منصور خالد لورد من أمدرمان (3 ـ 4)

 


 

 

abusamira85@gmail.com

يا غابة الأسمنت يا دماء العامل المحروقة

يا رقاب الكادح المشنوقة يا بصمات اللص

يادليل الغش يا أداة الزيف

يا حصاد الرشوة الممنوعة

حسين عثمان منصور

ــــــــــــــــــــ

هل فات الوقت لنستغل العناصر الإيجابية التي تدفقت في كتاب الدكتور منصور خالد (حوار مع الصفوة)؟

قد تكون الإجابة باللغة العامية (الوقت عمره ما يفوت)، فالوقت باستمرار أداة للإرادة، وهو عنصر محايد، صفحة بيضاء نكتب عليها ما نريد، فإذا امتلأت الصفحة بكلام (خارم بارم)، فلماذا لا نمزقها ونعيد الكتابة وقبلها القراءة، وهذه هي قيمة العقل.
ما نشهده في 12 مقالة توزعت على 78 صفحة في الباب الثاني من الكتاب ويحمل عنوان الكتاب (حوار مع الصفوة)، اختفاء لغة معقدة الصياغة في الكتابة السودانية، أخذت زخمها السياسي من سطوة اليسار في ستينيات القرن الماضي، وهي لغة تزدحم بالجمل الطويلة والشعارات الباهتة التي يضيع القارئ في إحالة المعاني أو الضمائر إلى كلمات مفهومة مباشرة ذات معاني واضحة، والذي حصل في ذلك الوقت أي قبل 50 عاما من زماننا هذا، أن لغة الدكتور منصور خالد حلت  بجملها القصيرة أكسبت النص حيوية وحركة تجعل المعاني حاضرة نابضة. وقد يقول قائل إن هل هذه الحيوية ناتجة من  أن العودة للتراث، تعني العودة للأصل الثقافي؟
 وفي ظل الأمل والتفاؤل لنهضة بلد مسكون بالخلافات والأحن والدمار أسمه السودان، طرح الدكتور منصور خالد الأزمة التي لازمت السودانيين منذ الاستقلال بدءا من انصراف المثقفين عن السياسة، مرورا بالحكم العسكري والخلل الذي أصاب الصفات القومية، منتهيا إلى أن الحلف المقدس بين الحزبية والطائفية قد حول قوى التغيير (القوى الحديثة) إلى مقاعد المتفرجين.

ولا يحصر طبيعة التشويه الذي أصاب المجتمع من جراء تسلط حكم الفرد أو هيمنة الحزب أو سطوة الطائفة في الشأن السياسي وانتهاك الحقوق، بل إنما يتعداه إلى الجوانب النفسية والروحية إذ يصيب الصفات القومية بالخلل ويبدد التراث الروحي الذي يستمد منه الناس قواعد سلوكهم وصفاتهم، وقد كان هذا التحليل فاجعا في وقته، لكن فجيعته الآن بعد 50 عاما أنه مازال صالحا للاستخدام.


عملية الفهم

تتفق قراءتي مع مقولة الناقد بول دي مان (عملية القراءة حري بها أن توضع فيما بعد عملية الفهم)، وهذا ما ينطبق تماما على كتاب (حوار مع الصفوة)، فقد كان واضحا للدكتور منصور خالد أن المستقبل يتجه نحو تزايد التراجع وإغراءات الانكفاء على الذوات المحلية، إضافة إلى نمط التفكير المثالي عند فريق ومظهر حسن النية عند فريق ثاني وغلبة الجماعة المهيمنة عند الكثيرين قد أسهمت هذه العوامل في الركون إلى وهم يمكن أن نطلق عليه اسم (التوحد القومي).

وكان واضحا عند الدكتور منصور خالد أن الغزو الثقافي وتزايد الاختلاط بالخارج سيفضي إلى تآكل القيم وأنماط السلوك لصالح أنماط واردة أهمها المزاج الاستهلاكي والتفاخري. وكل هذا الوضوح يعزز نظرية ظلت مستمرة حتى الآن، وفحواها أن الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم السودان منذ استقلاله في يناير 1956، لم تنطلق من رؤية ثقافية ولا مشروع مجتمعي يستند إلى منظومة قيم بعينها.

وواقع الحال الآن قد يصل بهذه النظرية إلى القول أن المثقفين الذين اجتذبتهم الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم السودان قد خدموا أنفسهم وتلك الأنظمة أكثر مما خدموا أفكارهم ومشاريعهم المجتمعية.

والحاصل أن المعارف والتقنيات الغربية قد أحدثت حالة استلاب شبه كامل اختفت معه كل مظاهر النقد والانتقاء. ومن أكثر المجالات التي حدث فيها الاستلاب المجال الاقتصادي. ويمثل الدكتور منصور خالد حالة مختلفة، لم يتوقف عند النقد، بل سعى إلى تقديم بديل مستندا إلى رؤية اقتصادية تقوم على مفهوم العدالة ومعالجة التفاوت المريع بين فئات المجتمع دون تعطيل لقوى الإنتاج.

والمؤسف أن التحذير الذي أطلقه قبل 50 عاما ضد تفشي الاستهلاك التفاخري والقطاع الطفيلي، قد صار اليوم السمة الغالبة لمجمل الاقتصاد السوداني. وللأسف أيضا أن دعوته إلى تأسيس رؤية سودانية اقتصادية، لم تجد من ينبري لها حتى الآن.

استشراف اللحظة

ظلت النخب السودانية  حتى نهاية الستينيات من القرن المنصرم تشتغل في جو سياسي قوامه الحذر وعدم الثقة بين مختلف الفرقاء السياسيين وسيادة ثقافة المعارضة، وتزايد أدوار البيروقراطية ضمن المناصب العليا للدولة، مما جعل الدكتور منصور خالد يحس بالمسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه ما يجري وتجاه الحقيقة، ومن خلالها ينبثق الشعور بالحرية، لأن الحس التاريخي يجبر الإنسان علي الكتابة، لا ضمن تقاليد جيله بالذات فحسب، بل وبوعي متزايد واستشراف اللحظة والوقوف في مهب الآتي عبر الحديث في قضايا مثل:  القومية، أصالة الثقافة السودانية، فاعلية الإسلام، ومكانة السودان في أسرته العربية وقارته الإفريقية.
ورغم أن هذه القضايا مازالت ترواح مكانها في حياة أهل السودان، إلا أن الدكتور منصور خالد قد قدمها قبل 50 عاما بالشكل الذي سيسمح بحدوث نوع من التجديد والتبدل في الأدوار. ولعله كان مشغولا في (حوار مع الصفوة) بإثارة أسئلة مهمة مثل هل يمكن لنخبة سياسية تفضل مصالحها الذاتية أن تراعي مصلحة الوطن والأمة؟ وهنا تصطدم إجابة السؤال بأن خطابات اليمين السياسي فقيرة وبئيسة، تردد نفس الألحان والأوزان وقصص البطولات. أما اليساريون فما زالوا تائهين بين ماضيهم ومستقبلهم وتشرذم جماعاتهم.

وضمن هذا السياق، تعيش الصفوة في الأحزاب السياسية السودانية أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية ووظائفها الاجتماعية والسياسية، فالديموقراطية الداخلية تصبح بدون جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحزب، حيث يفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة، ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية، بالشكل الذي يكرس (شخصنة) هذه الأحزاب ويحول دون تجددها. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب للأنظمة السياسية بإعمال أسلوب الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي تتنكر له هي نفسها في ممارساتها الداخلية.


سارية الحلم

لا أتفق مع نظريات الثقافة السياسية التي تعتبر أثر القيم الاجتماعية السائدة على السلوك السياسي عاملا رئيسيا في حسم مسألة نجاح التحول الديمقراطي أو فشله. لكن الدكتور منصور خالد على مدى 12 مقالا جاءت في 77 صفحة تمثل الباب الثاني في كتابه الموسوم (حوار مع الصفوة) يختصر بنا المسافة بين الحلم والواقع وبين الوطن واللاوطن، ثم يرحل بنا على سارية الحلم إلى أغوار الصفوة السودانية وتقلباتها وسكناتها وأحزانها وأفراحها، وهذه الأحاسيس الملتصقة بحمى الحلم تتبث وعيا فريدا لدى الدكتور منصور خالد بضرورة بناء مشروع الكتابة على موقف مشرف من قضايا الوطن وارتباطه بحلم ولادة الكلمات الصادقة التي تمجد هذا الوعي وتبثه بين العامة.

على أن المهم في ثنايا حوار الدكتور منصور خالد مع الصفوة السودانية تأكيده القاطع على حاجة مثقفي السودان الشديدة، إلى إلغاء الفصل التعسفى بين القول والعمل، وبين الفكر والكتابة، وبين الرأي الخاص والرأي العام، أو بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وهنا تبرز ملاحظة مهمة فحواها أن أهم مايميز الدكتور منصور خالد، أنه رجل قادر طوال الوقت على وضع أفكار مهمة على مائدة الحوار، وسواء اتفقت أو اختلفت مع هذا الرجل، فإنك تجد نفسك مدفوعا لقراءة ما يكتب. والدكتور منصور يملك أيضا قدرة فائقة على تبسيط القضايا المعقدة وجدية مدهشة عندما كتب كتابه (حوار مع الصفوة) أو غيره من الكتب، بل حتى عندما يكتب في موضوع مثل أغاني حقيبة الفن، تجده يكتب عنها بجدية وعشق، مؤكدا أنه نفسه (صنع في أمدرمان).

على أن حصاد القول في هذه الجدية المدهشة حسب تجربة الدكتور منصور خالد، فأن الملاحظ أنه يكتب ويطرح أفكاره من رؤية وطنية خالصة، تصب فى المصلحة العامة، حتى لو غضب منه البعض أحيانا لرؤاه البراجماتية، لكن يفوت على هؤلاء أن البراجماتية هي صلب السياسة. والسياسة أيضا مصلحة حتى لو كره الحالمون بأمجاد ولّت ولن تعود.


الكارثة والفجيعة

يظل الدكتور منصور خالد تابثا على مواقفه، إذ تأتي عناوين المقالات حاملة ومؤكدة على القاموس الجديد الذي يحفل به الكتاب، فنقرأ أن (انعدام الأصالة الفكرية قد أدى بنا إلى الإيمان دون وعي، والتشبث دون إدراك بأفكار ومؤسسات لا مكانة لها في إطار مجتمعنا المتخلف). وتصور الفقرة السابقة مسنودة ببعض القضايا المسألة كأنها خيار بين الكارثة والفجيعة، والأمثلة كثيرة. فالدستور الذي يظل أشهر قضية مؤجلة في السودان، تفيد خبرة السنوات العشرة التي أعقبت الاستقلال أنها (دساتير النقل الأعجف)، وهي في واقع الأمر (دساتير الأسلاب والمناصب، لأنها لا تعني بشئ غير أجهزة الحكم التي لا تعني بدروها غير القلة التي نمثلها نحن الصفوة المنتفعة).

ورغم أن العبارة بين القوسين التي كتبت قبل 50 عاما تبدو صالحة تماما للاستخدام في ظروفنا السياسية الحالية، إلا أن الدكتور منصور خالد ينبهنا إلى أن قضية السودان في المبتدأ هي قضية تطور الإنسان، وهي قضية تستدعي أن نحدد المناهج والتجارب مسترشدين بـ (التجارب الإنسانية كلها استرشادا واعيا مميزا). ويحذرنا بشدة من النقل والتقليد الأعمى الذي يعود علينا بالخراب، مستشهدا بحجة الإسلام الإمام الغزالي الذي قال إن التقليد (يهلك هلاكا مطلقا).

كثرة العناوين الجانبية هي الظاهرة الملفتة للنظر في الفصل الثاني من كتاب (حوار مع الصفوة)، على الرغم من أن كل المقالات قد كتبت قبل 50 عاما، إلا أنها تطابق الواقع السوداني اليوم، وتعبر أشد التعبير عن أدق تفاصيله وتمظهراته، بل أنها حملت في كلماتها بذرة التغيرات وأسبابها. هي اذن استحضار لذاكرة المكان والزمان والأحاسيس الفياضة التي اعترت كاتبنا المتميز فعبر عنها بصدق وخرجت تحمل أفكارا تدعو إلى: قيام نظام يرتكز على الترابط الوثيق بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، السودان يعيش أزمة حضارية، الكارثة ليست في طائفية الأحزاب، بقدر ما هي في أن الأحزاب أصبحت مسخا للطوائف، والحزبية قبلية بلا تكاتف أو تكافل القبلية.


نقلا عن صحيفة أخر لحظة

 

آراء