انظر لبعض أبيات المرثية التي كتبها الشيخ "دفع الله ود فريجون" في أوائل خمسينات القرن الماضي عند رحيل الشيخ عبد الباقي بن الشيخ حمد النيل والتي تغنى بها الفنان السوداني والموسيقار " محمد الأمين ":
بتصادم المَغارة خيلاً بِجَنّ بالليلْ يا ود لَيل البُحور يالجِدّكْ المانجيلْ دوّبة حليل ابوي اللى العُلوم دَرّاسْ في يوم الخميس جانا الخبر وانشاعْ في الأربَع قِبل أزرق طَويل البَّاعْ تبكِيكْ الخلوق بى أغْزر الدَّماعْ
{1}
أيعقل أن تكون الزُّرقة غريبة عن إنسان شمال السودان؟ إنها من صميم ميراثه الأصيل. يحاول الكثيرون التنكُر لها، لذا فإنهم يُنكرون الظواهر والبواطن. إنه اشتباك في الهويات، والجينات (DNA) واختلاط الأنساب. لا صفاء عرقي يتغنى به أحد، إلا مُكابِر. إن الحقيقة مختفية في قاع الذاكرة والتاريخ. وتُفصِح عن نفسها بالملامح الهجين التي لا تنفصل عن الملاءة الوطنية المتعددة الملامح والطبائع التي تُلقِّح بعضها. ولو شاء بعضنا النُكران فنقول لهم: إن الحياة ليست اللّغة والدّين وحدهما. انظر لأزرق طويل الباع في المرثية سالفة الذِّكر. كيف يمكن أن يفخر تراثنا النبيل بالزُرقة! وفي غربنا الحبيب أعراق تتسمى بالزُرقة.
{2}
كانت الأصول المختلفة بين الأعراق، وستظل فيضاً من التنوع الغزير. لم يطفح رغم أن أغسطس من العام 1955 ليس ببعيد في أعمار الشعوب. إنها ذكرى الحرب الأهلية الأولى والفوضى التي عمّت مديريات جنوب السودان - وفق مسمياتها السابقة - كانت منذ وجود الحاكم العام ومجلسه الذي يمثل رأس الدولة، أثناء الحكومة الوطنية الأولى التي رأسها السيد إسماعيل الأزهري منذ مطلع 1954. تلك الحرب الأولى التي لم يعتذر " الجيش الشعبي لتحرير السودان " إلى اليوم عن مقتل الأبرياء من أبناء شمال الوطن من المدنيين! في حين أنهم إلى الآن ينتظرون اعتذار الشماليين عن قتلى حروب الجنوب!
{3}
بعد أن تقطُعت سبل الحلول السلمية مع أهل الجنوب وقامت " أنانيا "بالتأسيس للحرب الأهلية الثانية عام 1963.ومنها بدأ الحكم العسكري الأول برد فعلٍ استئصالي، بتجريف القرى في جنوب الوطن " السابق" وحرْقها بسكانها. ونتيجة ذاك العُنف العسكري نهضت الثورة الشعبية في أكتوبر من عام 1964. وفي الساحة المواجهة للقصر الجمهوري حينذاك، غيّر الدّم المُراق تسمية المكان لساحة الشهداء. اشترك الجميع في الثورة التي استعصت على النسيان، كلما حاول السلطويون محو الحفاوة بالذكرى، فمن بين الرّماد تنهضُ نارٌ تشتّعل، لا يمحوها التجاهل المُصطنع. صارت الثورة تلك، سابقة عصرها. واحتذت حذوّها ثورة الشباب الفرِنسي عام 1968.
{4}
إنها صفحةٌ من التاريخ ولمحة من ماضي الوطن. وليس من السهولة نسيان ما حدث حين تحول السودان إلى دولتين عام 2011، وما صاحبهما من مأساة درامية لم تزل إلى يومنا، عصيّة على الخفاء. ليس بُكاءً على حليبٍ مسكوبْ، ولكنه مدخلٌ للتعرُف من جديد على الرؤية الأيديولوجية الفطيرة التي ساقتنا إلى الكارثة. إن استعجال قرار انشطار الدولة السودانية هو من أفعال من لا يعرفون حاضرهم ولا تاريخهم. لم نجد السِّلم ولم تسوَ الحدود ولم تُعفَّ الدّيون. قد تم بيع الانفصال بثمن بخس، جرّ وراءه قضايا لن تنتهي بمرور الزمن. غسل الشهود أيديهم، وهربوا لا يلوون على شيء.
إن الأنساب الهجين التي صنعت مزهرية الهويّات المتشابكة والمتناثرة على صفحة الوطن المُترامي، لهي أعزّ من المكانة التي وَضعَنا فيها أصحاب السلطان في الجنوب وفي الشمال، دون مَشُورة أحدْ، فإن اكتفينا باللُّغة والدِّين على أنهما أساس الخلاف والهوية والتبايُن، فماذا نفعل مع الملامح الهجين والعادات والتقاليد الإثنية المدفونة في رماد العادات والتقاليد ؟، أو الأصول الغائرة في قيعان الذواكر، منذ ميراث الإنسان الأول الذي احتفظت به العقول الباطنة، تظهر عند الشدائد. ليس هناك من مُبررٍ على أن تستفرد فئة بعينها بتحديد مصير الوطن. وليس شعار " تقرير المصير " إلا شعاراً ماكراً. انهزمت الحزمّة، ليسهُل تَكسٌّر الرماح البشرية تشتُتاً. تلك هي من أهداف القائمين على العولّمة، بالاستعمار الجديد لرأس المال العابر للقارّات، لتكُن مسيرة الشعوب مفروشة بمكر الأقوياء. لا تجد منْ يقاوم سيلها الجارف! أضحت " الفيدرالية " بين الشمال والجنوب وقد كانت قريبة المنال، لتكُن بديلاً عنها فيدرالية متضخمة لا يعرف صانعوها إلى ماذا ستقود. كل بضعة أشهُر يتم خلق ولاية جديدة، يتبعه ترهلٌ ووجع اقتصادي غير قابل للحل. لن نتحدث عن الفساد لأنها طبخة تعودت سماعها البطون الجائعة. كلفة اقتصادية متضخمة في بلد عطشى وعلى أظهره الماء محمولُ!
{5}
نعود لمكيدة تصنيف أهلية الناخبين في استفتاء جنوب السودان 2011: ثغرات ومسالب تعريف أهلية الناخب في استفتاء جنوب السودان. تبرز عشوائية التصنيف وتفاصيله العرقِّية البغيضة، التي لم يزل كثيرون يعانون من انتماءاتهم في الدولة الأم أم الدولة الجديدة. ويُكابدون قضية منْ هم بلا وطن وبلا تجنيس. يحاول السياسيون اقتلاعهم من بقعة أرضٍ تعوّدوا عليها وجدودٍ قُبِروا فيها !! . يقول القانون الغريب الذي مرّ على الجميع دون أن يتوقفوا عنده: * {الفرع الثاني ـ سجل الاستفتاء ـ أهلية الناخب للاستفتاء 25. يشترط في الناخب أن يكون: (1) مولودا من أبوين ينتمي كلاهما أو أحدهما إلى أي من المجموعات الأصيلة المستوطنة في جنوب السودان في أو قبل الأول من يناير 1956م أو تعود أصوله إلى أحد الأصول الإثنية في جنوب السودان أو (2) مقيما إقامة دائمة متواصلة دون انقطاع أو أي من الأبوين أو الجدين مقيما إقامة دائمة ومتواصلة دون انقطاع في جنوب السودان منذ الأول من يناير 1956م} * انتهى النقل. ماذا يفعل من استوطن أجدادهم شمال السودان ، وأحد أصولهم قبل 1956 من جنوب الوطن ؟ وماذا يفعل الشماليون الذين استوطنوا الجنوب قبل أو بعد تاريخ 1956 ؟ . منْ يستطيع التحقق من التاريخ ؟ . هل علماء الاجتماع أو ضباط الجوازات ؟ . التمييز على هوية اللون هو خبط عشواء ، يقرر في مصير مواطنين من الطرفين دون أن يكون لهم حق في العبث السياسي الذي تمت به اتفاقية " نيفاشا" الذي كتبه " دان فورث " أو تداعيات دستور 2005 !! إذن كيف يتم منح الجنسيات في البلدين، وما مصير هؤلاء وأولئك !؟
{6}
إن جَديلة الحروب ونيرانها لم تزل تتراقص بها رياح المتغيرات في أرجاء الوطن. مرحلة تشكّلت من أيديولوجية إقصاء شُركاء المواطنة. وإغفال نسيج التنوع الذي شكّل السودان " القديم " رغم أنه لم يلقَ رضى ، وكان عُرضة للخلاف مثل أي قضية ، قبل أن يتفرّق أهله بمكر سياسة الذين لا يتمتعون بإبداع يؤهلهم، فقط أهواء منْ لا يعرفون موطنهم حقّ عرفانه، أو رُعب من الدولة الكُبرى المهيمنة، على أمل الخلاص الفردي، الذي تعذر حتى الآن. لم أزل أذكر مقالة للدكتور " علي زايد بريمة " في محاضرة له عن مصائر الأوطان عام 2002 م، وذكر أن انهيار الدول يبدأ من تآكل الأطراف، في حين أن قوتها الاستراتيجية تبدأ من توسع رقعة أرضها، كما ذكر الكاتب الكبير العميد أ ح (م) "السر أحمد سعيد" في أحد أسفاره الزاخرة بالمعلومات.
إن الحرب تدمير سريع للبشر والاقتصاد وهدرٌ للموارد وهدمٌ للبنيات التحتية وزوال السلم والأمن واستيطان الخوّف القلوب. تتطور عندها آلات التّدمير وتتنوع وفق شعار " البقاء للأقوى" أو البقاء لمَن يستطع شراء السلاح الذي يعطيه الغلبة. والمدنيين أسهل الأهداف للذين يعتبرون موت الآخر وسيلة وهدفاً لأيديولوجية سِمَتها الثّبات، ولو انهدَّ العالم فوق الرؤوس! إن البشر داخل مصيّدة المعارك وزيادة أعدادهم موتى: هو رصيد للانتصارات، حتى لو كانت آلية الفرقاء هي حروب غير مُتكافئة: حرب نظامية ضد حرب شعبية تتمتع بمرونة الاختباء ولسعاتها الموجعة التي لا يعرف أحد موعدها، إذ تحتمي في سكن العامّة الطيبين. كمٌّ وعدد وكلابٌ على رقعة الشطرنج، واللاعبون سُكارى، وماهُم بسُكارى ... بعضها حروب عرقية بغيضة. تتصاعد نيرانها لتنفي الآخرين من الدٌنيا، دون إحساسٍ بالذنب أو وخزٍ للضمير. إن مؤامرة اغتيال " وليم دينق " في غابات الجنوب، في ستينات القرن الماضي. وما سببته من انهيار أمني في مدينة الخرطوم وفوضى وانفلات قبلي مُدمر ، حين لاذ فيها أهل الجنوب آخر المطاف بعد تفجُر غضبهم إلى استاد الخرطوم، ليحمّيهم من الموت الجِّزافي والتقتيل على الهوية العرقية، واللّون والانتقام!
{7}
تكرر الأمر عند " اغتيال " المُبشِر بالسودان الجديد " جون قرنق " في 30 يوليو 2005. وانفجرت العاصمة في 31 يوليو : مدنها وأطرافها بغضب العامّة من أهل الجنوب. حرائق واغتيالات عشوائية وسرقات ورُعب. نفث الميراث العنيف والغليظ الذي يقبعُ في الذاكرة القديمة والمُتوارثة. نهضت في المقابل الثارات من مكامنها العتيقة عند الجهة الأخرى من المعادلة، وأزيل عنها تُراب السنين. ودارت الغضبات العرقِّية كرد فعل، بتراً لكل القيّم الإنسانية. واستنصرت الأعراق ببعضها، والغلبة آخر المطاف لأهل الشمال في مناطقهم، وتسلّح بعض المواطنين حسب انتماءاتهم للتنظيم المعروف في المدن والأطراف من أجل الانتقام. تكرر الأمر في جوبا على سبيل المثال، وكانت الغلبة لأهل الجنوب في مناطقهم . ذاق المدنيون من الطرفين مرارة الرُعب إن نجوا من الموت. مجازر للبشر والآمنين سكتَ عنها أصحاب السلطان الذين اقتسموا السلطة، جنوباً وشمالاً. الكارثة كانت أكبر من سعة الخيال على استدراك كم العُنف والرُعب والموت الذي عمّ. ملفٌ سرد وقائعه أحداث مُذهلة . أكثر من ألف مأساة إنسانية خلال يومين!
{8}
دولة جنوب السودان لم تزل وليدة. تهتزّ أركانها في مخاض الميلاد العسير، وسط عنف قبلي غير مسبوق هناك. وهي قصة طبيعية إن عرِف الإنسان أنه يصنع السلاح ويستورده للحروب التي يشعلها. بعضها تتعلق بها آمال عِراض. وتنتهي بالنفوس التي تعودت استخدام السلاح وسيلة للسلطة. فوضى وموت وحرائق تقضي على مساكن المدنيين وتشردهم في الأصقاع.
ليست وفرة السلاح في جنوب الوطن وحده، بل في مناطق القتال المنتشر في أرجاء الوطن. ملايين من قطع السلاح تنتشر في دارفور وفي كردفان. وإن أردت حساب الأسلحة لدى المواطنين في العاصمة القومية أو ولاية الخرطوم بعد دخول الملايين إليها من دول الجوار ومن دول أبعد من الجوار، لعرفتَ لِمَ صار المواطنون يبحثون عن الأمان. وفي مقدورهم فعل أي شيء من أجله! هل من قوة يأتمنونها على أنفسهم، أم يبحثوا عن السلاح ليحموا أنفسهم؟ لسنا في عجلة أن نُجيب، فالضمائر ربما لا تُفصِح عما في الصدور.