من الترهيب ما ينفع
د. عمر بادي
5 March, 2009
5 March, 2009
بقلم د. عمر بادي
ombaday@yahoo.com
كلمات للشاعر العراقي أحمد مطر :
جسّ الطبيب خافقي
و قال لي
هل هاهنا الألم
قلت له نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي
و أخرج القلم
هز الطبيب رأسه و مال و ابتسم
و قال لي
ليس سوي قلم
فقلت لا يا سيدي
هذا يدٌ و فم
رصاصة و دم
و تهمة سافرة تمشي بلا قدم
قبل أن أبحر بكم في موضوع مقالتي أود أن أروي لكم حكاية لها صلة بصلب موضوعي , و هي حكاية واقعية . قال محدثي أنه في صبيحة كل يوم عمل يأتي بسيارته الي إحدي نقاط التجمع علي الطريق العام و من ثم يأتي باص الشركة ليلتقطهم من تلك النقاط و يتوجه بهم الي مكان عملهم في المنشأة في طرف المدينة . كان المشوار يقارب الساعة و كان معظم الركاب يكملون فيه نومهم حتي يكونوا أكثر إستعدادا ليوم عملهم الشاق . كان عندما يصعد الي الباص يري أن معظم من فيه نائمون و بعضهم قد تمدد علي المقاعد الثنائية . كانوا من جنسيات مختلفة , و كان يداعبهم قائلا لهم بمعني ( أيها النائمون إنكم sleepers , you are lying down like sleepersبالإنجليزية
ترقدون كالفلنكات ) ! فينظرون اليه و يبتسمون و يفردون أماكن للركاب الجدد . في الأمام كان يجلس أحدهم و كان فظا لا يمتلك أية حاسة للدعابة فصرخ فيه ألا يزعجه و لا يقطع عليه نومه , و آزره في ذلك صديق له كان يجلس بجانبه فبدا مهتاجا و غاضبا كأنما أم عياله قد ( عكننت ) عليه قبل خروجه من بيته , فتوعد محدثي أنه إذا كرر ما قاله في اليوم التالي فإنهما سوف يرينّه كيف يكون تأديبه ! لم تجدِ إعتذارات محدثي و تكراره أنه لا يقصدهما بحديثه و إنما يقصد أصدقاءه الراقدين , و هكذا ظل تهديدهما قائما .
في اليوم التالي و قبل أن يخرج من بيته دلف الي المطبخ و تناول مفتاح 15/16 و هو مفتاح الصواميل ذو الرأسين الذي يستعمل في فك و ربط أنبوبة الغاز , ثم توجه الي نقطة التجمع القريبة منه , و هناك ترك سيارته و أخذ حقيبته بيد و في اليد الأخري حمل مفتاح الصواميل و توجه نحو الباص . سأله بعض زملائه عن المفتاح الذي في يده , فأجابهم :
بمعني ( إنني أريد أن أربط بعض الصواميل الفاكة ), I want to adjust some loose nuts فضحكوا و لكن في توجس عما سيحدث , فكلمة صامولة لها بالإنجليزية معني آخر و هي تطلق علي الشخص المخبول , و عندنا أيضا في اللغة العربية نفس المعني عندما نقول إن فلانا عنده صامولة فاكة , لأن إرتخاء الصامولة يؤدي الي ( الكركبة ) و إحداث أصوات و ربما يؤدي الي التلف في حال سقوطها خاصة في الماكينات المهتزة و الدوارة . صعد محدثي الي الباص و بدأ يوزع مداعباته بصوت عال عن النائمين أشباه الفلنكات بينما مفتاح أنبوبة الغاز في يده , و نظر اليه ذانك الشخصان و رأيا المفتاح فلاذا بالصمت و لم يتحركا من مكانهما بل تعمدا النوم ! إستمر في مداعباته تلك حتي هدأت نفسه ثم إستغفر الله و أدخل المفتاح ذا الرأسين في حقيبته و أستعد للنوم , بينما الآخرون ينظرون الي ما يحدث بطرف خفي ! إستمر محدثي قائلا إن العاملين بعد ذلك قد إنقسموا بين قائل إنه إرهابي و قائل إن الباديء أظلم و أنه قد أخذ حقه , و نهي حكايته بقوله : ( إن من الإرهاب ما ينفع !) . قلت له : ( بل الأجدي أن تقول إن من الترهيب ما ينفع ! ) .
لغتنا العربية غنية بالمشتقات بحكم أنها لغة حية و مواكبة للعصر و مدخلاته و تعقيداته التي تحتم إيجاد صيغ جديدة تفسر المستحدثات . الفرق شاسع بين الإرهاب و الترهيب , فالأول عدوان لا يفرق بين بريء و مذنب , و الثاني نهي عن طريق الإخافة , كما ورد في الأثر أن النبي الكريم ( ص) كان يعلق السوط في بيته دون ان يضرب به أحدا . برؤية فلسفية أنظروا الي مجريات الأحداث في عالمنا تجدون أن محركها الرئيسي يكمن في الترغيب و الترهيب . الطفل يدرس من الروضة و الي الجامعة و همه أن يعيش حياة كريمة و يصير مرموقا في مجتمعه . هذا ترغيب يلقنونه له فيردده مع إزدياد وعيه و يكون حافزه للسير قدما . عكس ذلك ما يلقنونه له من ترهيب عن فعل العيوب و التقاعس و الكسل و ما يقوده ذلك الي الفشل و الحياة المهينة حتي يكون في ذلك رادعا له . الأديان السماوية فعلت ذلك و الله اللطيف الخبير بخلقه هداهم السبيل بالترغيب و الترهيب عن طريق القصص و الأمثلة و الوصف و العبر و جعل الخيار لهم إما شاكرين و إما كفورين , و سوف يلاقون نتيجة أعمالهم إما ثوابا و إما عقابا . الخطاب الإلهي إعتمد علي الوعد و الوعيد و هما نفس الترغيب و الترهيب . حتي إن الإعداد الذي ورد ذكره في الآية الكريمة رقم (60 ) من سورة الأنفال : بسم الله الرحمن الرحيم ( و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم ..) صدق الله العظيم , الإعداد هنا من أجل الترهيب أي الإخافة و الله أعلم , حتي إذا إرعوي الأعداء كفي الله المؤمنين القتال , و إذا إعتدوا علينا فعلينا قتالهم بما أعددنا لهم , كما أمرنا الله ألا نقاتل من لم يعتدي علينا و يخرجنا من ديارنا , بل نتعايش معهم في سلام , و هكذا نظم الله لنا الجهاد و علاقاتنا مع بقية شعوب العالم .
دائما نجد أن الدول العظمي بما لديها من سلطان قد إستحوذت علي الحق الإلهي في الترغيب و الترهيب و في الثواب و العقاب , و صارت تسيّرالعالم علي ذلك المنحي . لكن تنزه الله الحق عن مصالح خلقه التي تسيرهم و تبعدهم عن العدالة . الدول العظمي لها مصالح تعمل لأجلها و لن تتنازل عنها و إن تعارضت مع دعوات المثالية و الإنسانية , و من هنا أتت مقولة إن العالم غير عادل , و بذلك إستمر الإستغلال و الظلم و القهر و الكيل بمكيالين ... في عالمنا المعاصر هذا , كيف يكون مصير الدولة التي لا ترعوي بالترهيب ؟ هل يتم غزوها ( علي عينك يا تاجر ) ؟
مع تغير زمان الإستعمار و تمدد الإمبراطوريات بقوة السلاح , إبتكرت الدول العظمي طريقة مثلي في ظاهرها بينما هي إمتداد للإستعمار في باطنها من خلال الوصول الي مصالحها عن طريق الشرعية الدولية ! بعد الحرب العالمية الثانية و الموت و الدمار اللذين حدثا بإزهاق أرواح أربعين مليون شخصا و دمار مدن بكاملها , توصلت دول العالم في عام 1945 الي ميثاق يحترم حدود و سيادة كل دولة عرف بميثاق الأمم المتحدة , و في حال أي نزاع ينشب بين الدول تكوّن مجلس الأمن ليكون الفيصل و الحكم . الآن صارت شرعية فض النزاعات عن طريق التدخلات و الغزو تأتي من خلال مجلس الأمن و الذي تسيطر عليه الدول العظمي عن طريق حلفائها و حق النقض ( الفيتو ) . من هنا أتي إستغلال مجلس الأمن و جره لتنفيذ أجندة مصالح الدول العظمي عن طريق خلق تلك الدول العظمي للظروف الداعية للتدخل و هذه الظروف صارت معروفة بحكم متواليات التدخلات العصرية , إما بسبب أسلحة الدمار الشامل كما حدث في العراق و ما يحدث حاليا من إتهامات لسوريا , و إما بسبب الإرهاب كما حدث في أفغانستان , و إما بسبب حقوق الإنسان و الإبادة الجماعية كما حدث في يوغسلافيا السابقة و في الصومال و ما يتوقع أن يحدث في زيمبابوي و في السودان . التدخلات في كل تلك الأمثلة تكون شرعية و عن طريق مجلس الأمن و تشارك فيه قوات مشتركة من دول أخري . هكذا يكون الوصول الي المصالح إستنادا علي الشرعية الدولية !
هنا يتبادر السؤال الملح , إن كان الأمر كذلك لماذا لا تقطع الدول المهدَدَة في سيادتها الطريق علي عقوبات الشرعية الدولية بالتنازل عن تعنتها ؟ إن فعلت ذلك تكون قد قضت علي مصالح تلك الدول , لكنها لا تفعل ذلك و تتمادي في تعنتها و هذا ما تعرفه الدول العظمي من خلال معاهد أبحاثها و تحليلاتها الشخصية عن الفعل و رد الفعل . إن عالمنا العربي الإسلامي في إحتياج الآن الي رئيس دولة مثل معاوية بن أبي سفيان و شعرته المشهورة . هكذا هي السياسة , هي فن الممكن و اللعب للمصلحة .
في عالمنا الثالث لا زال هنالك من يحكمون بالسلطة المطلقة , و التي قال عنها المؤرخ الإنجليزي اللورد جون أكتون : ( السلطة تفسد , و السلطة المطلقة تفسد مطلقا ) . حتي و إن تجاوب هؤلاء الحكام بفعل الضغوط مع مطالب المشاركة و الديموقراطية و الحرية , أتوا بشيء من ذلك ليكف عنهم العين و إستمروا في غيهم يعمهون . لكن الشعوب تتعلم و تعي و تتأثر بما يحدث في العالم من ديموقراطيات حقة و تطبيقات نزيهة لها . هل سمعتم بدولة تمارس الديموقراطية الحقة قد وصل بها الحال الي الغزو من الشرعية الدولية ؟ لو كانت ديموقراطية حقة لإتخذت قراراتها من داخل برلمانها و لتوصلت الي حل نزاعاتها الداخلية بالطرق السلمية و لساوت بين مواطنيها في المواطنة و لصارت أكثر نزاهة و لتداولت السلطة سلميا . هكذا يمكن تفادي مصالح الدول العظمي الظالمة الآحادية الإتجاه و تحويلها الي مصالح عادلة ثنائية الإتجاه في فوائدها , و الحياة تبادل منافع .
أخيرا , تذكرت عمنا عطاي يرحمه الله و حماره , و الذي كنت قد ذكرته في مقالة لي سابقة . كان ذا بسطة في الجسم و له رأس قوي يكسر به الطوب , و كان يركب حماره لقضاء مشاويره , و كان حماره ( يحرن ) كثيرا و لا يتحرك رغم توسلاته له بكل مفردات اللغة الحميرية و رغم جره له , و عندما ( يزهج ) كان يمسكه من أذنيه و يقول له : ( ياخي ما زهجتنا ! ) و يضربه برأسه ( روسية ) تدور منها عينا الحمار ثم ينهار مغشيا عليه !