من الخرطوم إلى جنيف وبالعكس: قصة خبيرين

 


 

 



"إنني أعتقد أن الماجنا كارتا والقانون الدولي يستحقان أن نمنحهما بعض الإهتمام" نعوم تشومسكي
بدأت الدورة السادسة والثلاثون لمجلس حقوق الإنسان في جنيف إبتداءاً من 11 سبتمبر الجاري، ويفترض أن تستمر حتى التاسع والعشرين من سبتمبر حيث ستتناول هذه الدورة فيما تتناول وضع السودان بالنسبة لأجندة المجلس. معلوم أن السودان، ومنذ عام 1993 حين تم تعيين مسؤول خاص بشؤون حقوق الإنسان في السودان، وحتى الآن يشغل بنداً من جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان، ومن بعدها جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان الذي خلف اللجنة في عام 2007. جدول الأعمال الذي تم تبنيه بواسطة مجلس حقوق الإنسان بموجب قراره رقم 5/1 في 18 يونيو 2007 يحتوي على عشرة بنود، البند العاشر منها يتصل بتقديم المساعدة الفنية وبناء القدرات. وقد كان السودان موضوعا أول الأمر تحت البند الرابع، الذي يعني أن حالة حقوق الإنسان تتطلب إنتباه خاص من المجلس. ولكنه منذ العام 2011 وُضِع السودان تحت البند العاشر والمتعلق بالمساعدة الفنية وبناء القدرات
وما يميز هذه الدورة عن الدورات السابقة هو أن نصيب السودان فيها تقريران، الأول هو تقرير السيد أرستيد نونونسي، وهو الخبير المستقل بالنسبة لحالة حقوق الإنسان في السودان. والتقرير الثاني هو تقرير السيد إدريس الجزائري الخبير المستقل الخاص بأثر العقوبات الأحادية والتدابير القسرية على أوضاع حقوق الإنسان في السودان. والخبيران في واقع الأمر هما ممثلان للمجتمع الدولي الذي يهدف إلى حماية مصالح السودان كدولة، كشئ مختلف عن مصالح حكومته، والمتمثلة في حماية شعبه من إنتهاكات حقوق الإنسان، ولكن لكل منهما مجاله المختلف عن الآخر. ففي حين ينظر نونونسي إلى إنتهاكات حقوق الإنسان في السودان، والتي تتسبب فيها القوانين والسياسات الحكومية المطبقة فيه، ينظر الجزائري إلى تلك الإنتهاكات التي تسببها العقوبات المفروضة من قبل دول خارجية على السودان. وفي الوقت الذي يهتم السودان حكومة وشعباً بالتقريرين ، إلا ان الحكومة أكثر إحتفالاً بتقرير الجزائري من الشعب، وأقل إحتفالاً منه بتقرير نونونسي الذي لا ترى فيه سوى إتهامات يتوجب عليها دفعها، مع أن المسأله أعمق من ذلك بكثير .


الجانب الإيجابي لحالة حقوق الإنسان في تقرير نونونسي
بالنسبة لنونونسي فأن محتوى تقريره أصبح معروفاً بالنسبة لأنه كان قد أفصح عن رأيه في حالة حقوق الإنسان في السودان في البيان الصحفي المؤرخ 21 مايو 2017م والذي أصدره في الخرطوم عقب زيارته للبلاد
على الجانب الإيجابي يذكر نونونسي "ومنذ زيارتي الأخيرة للسودان التي أجريتها في فبراير 2017، لاحظتُ بعض التطورات الإيجابية. وفي هذا الصدد، فإنَّنِي أرحب بقرار رئيس جمهورية السودان الذي أصدره في 8 مارس 2017 بالعفو عن 259 من أفراد الحركات المسلحة الذين أُسِرُوْا أثناء القتال مع القوات الحكومية في دارفور. ويشتمل هذا العدد على 66 مقاتلاً كان قد حُكِمَ عليهم بالإعدام. وبالإضافة إلى هؤلاء فقد شمل العفو الرئاسي أيضاً على الإفراج عن اثنين من القساوسة الذين كان قد حُكِمَ عليهم بالسجن 12 سنة. وأَوَدُّ أيضاً أن أثني على الجهود الحكومية المبذولة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة من الصراع في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. فهذه التدابير مُرَحَّبٌ بها وآمل أن تساعد في تحسين البيئة السياسية والاجتماعية في البلاد.
وأخيراً، قد بلغني نبأ تعيين رئيس المفوضية القومية لحقوق الإنسان في السودان، الذي عُيِّنَ في 16 مايو. وأَوَدُّ أن أؤكد مُجَدَّدَاً أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه مؤسسة قومية مستقلة لحقوق الإنسان. وأناشد السلطات السودانية بملء الوظائف الشاغرة المتبقية للمفوضين بطريقة تتسم بالشفافية والتمثيل، ودعم مؤسسات حقوق الإنسان القومية بالتمويل اللازم لتمكينها من أداء مهامها بفعالية وبالإضافة إلى ذلك فإنَّنِي أَوَدُّ أن أؤكد ضرورة امتثال المؤسسة القومية لحقوق الإنسان لمبادئ باريس المتعلقة بأوضاع المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، وذلك لتتمكن من أداء دور حاسم في رصد وتعزيز التنفيذ الفعال للمعايير الدولية لحقوق الإنسان على المستوى الوطني "
والملاحظ هنا أن الجانب الإيجابي يتصل بقرارات محددة تتعلق بأحداث معينة ، ولكن عندما وصل الأمر إلى شغل المناصب في مفوضية حقوق الإنسان، تخلل العرض بعض من النقد الخفيف الذي يتدثر بغلالة رقيقة من النصح، عن أسس الإختيار وتقوية المفوضية بالمال، ثم وضرورة إتباع مبادئ باريس في عمل المفوضية.


الجوانب السلبية في حالة حقوق الإنسان
الإعتقال التعسفي
إنتهى هنا أي مظهر من مظاهر القبول للسياسات الحكومية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وبدء البيان في التعبير عن قلق الخبير حيال عدد من القضايا التي فشلت الحكومة في علاجها، وبدأها بالحديث عن بقاء الدكتور مضوي إبراهيم وحافظ إدريس رهن الإحتجاز، وفي فقرة مستقلة تحدث عن آدم احمد البشير والمعتقل من نوفمبر الماضي .
بالنسبة لمضوي وحافظ فقد عبر البيان بوضوح عن إعتقاد الخبير بأن المذكورين محتجزان فقط بسبب قيامهما بأعمال مشروعة في حماية وتعزيز حقوق الإنسان في السودان. ويجدر بنا أن نذكِّر بأن ذلك الإحتجاز المتطاول قد إستمر بالنسبة للمذكورين بعد ذلك البيان وحتى تم إسقاط الإتهامات الموجهة لهما بقرار جمهوري قبيل عيد الأضحى المبارك. وبغض النظر عن أي تفسيرات او تخريجات تكون لدى وفد السودان لدى المجلس، سيظل هذا الأمر غير مبرر، وسيقلل من تقييم أي مراقب المستقل لإلتزام السودان بمبادئ حقوق الإنسان. فمع تنهيدة الإرتياح بصدور القرار الجمهوري، كان هنالك الشعور أيضاً بما يطلق عليه الفرنجة في التعبير الفرنسي deja vue "لقد رأيت ذلك من قبل".

إنني من هنا أخاطب النائب العام من موقع حرص على هذه المؤسسة التي تحقق أخيراً ما طالما طالبنا به وهو فصلها عن السلطة التنفيذية، ومنحها الإستقلال اللازم لتقوم بواجبها في تمثيل المجتمع وليس الحكومة. وأدعوه إلى أن يقوم بدور تاريخي يحمي به هذه المؤسسة الهامة، وهو تحويل إستقلال النيابة العامة من نص قانوني إلى واقع معاش. وهو في تقديري السبيل الوحيد لحماية الأمن القومي بالمعنى الحقيقي للتعبير. فإستخدام المادة (50) من القانون الجنائي لقمع الرأي المعارض، يجب أن تمنعه النيابة العمومية تماما بعد أن تحقق لها إستقلالها عن السلطة التنفيذية، لأن معارضة الحكومة القائمة حق مشروع وضروري للمواطن في النظام الديمقراطي التعددي الذي يتبناه الدستور، وعلى النيابة أن تمنع أي محاولة للزج بأفعال المعارضة السياسية في دائرة الأفعال المعاقب عليها بالقانون الجنائي، لما في ذلك من إهدار لحقوق الإنسان.


اليد الثقيلة في مواجهة منظمات المجتمع المدني
ثم ينتقل الخبير المستقل من ذلك إلى مسألة هامة وأساسية وهي إصرار الحكومة على إستخدام اليد الثقيلة في مواجهة منظمات المجتمع المدني فيذكر .
"وأَوَدُّ أيضاً أن أحث السلطات السودانية للنظر في إجراء التعديلات اللازمة على قانون تنظيم العمل الطوعي والإنساني لسنة 2006، في السودان، لجعله يتماشى مع الدستور الوطني الانتقالي، والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. وأَوَدُّ -على وجه التحديد- أن أحث السلطات السودانية للنظر في إلغاء جميع الأحكام في هذا القانون التي تؤثر سلباً في عمل منظمات المجتمع المدني، ومن بين هذه الأحكام: المواد من المادة 7 إلى المادة 14 التي يتضمنها هذا القانون. ويجب أن يُسْمَحَ للجهات الفاعلة في المجتمع المدني بأداء أنشطتهم في بيئة مفتوحة وآمنة وسليمة."
ولقد تم إستخدام هذه المواد بواسطة مفوضية العون الطوعي والإنساني لشطب تسجيل عدد مقدر من منظمات المجتمع المدني، كما واستخدمت على وجه الخصوص المادة 11 من القانون، والتي تطلب تجديد الترخيص سنوياً لرفض تجديد تسجيل عدد من المنظمات الأخرى، سواء أكان ذلك بقرار إيجابي أم سلبي. وفي نهاية الأمر فقد تم إستهداف جميع المنظمات التي تهدف إلى ترقية وتعزيز حقوق الإنسان، أو الحكم الراشد وهي مسألة تضع السياسات الحكومية في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، والذي يعترف لمنظمات المجتمع المدني بدورها الأساسي في ترسيخ الديمقراطية في دول العالم الثالث. تقول مذكرة الأمين العام للأمم المتحدة المعروفة بإسم المذكرة الهادية " أن المجتمع المدني الحر والمنظم والنابض بالحياة هو أساسي بالنسبة للنظام الديمقراطي " .


الحريات الدينية
وأفرد الخبير المستقل فقرة في بيانه للحريات الدينية فذكر " ومن المخاوف الأخرى التي ناقشتها مع الأطراف ذات الصلة: الحاجة لضمان حماية حرية الأديان، وأشير هنا إشارة خاصة إلى هدم الكنائس وأماكن العبادة بواسطة جهاز الأمن الوطني. وقد اسْتُغِلَّجهاز الأمن الوطني أيضاً لترويع واحتجاز واعتقال قادة دينين مسيحيين. وقد أثَرْتُ هذه القضايا في نقاشاتي التي أجريتها مع المسؤولين الحكوميين باعتبارها مخاوف مشروعة يجب على حكومة السودان أن تنتبه لها، بالنظر إلى أهمية حرية الأديان في أيِّ مجتمع ديمقراطي "


الحريات الصحفية
أما بخصوص الحريات الصحفية فقد ذكر الخبير المستقل " وأَوَدُّ أيضاً أن أعَبِّرَ عن قلقي بشأن الرقابة المستمرة على الصحف، والقيود المتزايدة على الصحفيين التي تحد من تعبيرهم عن آرائهم بحرية. وفي هذا الصدد، فإنَّ إيقاف صدور صحيفة الجريدة في ديسمبر 2016 بواسطة جهاز الأمن والمخابرات الوطني يتعارض مع الدستور الوطني الانتقالي، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه جمهورية السودان. وقد أثَرْتُ هذه القضية مع السلطات السودانية، وأنا أطالب السلطات السودانية مطالبة قوية أن تؤكد أنَّ طلب الاستئناف الذي قدمته هذه الصحيفة قد حصل على مراجعة قضائية مستقلة، وآمل أن يُرْفَعَ قرار إيقافها وأن تحصل على التعويض المناسب" ويجدر بي أن أذكر بأن مصادرة أعداد الصحف ما زالت جارية على قدم وساق حتى في هذه الأيام التي تتم مناقشة هذه المسألة في جنيف.


الإصلاح القانوني
ويذكر نونونسي "وفي لقائي بلجنة التشريع في البرلمان السوداني، تلقيت تأكيدات على أنَّ عملية تعديل قانون الأمن الوطني والقانون الجنائي ستكتمل بضمان امتثالها للمعايير الدولية. وأنا مع وجهة النظر القائلة بأنَّ جعل جهاز الأمن والمخابرات الوطني -بما يتماشى مع المعايير الدولية- هيئة حكومية تعمل كوكالة استخبارات تُرَكَّزُ على جمع المعلوماتوتحليلها، وتقديم النصح للحكومة، سيساعد في تحسين بيئة حقوق الإنسان في السودان"
وهكذا نرى أن قلق الخبير المستقل فيما يتعلق بحقوق الإنسان في السودان قد شمل الإعتقال التعسفي، وحرية التنظيم بالنسبة للمجتمع المدني، والحريات الدينية، والحريات الصحفية، وأخيراً القوانين التي تؤثر بشكل مباشر على حركة الأفراد ونشاطهم، وهما قانونا الأمن والمخابرات، والقانون الجنائي . على ضوء كل ذلك يصعب القول بأن حالة حقوق الإنسان في السودان مطمئنة، مهما إستخدم الوفد الحكومي من مهارات في الجدل.


العقوبات الأحادية والتدابير القسرية
التدابير القسرية الانفرادية هي التدابير الاقتصادية التي تتخذها إحدى الدول لإجبار دولة أخرى على تغيير سياسة تتبعها تلك الدولة. ومن الأمثلة على هذه التدابير العقوبات التجارية، في شكل عمليات حظر التبادل التجاري، ووقف تحويل الأموال المالية، والاستثمارات، بين البلدان المرسِلة والبلدان المستهدَفة. وفي الآونة الأخيرة، استخدمت بعض الدول عقوبات "ذكية" أو "محددة الهدف" مثل تجميد الأصول الخاصة ببعض الأشخاص الذين يعتقد أنهم يتمتعون بنفوذ سياسي في الدولة المستهدَفة، و تقييد تنقلات أولئك الأشخاص الخارجية من أجل التأثير على سياسة تلك الدولة (قرار مجلس حقوق الإنسان 19/33 ). ويجب التمييز بين تلك العقوبات والتي تقررها دولة أو عدد من الدول بإرادتها أو إرادتهم المنفردة، وبين العقوبات الإقتصادية والعسكرية التي تتخذها أحهزة الأمم التحدة بموجب سلطاتها المنصوص عليها في الميثاق والتي لا يوجد شك في مشروعيتها وبين العقوبات الأحادية التي ثار الشك في مشروعيتها، لما تنطوي عليه من إنتهاك لسيادة الدولة المستهدفة.


أثر التدابير القسرية الانفرادية على التمتع بحقوق الإنسان
في 22دﻳﺴـــــــﻤﱪ عام 1991 أصدرت الجمعية العامة قرارها رقم ا٢٠٠/٥٤ المعنون "اﻟﺘﺪاﺑﲑ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ وﺳـﻴﻠﺔ ﻟﻠﻘﺴـﺮ اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ واﻻﻗﺘﺼﺎدي ﺿﺪ اﻟﺒﻠـﺪان اﻟﻨﺎﻣﻴـﺔ" والذي حثت فيه المجتمع اﻟﺪولي، ﻋﻠﻰ إتخاذ ﺗﺪاﺑـير ﻋﺎﺟﻠــﺔ وﻓﻌﺎﻟــﺔ ﻟﻮﻗــﻒ اﺳــﺘﺨﺪام اﻟﺘﺪاﺑـير اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳـــﺔ اﻟﻘﺴﺮﻳﺔ اﻷﺣﺎدﻳﺔ ﺿﺪ اﻟﺒﻠﺪان اﻟﻨﺎﻣﻴـﺔ، التي ﱂ ﺗـﺄذن بهـﺎ أﺟـﻬﺰة اﻷﻣﻢ المتحدة ذات اﻟﺼﻠﺔ، أو التي ﺗﺘﻌﺎرض ﻣﻊ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻘﺎﻧﻮن الدولي اﻟﻮاردة في ﻣﻴﺜﺎق اﻷﻣـﻢ المتحدة، أو ﺗﺘﻨـﺎفى ﻣـﻊ المبادئ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻨﻈﺎم اﻟﺘﺠﺎري المتعدد اﻷﻃﺮاف. وقد طلبت الجمعية العامة من الأمين العام أن يقدم تقريرا حول هذه المسألة والذي طلب بدورهـ من عدد من الدول تقديم تقارير عن أثر تلك العقوبات عليها. وقد قدمت ثلاثة عشر دولة ردودها التي ضمنها في تقريرهـ.
من الواضح أن هذه العقوبات الإقتصادية من شأنها أن تعرقل مجهودات الدولة المستهدَفة في توفير الحقوق الإقتصادية والإجتماعية وهي حقوق تُشكل جزءً من منظومة الجيل الثاني من حقوق الإنسان. بالنسبة للحقوق الإقتصادية فمعلوم أنها تدريجية، وهذا يجعلها مختلفة عن الحقوق السياسية الواجبة التطبيق فور صدورها. فحرية التنظيم على الدولة أن توفرها بشكل فوري، ولكن الحق في التعليم مثلاً يحتاج لإيجاد المدارس والمدرسين والمناهج، وهذا لا يعني أن الدولة لا إلتزام عليها بتوفير حق التعليم حتى ذلك الحين، بل يعني أن عليها أن تعجل بتوفير المدارس والمعلمين والمناهج، بشكل متزايد حتى تصل لمرحلة توفير حق التعليم للجميع. ولكن العقوبات الإقتصادية الأحادية إما تعرقل قيام الدولة بتلك الإلتزامات، أو تستخدمها الدولة المستهدفة ذريعة للتنصل من ذلك الإلتزام.


شكوك حول مشروعية التدابير القسرية
وقد تناولت عدة مناقشات وقرارات وتقارير مقدمة إلى الجمعية العامة، ومجلس حقوق الإنسان، ولجنة حقوق الإنسان السابقة، مسألة أثر التدابير القسرية الانفرادية على التمتع الكامل بحقوق الإنسان. وقد دعا إعلان وبرنامج عمل فيينا اللذان اعتمدهما المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في عام 1993 الدول إلى "الامتناع عن أي تدبير انفرادي لا يتفق مع القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، ويخلق عقبات أمام العلاقات التجارية فيما بين الدول، ويعوق التفعيل الكامل للحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، ولا سيما حقوق الجميع في مستوى معيشي ملائم لصحتهم ورفاههم، بما في ذلك الرعاية الغذائية والطبية والإسكان والخدمات الاجتماعية الضرورية ".
ذكرت السيدة فيرا غولاند دبّاس رئيسة حلقة العمل التي عُقدت إستجابة قرار مجلس حقوق الإنسان 24/14 في الجلسة الإفتتاحية "أن استخدام التدابير القسرية للحصول من دولة ما على تنازلات عن ممارسة حقوقها السيادية، أوالحصول منها على مزايا من أي نوع، ينتهك مبدأ عدم التدخل، ما لم يكن من قبيل التدابير المضادة التي يسمح القانون الدولي العرفي الخاص بمسؤولية الدول، الذي دوّنته لجنة القانون الدولي، بإتخاذها من قبل دولة تضررت من جراء عمل غير مشروع دولياً من قبل دولة أخرى، على أن تخضع تلك التدابير للشروط والقيود المحددة في القانون. وهذه تشمل مبدأ التناسب، واحترام الالتزامات المتصلة بحماية حقوق الإنسان الأساسية، واحترام الالتزامات ذات الطابع الإنساني، فضلاً عن القواعد القطعية للقانون الدولي العام."


تعيين مقرر خاص
عين مجلس حقوق الإنسان، في دورته الثامنة والعشرين ، إدريس الجزائري بصفته أول مقرر خاص معني بالتأثير السلبي للتدابير القسرية الانفرادية على التمتع بحقوق الإنسان، وقد تقلد مهام منصبه في مايو 2015، وطلب المقرر الخاص، منذ تعيينه في آذار/مارس 2015، زيارة إيران (جمهورية - الإسلامية) وكوبا والولايات المتحدة الأمريكية. ودُعي إلى زيارة السودان. وقد تمت الزيارة بالفعل في نوفمبر 2015
نشر الجزائري ملاحظات وتوصيات أولية في نوفمبر من العام الماضي بعد زيارته للسودان قال فيها “ إن الإجراءات القسرية الأحادية طُبّقت على السودان منذ عقدين دون تعديلها لتتناسب مع التطور المستمر للأوضاع الداخلية، علما بأن الوضع الذي كان سائدا في 1997 يختلف تماما عن الوضع الراهن. بل وإن هذه الإجراءات لم تتغير حتى بعد إبرام اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005، ولا بعد التحسن التدريجي الذي طرأ في مجال الحكومة، ولا بعد الشروع في تنفيذ مبادرة الحوار الوطني. فقد كان تطور العقوبات يتذبذب فقط بحكم تطورات ظرفية. وأضاف الجزائري أن الواقع أثبت عدم تأثير العقوبات سلبا على المسئولين ولا على نخبة ما ، وإنما أثرت كليا على المواطنين الأبرياء وعلى تعميق التفاوت في توزيع الدخل بين طبقات المجتمع السوداني، وبين الأقاليم، كما أدى إلى توسيع السوق السوداء، وانفلات التحكم بالتحويلات المالية فخرجت هذه الأخيرة من الشبكات المصرفية الرسمية مما شجّع تطوير اقتصاد موازي يتعرض لكل إمكانيات الاستغلال غير الشرعية. وأورد المقرر انطباعاته لعدد من القضايا التي تؤثر على حقوق الإنسان. وقال الحق في الحياة والحق في الصحة تأثرا بسبب عدم القدرة على الحصول على قطع الغيار للأجهزة والأدوية المنقذة للحياة، فأصبح السودان من الدول القليلة التي يموت فيها المصابون بمرض السكري، نظرا لعدم قدرة الحصول على الأدوية، لأنها لا تُنتج إلا في دولتين تُشاركان في الحصار.


تقرير الخبير الثاني
وعليه فإنه لم يكن هنالك شكا في أن تقرير الخبير سيكون إيجابياً من وجهة نظر الخرطوم. بتاريخ 14/9 2017 قدم المقرر الخاص للأمم المتحدة إدريس الجزائري تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان دعا فيه المجتمع الدولي إلى إلى الإمتناع تدريجيا عن اللجوء إلى العقوبات الأحادية. وقال السيد الجزائري أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف: "آمل أن نتحرك نحو نظام دولي قائم على سيادة حكم القانون، يسعى إلى الحوار بدلا عن الإكراه"، وعرض في تقريره سلسلة من التدابير الجديدة المقترحة من قواعد السلوك التي تهدف إلى التقليل إلى أدنى حد من الآثار السلبية المترتبة على الجزاءات في مجال حقوق الإنسان. وتشمل مقترحاته إنشاء سجل للجزاءات - يعرف رسميا بالتدابير القسرية الانفرادية - لضمان أن تكون الدول والمواطنين والمجتمع المدني على علم تام بالتدابير المأخوذة والاعفاءات المقررة من تطبيقها.
وقال السيد الجزائري "لحين القضاء على العقوبات في نهاية المطاف، يجب على جميع الدول الالتزام بتقييم أثرها على حقوق الإنسان، وإخضاعها للاستثناءات الفعالة التي تضمن مراعاة الإعتبارات الإنسانية، وعدم إنتهاك حقوق الإنسان، مع ضمان مراعاة الإجراءات القانونية السليمة عند تطبيقها".وحث الخبير الدول على تجنب تنفيذ سياساتها الداخلية فيما يتعلق بالجزاءات، خارج حدودها الإقليمية لأن ذلك يعتبر، على نطاق واسع، غير مشروع ويجب وقفه فورا. كما دعا المقرر الدول إلى إيجاد سبيل انتصاف فعال لضحايا العقوبات، بما في ذلك التعويض المالي المناسب والفعال."والتي يجب أن يتحملها البلد الذي يفرضها. "إن المبادئ التي تقوم عليها سيادة القانون تتطلب وجود وسيلة للإنتصاف بالنسبة لمن أصابهم الضرر بشكل غير قانوني" واضاف "اننى احث الدول على دعمي فى جعل هذه المقترحات حقيقة واقعة".
هذه هي الملامح الرئيسية للتقريرين وفيهما يبدو أن شعب السودان يعاني من إنتهاكات بالنسبة لحقوقه التي توفرها له الوثائق الدولية الملزمة والمتعلقة بحقوق الإنسان. والمتوقع هو أن يكون قرار المجلس بالنسبة لموقف السودان من أجندة المجلس هو إبقائه تحت البند العاشر. فالثابت هو أن مصالح التكتلات الغالبة داخل المجلس تتجه لإتخاذ موقف غير معاد للسودان، ولكنها لن يكون في وسعها الإستجابة لطلبه برفعه تماماً من جدول أعمال المجلس وحال حقوق الإنسان فيه على النحو الموضح أعلاه، ولذلك فقد يكون المخرج هو إبقاء السودان تحت البند العاشر. ورغم ذلك فإن القرار في حد ذاته لن يؤدي إلى تحسن في حالة حقوق الإنسان في السودان مالم تتوفر الإرادة السياسية لذلك لدى القوى الداخلية الفاعلة.
أما بالنسبة للعقوبات الأمريكية فلا يتوقع أيضاً أن يكون للقرار أثراً مباشراً على العقوبات التي هي في يد الحكومة الأمريكية والتي إن شاءت ابقتها وإن شاءت تركتها. ولا يبدو أن إدارة الرئيس ترمب أكثر حرصاً على حقوق الإنسان من حكومة السودان، ولذلك فمن غير المتوقع أن يؤثر أي قرار من المجلس على القرار التي ستصدره الإدارة الأمريكية بشأن رفع العقوبات. أما وقد قلنا ذلك، فإننا نعتقد أن المرجح هو أن ترفع العقوبات الأمريكية في أكتوبر القادم بغض النظر عن قرار المجلس، وذلك لأن السودان قد إلتزم بتعهداته وفق المسارات الخمس التي ليس من بينها حقوق الإنسان، ولأن العقوبات قد أثبتت لكل ذي عينين عدم جدواها .

نبيل أديب عبدالله/ المحامي

nabiladib@hotmail.com

 

آراء