سأتحدث في هذا المقام إن شاء الله عن تأثير التفكير الصلب أو المادي على مفاهيم وعادات النّاس. وسأتطرق لنقاط أثارها أخي الدكتور مصعب زروق بعد قراءة المقال السابق وأوَّلها مسألة العقل والنقل. ولا شكّ أنّ العقل هو محض آلة لا غير ميَّز به المولي سبحانه وتعالي وخاطبه وكلَّفه من خلاله وترك مسئولية إكماله للإنسان بعد أن وفَّر له الوسائل ووضَّح له أنَّ طريق تنميته العلم حتى يحقّق الحكمة.
ولذلك فرسالة المولي عزّ وجلّ التي أنزلها في القرآن الكريم وفي السنَّة المؤكَّدة أعلى قيمة من العقل إذ لا تتجاوز وظيفة العقل تجاه الرسالة إلا محاولة الفهم الصحيح والتطبيق السليم.
والفهم والتطبيق مختلفان ويحتاجان لنوعين مختلفين من التفكير. الفهم يكون للشريعة والتطبيق يتمَّ بواسطة المنهج وفي ذلك يقول المولي عزَّ وجلَّ: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، فالشرع للبيان والمنهج سبيل التطبيق، ويحتاج الشرع للتفكير التجريدي الذي يشمل التفكير التفكُّري، والتدبُّري، والنقدي، والتحليلي، والمنطقي، بينما يحتاج المنهج للتفكير الإبداعي وللتفكير الاستراتيجي.
وعليه فالرسالة، وهي ما تعارف عليه بالنقل، في حقيقتها هي العلم الصحيح والحكمة العليا لأنَّها صادرة من عليم حكيم وتطبيقها لا يحتاج لفهمها، ولكن محاولة فهمها واجب على كلّ مسلم حسب وسعه، وهنا تأتي أهميَّة العقل، ولا مجال للكسل العقلي اعتماداً على فهم الآخرين. وعندما نقول ذلك فنحن نعني من كتب الله قسطاً من التعليم وفتح لهم أبواب العلم وإلا فما سبب أن يأتي في كلِّ زمان علماء جدد يفسرون القرآن أو يكتبون فقها جديداً؟ ألم تكن تكفيهم كتب من سبقهم لتابعوا ما فيها ويقلدوا أصحابها؟
وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية وهي الخلط بين الرسالة الإلهية والفهم البشري فالرسالة كاملة والفهم قاصر ويتطور بتطور الأزمان وفي هذا معجزة الرسالة فهي ذات ديمومة مستمرة. والعلماء مشكورون على جهدهم وأجرهم على الله سبحانه وتعالي ولكنَّهم لا يمثلون منتهي العلم ولا يمكن قياسهم بالأطباء وإن كان في دورهم نوع من التطبيب فعلم الطب في أغلبه تجريبي موضوعي يسنده الدليل والبرهان العلمي بينما معظم التفسير يعتمد على الفهم الخاص ودليله ما تواتر من أقوال السابقين التي دخلها الكثير من الدخن شاملة لأحاديث المصطفى. ولو أنَّنا اعتبرنا قياس العلماء بالأطباء قياساً صحيحاً فنحن نعلم أنّ الطب منذ زمن أبوقراط تحوَّل آلاف المرات ولا علاقة المرَّة بينه وبين طب هذا الزمان ولا ما سيحدث في المستقبل ويعتبر طب القرون الأولي محض تاريخ لا غير لا يستخدم فكيف يكون تعاملنا مع تفسير ابن كثير أو الطبري وهو لا يزال يعتبر صحيحاً ويُدرَّس. تأمَّل مثلاً تفسير ابن كثير لهذه الآية: ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"، ن حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط حامل للأرضين السبع واستنتج من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: " وأوَّلُ طعامٍ يأكُلُه أهلُ الجَنَّةِ، زيادةُ كَبِدِ حُوتٍ" التي من "زائِدَةُ كَبِدِ النُّونِ". ثمَّ ذكر أنَّ نون لوح من نور أو هي دواة القلم، وذكر تفسير البغوي وبعض المفسرين إنّ على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السماوات والأرض، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن. وهذه آراء كثيفة الخيال وممتعة ولكنَّها لا تمتُّ للحقيقة بشيء ولكنَّ العلماء بنوها على أحاديث وروايات سابقة أثبت تخريجها الحديث أنَّها من الأباطيل والمنكرات.
ولا ينكر أحد فضل الفقهاء في فقه العبادات الذي نفع المسلمين، وهو فقه لا يحتاج من أنواع التفكير التجريدي إلا التفكير المنطقي الرياضي الذي يستقصي المصادر، ولكن حظَّهم من التفكير التجريدي كان قليلاً ولم يتميَّز به من أصحاب المذاهب إلا الإمام الشافعي رضي الله عنه والإمام الشاطبي وابن رشد وابن تيمية ولذلك فقد غيَّر الإمام الشافعي فقهه الذي كتبه في بغداد عندما رحل إلى مصر ولو أنَّه عاش في السودان لكان قد أتي بفقه جديد.
والكثير من الناس يظنُّ أنَّ الإمام ابن تيمية من العلماء "المحافظين" ولكنَّه من العلماء المجدِّدين الأحرار من تأثير أصحاب السلطة بل ودفع ثمناً لاستقلاليته الفكرية بأن مات مسجوناً. ولكن مَّما يؤسف له هو اختزال علمه بواسطة أتباع محمد بن عبدالوهاب فنقُّوا منه ما يلائم فكرهم وتركوا البقية التي تعارضه وهي صفة أصيلة في الإنسان المادِّي: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ الإمام ابن تيمية رضي الله ابن زمانه وفتاويه يجب أن تفهم في سياقها حيث عمَّت خيانة المسلمين وإعانة الأعداء وإدخال ما ليس في الدين فيه. ولا ينكر أحد أن بعض فتاويه تستلزم المراجعة ولكنَّه حارب الخرافة والوهم، والتفريط والإفراط، وردَّ للعقل مكانته، ووضَّح تعريفه ووظيفته، وفعل كلّ ذلك باستخدام تفكير علمي رصين، ومصطلحات وتعريفات دقيقة ليمحِّص به ما ورثه من العلماء السابقين ويقارع الحجَّة بالحجَّة مع الحاضرين.
ومن تعريفات العقل عنده ما اتَّفق معه مع الإمام أحمد بن حنبل، وهو إمام آخر استخدم المنهج العلمي والتفكير التجريدي رغم ما أشيع عنه ولذلك دافع عن استقلاليته الفكرية ودخل السجن وعُذِّب، وهو قوله: "العقل غريزة"، وهذه الغريزة ثابتة عن جمهور العقلاء، كما أن في العين قوَّة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يتذوَّق، وفي الجلد قوة بها يلمس". فتأمَّل استنتاجه العلمي لوجود خلايا حسيَّة في العين واللسان والجلد ولم يشمل السمع والشمَّ والسمع لأنَّهما لا يتمُّان بالخلايا التي في الأذن والأنف وإنَّما بتفسير الإيقاع للمثيرات الواقعة على الأذن والأنف داخل المخ أي ليس هناك تفاعل مباشر بين الخلايا المستقبلة والمؤثر الخارجي مثلما تفعل العين في تفاعل الشبكية بالضوء واللسان بالطعام والجلد باللمس.
أمَّا النقطة الأخيرة فهي مسألة التقليد وهي نقطة مفصلية في الحياة لأنَّ الإنسان المُقلِّد لم يسأل الأسئلة التي يسألها الإنسان حرّ الإرادة الذي يختار منهجه في الحياة ولا يمكن لأحد أن يختار إلا بفحص ما ورثه أوَّلاً ثمَّ يدخل في دورة القبول والرفض والاستبدال أو الاختراع. ونحن نعلم أنَّ سيدنا إبراهيم عليه السلام والمصطفى صلى الله عليه وسلم فعلا ذلك فلم يتبعا قومهما منذ الصغر قبل الرسالة وسألا أنفسهما الأسئلة الوجودية الكبرى مثل من أنا؟ وما هي وظيفتي في هذا الكون الواسع؟ ومن أين أتي؟
السؤال الموجَّه للمسلمين المقلدين هو: هب أنَّك ولدت في مجتمع مسيحي أو يهودي أو هندوسي مثلاً، ما هو احتمال أن تكون مسلماً؟ وإذا قلت بأنَّ الله رحمك بأن هداك لدين الإسلام لأنَّ فضله كان عليك عظيما فولدتَّ في وسط مسلم، فكذلك يفكِّر أصحاب الملل الأخرى. الفرق بين الصحابة وبين المسلمين اليوم أنَّهم اختاروا طواعية بين دين قديم ودين حديث ولهذا كان فهمهم له عميقاً، وتطبيقهم سليماً، وولاؤهم متيناً، لأنَّه جاء عن طريق بصيرة ولم يوعدهم الله سبحانه وتعالي في بداية الرسالة إلا بجزاء الغيب وهي الجنَّة فلا دنيا أهداها لهم ليتنعَّموا بها وتكون حافزاً لهم بل حذَّرهم منها فقال: " فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَواللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيا كما بُسِطَتْ على مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ. بل وعرَّف الغني فقال: " ليس الغِنى عن كَثرةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغِنى غِنى النَّفْسِ". فأين أولئك من هؤلاء؟ ظلّ ديدن الصحابة هو الزهد إلى أن دخل عليهم الملك وسبب ذلك أنّ أبا سفيان وابنه معاوية لم يدخلا الإسلام طواعية واختياراً وإنَّما كرهاً واندحاراً فتأمل في إسلام أبو سفيان عندما أجاره صديقه سيدنا العباس بن عبدالمطلب وأدخله خفية إلى معسكر المسلمين ليقابل به الرسول: " فقال رسول الله: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به». قال: فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله ﷺ فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. وتأمل رأي أبو سفيان ورأي العباس رضي الله عنه في رسالة الرسول: " والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن". وتأمّل مقالته عندما رأي أبو سفيان كيف يعظّم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنبيِّهم: " وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أنه لما توضأ رسول الله ﷺ جعلوا يتكففون، فقال: يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر". الملك هو ما ورد في ذهن أبو سفيان ولا شيء غيره وهو ما ظلّ في ذهنه حتى استلب ابنه الخلافة وحوَّلها ملكاً وعاش حياة الملك منذ خلافة سيدنا عمر بن الخطاب وعندما تولَّي الخلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله استغل الأمويون كبر سنه وحوَّلوا الأمر إلى ملك بدليل أنَّ مروان بن الحكم قال قولته الشهيرة: " إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا".
هذا هو تفكير أصحاب التفكير الصلب المادي الذين لا يسعون إلا للدنيا وهذا هو معاوية يخطب السيدة فاطمة بنت قيس وتستشير الرسول صلى الله عليه وسلَّم فقال لها: " وأمّا معاويةُ فصُعلوكٌ لا مالَ لَهُ"، ونصحها أن تتزوج أسامة بن زيد فتزوجته. الفقر والحرمان سبب أصلى في سعي الناس لكسب الدنيا على حساب الآخرة، فقد كان أبو سفيان شديداً بخيلاً حتى إنّ زوجته هند تستأذن الرسول صلى الله عليه وسلَّم أن تأخذ من ماله دون علمه فتقول: " وإن أبا سفيان رجلٌ بخيلٌ ولا يعطيني ما يكفيني إلا ما أخذتُ منه من غيرِ علمِه، قال: ما تقولُ يا أبا سفيان؟ فقال أبو سفيان: أما يابسًا فلا، وأما رطبًا فأحله، قال: فحدثتني عائشةُ أن رسولَ اللهِ ﷺ قال لها: خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروفِ". هؤلاء قوم لعن رسول الله صلى الله عليه جدَّهم الحكم بن العاص فعن عبدالله بن الزبير قال: "وربِّ هذا البيتِ لقدْ لعنَ اللهُ الحكَمَ وما وَلدَ على لسانِ نبيهِ ﷺ.
ولم يغب عن الصحابة أنَّ بني أميّة غيروا الخلافة إلى ملك فهذا عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يقول، عندما كتب معاوية بن أبي سفيان لمروان بن الحكم ليبايع الناس ليزيد بن معاوية: " لقد جئتُم بها هِرَقْلِيَّةً تبايعونَ لأبنائِكم".
أليس في هذا ما يثبت بداية الكارثة عندما اختار البعض الإسلام عندما تبيَّن لهم هزيمتهم العسكرية؟ فهؤلاء أصحاب التفكير المادي الذين لا يؤمنون إلا بالغلبة والقهر بواسطة القوة الخشنة، ولذلك فلا يمكن أن يكون حكمهم خلافة مهما ادّعوا ولكن ملكاً عضوضاً. قارن بين ملك بني أميَّة وبين ملك المشير عمر البشير وأنصاره من مسلمي التقليد ولن تري اختلافاً كبيراً في الذهنية، ولا في المنهج لتثبيت الملك بواسطة القوة الغاشمة فلكلِّ ملك حجاج بن يوسف.