ولا يشكون البتة في صحتها، ولا في قدسيتها، وإن لم يفعلوا فسوف يرتابون في وضع الخليفة نفسه بحسبانه خليفة للمهدي.
وبما أن إسماعيل المفتي الكردفاني بن عبد القادر قد دعي لتأليف ذلك النص "التاريخي" الرسمي عن تاريخ الصراعات بين إثيوبيا والسودان في فترة محددة، فلا يمكن أن يقدم نصه فكرة متكاملة عن "التصورات المهدوية Mahdist conceptualizations " أو عن السياسات الفعلية تجاه إثيوبيا المسيحية. فالكتاب لا يعكس إلا أبعادا منتقاة للمسألة الإثيوبية (مثل حديث "أتركوا الأحباش ..." ورسالتي الخليفة ليوحنا الرابع). وكل ذلك لا يعكس حقيقة مواقف المهدية الحقيقية. فتلك المواقف تتضمن الكثير من الدوافع الدينية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والعسكرية.
ما ذكر كان عن وجهة النظر السودانية في أمر العلاقات بين البلدين في تلك الحقبة المعينة. ويتطلع المرء لقراءة ذات القضية من المنظور الإثيوبي.
alibadreldin@hotmail.com