منطق ابن خلدون و الفكر السوداني.. الامام الصادق المهدي و دكتور النور حمد

 


 

طاهر عمر
4 February, 2024

 

طاهر عمر
هناك علماء اجتماع من ضمنهم علي الوردي قراءة كتبه و تمحيصها لا يتسرب اليك الملل و انت تعيد قراءتها مرات و مرات بل في كل مرة تزداد ثقة في أن الرجل قد ضرب ضربته و مضى و ترك ما كتبه ليأخذه الى مصاف الخالديين بسبب إنتاج المعنى.
في كتابه منطق ابن خلدون في ضوء حضارته و شخصيته قدم علي الوردي فكر جديد لا يذكّر إلا بفتوحات فرانسيس بكون في مفارقته الى السائد من الأفكار و فتحه لأبعاد لم تكن معهودة من قبله لأن فرانسيس بكون يكاد يكون قد قدم منهج متطابق مع منهج ابن خلدون من ناحية مفارقته للسائد في الفكر في عصره و عليه تعتبر ملاحظة علي الوردي الى أن منهج ابن خلدون منهج مخالف لمنهج فلاسفة المسلميين في إستخدامهم لمبادي المنطق الارسطو طاليسي نقلة نوعية في منهج علماء الإجتماع في العالم العربي. و هذه النقلة النوعية تجعل علي الوردي مقارنة بمعاصريه السائرون على منطق رجال الدين كابن خلدون عصرنا الراهن بحق.
و هنا تأتي الفرصة لمقارنة فكر علي الوردي مع فكر الصادق المهدي و كما قلت في مقالات أخرى أن الامام الصادق المهدي في حقيقة الأمر أقرب لرجل الدين من السياسي و قد رأينا جهده في محاولات الإحياء على نهج الحركات الاحيائية و دعوته الى الصحوة الإسلامية بمنهج و منطق رجال الدين المسلميين و قد خالفهم ابن خلدون و نبه له في عصرنا الحديث عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في جهوده الفكرية.
و حقيقة الأمر في كل جهود الصادق المهدي الفكرية يسيطر منطق رجل الدين الأرسطو طاليسي و أظن هذا هو سبب كساد فكر الصادق المهدي رغم تراكمه أي فكره ككم و لكنه لم يستطع أن يقدم فكر بمنطق حديث مفارق لفكر رجال الدين و يتأتى منه أي تغيّر في نوعه.
و في حقيقة الامر الامام الصادق المهدي قد هيأت له الحياة فرصة التفرغ للقراءة و الكتابة لم تهيأها الحياة لأي سوداني غيره إلا دكتور منصور خالد بجهده الخاصة و قد كلّفت منصور الا يتزوج في زمن شبابه و لكن نجد الصادق المهدي قد ظل حبيس منطق رجل الدين أي منطق أرسطو طاليس الإستنباطي الذي رفضه علي الوردي على ضؤ تطوره الفكري و قد لاحظ أن ابن خلدون هو مؤسس طريق مفارق لمنطق رجال الدين المسلميين أي المنطق الأرسطو طاليسي و عليه كان منطق ابن خلدون إستقرائي على عكس منطق رجال الدين المسلميين الإستنباطي.
منهج ابن خلدون إستقرائي و هو متطابق مع منهج العلوم الحديثة في إنتقاله من الجزئيات الى الكليات و هذا المنهج الإستقرائي نجده مستخدم عند الأستاذ محمود محمد طه لذلك جاءت كتاباته مفارقة لكتابات رجال الدين التقليديين في تركيزهم على الإستنباط الذي يرتكز على كليات عقلية عامة ثم يستنبط منها النتائج الجزئية الخاصة و هذا هو منهج الامام الصادق المهدي و هنا ينام سر إختلافه مع الدكتور منصور خالد.
لأن منهج منصور خالد إستقرائي و كذلك إختلافه أي الامام الصادق المهدي مع منهج الأستاذ محمود محمد طه الإستقرائي الذي جعل الأستاذ محمود محمد طه أقرب للعلوم الحديثة من الصادق المهدي بمنهجه الإستنباطي و قياساته التي جعلت من الصادق المهدي أقرب لرجل الدين التقليدي من السياسي المعاصر و لهذا فشل الصادق المهدي على مدى ستة عقود.
أما الدكتور النور حمد مأخذنا عليه أنه رغم أن الصدفة أم الأشياء قد هيأت له أن يتتلمذ على منهج الأستاذ محمود محمد طه كأكبر إستقرائي في السودان فكيف وقع الدكتور النور حمد في فخ الكوز خالد التجاني النور في لقاء نيروبي و قدم طرحه المرتكز على المؤالفة بين العلمانية و الدين؟ يمكننا أن نجد العذر للشيوعي كمال الجزولي و هو لا يخالف طريق عبد الخالق محجوب في بحثه لدور للدين في السياسة السودانية و تبعه محمد ابراهيم نقد بعلمانية محابية للأديان في حواره في دولته المدنية و لكن أين نجد العذر للدكتور النور حمد في وقت كل المؤشرات تقول أنه يمكنه أن يسير في طريق الكبار و تضحيتهم بهويتهم الدينية كسبينوزا و قد ضحى بهويته اليهودية و توما الاكويني و ميشيل دي مونتين و قد ضحيا بهويتيهما المسيحية.
على العموم هدفنا من كتابة المقال هو أردنا أن نقول للنخب السودانية أن ثورة ديسمبر كانت ثورة تقدم فيها الشعب و سقط فيها النخب و أفشلوها لأنهم جاءوا لأفقها بفكر رجال الدين و منطقهم الإستنباطي و نقولها للمرة الألف أن ثورة ديسمبر هي دعوة من الشعب السوداني للنخب السودانية بأن تسير في طريق عقلنة الفكر و علمنة المجتمع.
و يستحيل أن يكون ذلك أي عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و على قيادتها أتباع الامام الصادق المهدي و أتباع الختم و قد سقطوا في حكومة حمدوك الإنتقالية لأنهم جاءوا بمنطق رجال الدين و كانوا يظنون أن ركام الإنقاذ دولة و ما عليهم إلا إلباسها خطابهم الديني كبديل لخطاب الكيزان في وقت أن ثورة ديسمبر ثورة تنشد الحرية روح الفكر الليبرالي الديمقراطي و هو فكر قد أصبح بديلا للفكر الديني نتاج الايمان التقليدي.
و من هنا نقول لحمدوك في قيادة تقدم أن النقلة الفكرية المطلوبة منك للفاشلين في حكومتك الإنتقالية سابقا تحتاج لجهد عباقرة الرجال و خاصة و انت محاط بمن يسيطر عليهم منطق رجال الدين أي المنطق الإستنباطي و القياس كما رأينا في رد دكتورة مريم الصادق المهدي على مقال لرشا عوض قد وجهته لمن يهمهم الأمر في حزب الأمة عندما قالت بأن هناك تقارب بين مجموعة في حزب الأمة مع الكيزان المصطفين في صف البرهان.
و جاءها رد الدكتورة مريم و هي تستخدم منطق رجال الدين الإستنباطي و تحدثت مريم عن منهجها الإستنباطي و طريقته أي القياس و شروطه و كل ما فيه ظنّت أنها قد أفحمت رشا عوض التي لم أقراء لها رد على مقال الدكتورة مريم و زاد تعجبي من سيطرة منطق رجال الدين و لا نلوم الدكتورة مريم الصادق المهدي فقد قلّدت والدها في منهجه الإستنباطي الذي بسببه كسد فكره على مدى ستة عقود قضاها الامام الصادق المهدي متفرغ للفكر و الكتابة و لم يفلح فيها.
على أي حال كتاب علي الوردي منطق ابن خلدون كتاب يكشف لنا فكر علي الوردي و قدرته على التفكير النقدي و يحلينا الى فكرة قد عالجتها حنا أرنت بنفس زاوية علي الوردي و هي أيضا تهتم بكشف طبيعة و أصل النظم الشمولية من فاشية و نازية و شيوعية و ينضاف لها بعد حركات الصحوة الإسلامية بعد عنف الحركات الإسلامية.
حنا أرنت في بحثها و تطوريها للفلسفة السياسية قد إنتبهت بأن هناك خطاء قديم في الفلسفة السياسية منذ مثالية إفلاطون و عالمه المجرد و هنا تلتقي مع علي الوردي في إنتباهه الى منطق رجال الدين الأرسطي طاليسي الذي يرتكز على الصور المثالية و يجافي محتواها المادي و بالتالي لم يجد علي الوردي من فلاسفة المسلميين غير ابن خلدون و قد فارق دربهم في نظرية العمران كفعل بشري بعيدا عن الصور المثالية.
و إبتعد ابن خلدون من فكر فلاسفة الإسلام و تأثرهم بالمنطق الأرسطي و نجده أي المنطق الأرسطي حتى اللحظة عمود فقري في فكر المثقف السوداني التقليدي و المؤرخ السوداني التقليدي و قد كثر حديثهم عن الوثيقة المقدسة و كثر جلوسهم في حوار الوثبة و كثر دورهم في معارضة المعارضة الى درجة أصبح فيها المؤرخ السوداني التقليدي صورة للمؤرخ البليد الذي تحدث عنه ابن خلدون في المقدمة و وصفهم بأنهم مقلدون بلداء الطبع و العقل و يغفلون عما يحدث في التاريخ من تغيّر مستمر.
من هنا ندعو النخب السودانية الى الإلتفات لفكر علي الوردي وهو منذ عقود دعى للفكر الليبرالي كمخرج لمجتمعات هشة في تركيباتها و هياكلها الإجتماعية و لا مخرج لها غير الفكر الليبرالي و الديمقراطية الليبرالية و هذا يحتاج لتغير منهج الفكر و أظن الشعب السوداني بعد الحرب العبثية قد فهم الدرس و المخرج بأن يتقدم الشعب و يفرض على النخب الفاشلة ما ينبغي أن يكون من فعل سياسي ينزل شعار ثورة ديسمبر الى أرض الواقع.
على الشعب أن يوحي للنخب بأن تقدم بقيادة حمدوك عليها أن تؤسس فكرة الدولة الحديثة الملتبسة في أذهان النخب بل هناك الشيوعي السوداني الذي لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس و بالتالي قد أصبح كل فعله السياسي عرقلة كل فعل سيؤدي الى الإستقرار السياسي و قد رأينا دورهم في إسقاط حكومة حمدوك الإنتقالية و قد أفسدوا كل شئ و قد تساوا مع الكيزان في الكيد للشعب السوداني الذي لم يلتفت لأوهامهم أي أنهم هم أولى بقيادة الثورة و هيهات و لك أن تتخيل أن ينعتق الشعب السوداني من وحل الفكر الديني الكيزاني و الطائفي و ينحشر في فكر ديني بشري أي النسخة المتحجرة من الشيوعية السودانية؟

 

آراء