من تاريخ البريد والبَرْق في العقدين الأولين للحكم الثنائي Percy Martin بيرسي مارتن ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في الفصل السابع من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution)، الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل تاريخ الهاتف والبريد والبَرْق بالبلاد في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري. للمزيد عن تاريخ البريد والبَرْق بالسودان يمكن الاطلاع على ما ورد في موسوعة الويكيبيديا في الرابط: https://en.wikipedia.org/wiki/Postage_stamps_and_postal_history_of_Sudan . وسبق لنا ترجمة مقال صغير صدر عام 1987م عن تاريخ الطوابع البريدية بالسودان بقلم جاك ديفيز http://www.sudanile.com/24403 المترجم ***** ****** ***** تتولى الحكومة إدارة الهواتف والبريد والبَرْق (التلغراف) بالبلاد، ولم يسمح قط للقطاع الخاص بالدخول في هذا المجال، وليس من المستحسن دخوله فيها. وأدخل نظام للهواتف في خمس مدينة رئيسة بالسودان، بلغ عدد المشتركين فيه 250 فردا. وهنالك أيضا قليل من الدوائر الخاصة. وكان لبعض مديري المديريات خط هاتفي يوصلهم بالمراكز الرئيسة في مديرياتهم التي لم تصلها بعد خدمات البَرْق، وذلك لاستخدامه في الأمور الإدارية العاجلة. وكانت كل الأسلاك (الهاتفية) مشدودة أعلى أعمدة. وكانت كل المكالمات الهاتفية تتم وفقا لنظام إريكسون المسمى (Magento call system)، ويقال إنه نظام حسن فعال يعمل بصورة مرضية. غير أن حماية ذلك النظام من التيارات العالية ما زال غير كافٍ، خاصة وإنه لم تتخذ – إلى الآن - التدابير الكافية لحماية أسلاك الهاتف عند تقاطعها مع أسلاك الكهرباء في بعض المدن. ورغم أن هنالك عدد قليل نسبيا من المشتركين في دوائر الهواتف، إلا أن عدد مستخدمي الهواتف في الخرطوم ليس بالقليل. وأعيد إنشاء نظام الهواتف في مدينة بورتسودان بعد أن أقيم فيها عبر الميناء كَبْل (شريط) جديد باثنين وثلاثين قلبا (32 – core cable). وقد اكتمل العمل في هذا المشروع قبل عدة سنوات، ولم يعد التبادل الهاتفي مع الجزء الشرقي من المرفأ يستخدم الآن. وبقيت دوائر الهاتف التي تربط مدينة واو ومشرع الرنك وبور وشيخ تومبي مصدرا لصعوبات ومشاكل عديدة. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فمن المتوقع أن تحتاج الهواتف في المناطق الرطبة بالمناطق المدارية إلى اهتمام خاص. وليس هنالك مسوغ (اقتصادي) لتعيين شخص بمؤهلات فنية مناسبة ليقف بصورة مستدامة على صيانة هتافين فقط. وحتى وقت قريب كان كل العاملين في داخل مكاتب مصلحة الهاتف والبَرْق قد أقبلوا من مصر، وظل كبار الموظفين في تلك المصلحة من تلك الجنسية حتى عامنا هذا (1920م). غير أنه يجري الآن، ومن باب تشجيع الحكومة لبناء قدرات سودانية، ترشيح عدد من طلاب المدارس السودانية لتعيينهم في المصلحة. ويجب على هؤلاء المرشحين اجتياز اختبارات تنافسية للقبول في هذه الوظائف. ولكن، على الرغم من أن هذه الاختبارات تجرى بدقة وحرص، إلا أنه وجد أن من يقبلون في نهاية المطاف من هؤلاء الطلاب أضعف مستوىً من الذين يأتون من الخارج. غير أنه بالنظر إلى أن التعليم في السودان ما زال في بداياته، وأن قلة قليلة فقط من هؤلاء الطلاب كانوا من أبناء أناس متعلمين، أو حتى ملمين بأساسيات اللغة الإنجليزية، فإن النتائج التي تحصل عليها أولئك الطلاب في امتحانات القبول تعد جيدة بصورة غير اعتيادية. ولم يواجه المعلمون الفنيون بالمصلحة صعوبات تذكر في تدريب العدد الكافي من الفنيين للعمل فيها. ويمكن للصبي الذي أكمل أربعة أعوام بالمدرسة الأولية أن يغدو "عامل / مشغل هاتف" كفء بعد نحو عام من التدريب في مدرسة البريد والبَرْق. ويُعد المرتب المعروض لتلك الوظيفة معقولا، وفرص الترقي متاحة للعاملين بتلك الوظيفة إن أبدوا قدرات جيدة في أداء عملهم. لقد ازداد معدل العمل الملقى على أقسام البريد والبَرْق والهاتف بمعدل سنوي يتراوح بين 25 و40%، وكان من اللازم أن تتم المحافظة على أعداد من الفنيين تكفي لمقابلة تلك الزيادة المضطردة في الخدمات التي تقدمها المصلحة. وكان غالب سكان الخرطوم وأجزاء السودان الأخرى يستأجرون صناديق بريد في مكاتب البريد الرئيسة، إذ أن كلفة الايجار كانت معتدلة جدا (لعل الكاتب يقصد "غالب الموظفين" وليس "غالب السكان". المترجم). ودأبت المصلحة على تقديم خدمة توصيل الخطابات للمنازل. غير أن تلك الخدمة لم تلق الكثير من القبول والرضا، على الأقل في الخرطوم، ولدرجة أقل ربما في الخرطوم بحري وأم درمان. وربما يكون السبب في ذلك يعود للشك في موثوقيته وإمكانية الاعتماد عليه. وسُجلت الكثير من الشكاوى من عدم أو قلة الكفاءة في تسليم الرسائل لأصحابها في منازلهم. غير أن السلطات تدفع عن نفسها تلك التهمة وتصفها بأنها "ليست مبررة تماما". ولا بد أن عدم الرضا من خدمات المصلحة حقيقي بلا شك. وقد يكون سببه طريقة إيصال البريد من أوروبا عبر ميناء الإسكندرية. فقد كان البريد (الصادر أو الوارد للسودان) كثيرا ما تفوته السفينة من الإسكندرية، فيتأخر تسليم الخطابات لأصحابها لثلاثة أو أربعة أيام، وهذا أمر مؤسف، خاصة في حالة الرسائل المهمة والعاجلة. وواضح أن المشكلة ليست مسؤولية موظفي المصلحة بحال، فهم يقومون بواجباتهم على أتم وأكمل وجه. ولكن اللوم بلا شك يقع على إدارة السفن والبواخر التي لا تلتزم بالمواعيد، ولا تعاقب المقصرين من منسوبيها عند اخلالهم بانتظام مواعيد إقلاعها. وبما أن البريد الصادر والوارد من أوروبا للسودان سيتزايد في الحجم والأهمية مع مرور السنوات القادمة، فينبغي الانتباه بدقة لمثل ذلك التأخير المتكرر للسفن التي تحمل ذلك البريد، وعمل ما يلزم حياله. يمتد نظام البَرْق في السودان الآن مسافة 500 ميل من الأعمدة و10,000 من الأسلاك. وتتم بصورة مستمرة صيانة وإصلاح تلك الأعمدة والأسلاك. وتعد خدمة الهواتف مرضية على وجه العموم. وتفرض المصلحة ثلاثة أنواع من الفئات نظير خدمة إرسال البَرْقيات، فهنالك المؤجل، والعادي، والمستعجل. فأما المؤجل فهو رخيص الثمن ولكنه يستغرق نحو 48 ساعة في الارسال بعد تسليمه في مكتب البريد. وتأخذ البَرْقيات المستعجلة بالطبع الأسبقية على النوعين الآخرين في الإرسال وفي التسليم لمن بعثت له. ويمكن للمرء تقدير أهمية وسرعة وفائدة نظام البَرْق في السودان، حيث تقع مواقع بعض المسؤولين على بعد ألف ميل أو تزيد عن الخرطوم، وقد يستغرق وصول رسالة لها بالبريد العادي ما بين ثلاثة إلى أربعة أسابيع، في أحسن الأحوال. ولا زالت للبرقيات المؤجلة شعبيتها، ويستخدمها الكثير من مديري المديريات، خاصة في بعث الرسائل العامة. ويستغرق إرسال تلك الرسائل نحو يومين. غير أن فكرة بعث تلك الرسائل بهذه الطريقة ليس أمرا مستحسنا أو آمنا، إذ ان الاحتفاظ بتلك الرسائل الحكومية ليومين كاملين في محطة الاستقبال قد يعرضها لسوء الاستخدام أو الاستغلال. ولا أعلم عن أي قطر آخر في العالم يستخدم مثل ذلك النظام الذي يقوم فيه مكتب محطة الاستقبال بالاحتفاظ بالرسائل إلى أن يبعث بها لأصحابها متى يحلو له. وكانت الكوابل تفشل في أداء عملها في بعض الأحايين، وكان ذلك يحدث عادةً في الشواطئ التي توضع فيها تلك الكوابل مغمورة بالماء لعدد من شهور السنة، وتبقى مدفونة في تربة شديدة الجاف لشهور أخرى. ويستحيل الوصول لتلك الكوابل عندما تتعطل إبان موسم فيضان النيل، إذ أنها تكون مغمورة بالمياه تحت عمق يصعب الوصول إليه. وهذا ما حدث بالفعل في أغسطس من عام 1913م عندما تعطل الكَبْل المغمور في مدني تحت مياه النيل الأزرق، وكان يربط الخرطوم بكسلا. وتأثر سلبا أيضا الخط (الأرضي) البديل الرابط بين كسلا وسواكن. وأفضت تلك الأعطال لقطع كسلا تماما عن أي اتصال هاتفي بالعالم لعدة أيام. وتم إجراء مسح لمسار خط البَرْق على طول شاطئ النيل الأبيض من ملوط إلى ملكال وذلك لاختبار مدى موثوقيته والاعتماد على خدمته. ولا شك عندي في أن خدمات البَرْق لأوروبا من غرب أفريقيا ستمر عن طريق النيل. غير أن ذلك لن يحدث إلا إذا تأكد ضمان أن ذلك الطريق آمن ومحمي من عوامل الاختطار التي تشمل الحيوانات المفترسة وحرائق الغابات والأعشاب، التي تقلل بالطبع من فعاليته. وسيكون من الأمور النافعة إن تيسر استبدال الكوابل بما يعرف بـ "التقاطعات الفوقية overhead crossings"، إذ أن صيانة وإصلاح الكوابل بصورة متكررة أمر عسير فنيا، وهنالك نقص واضح في عدد الفنيين المؤهلين لاكتشاف الأعطال وإصلاحها، وقد يستغرق ذلك في بعض الحالات ستة أشهر كاملة، تتعطل في غضونها خدمات البَرْق في مناطق عديدة بالبلاد. وعند النظر لتطور وازدهار الخدمات العامة (كالبريد والهاتف والبَرْق) في السودان، لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن هذا البلد لم ينعم بمزايا حكومة متمدنة إلا منذ عشرين عاما فقط. وعلى الرغم من أن غالب مكاتب البريد والبَرْق في السودان لا تدر للحكومة دخلا مربحا، إلا أن صيانتها واجبة لأغراض حربية وإدارية متعددة ومهمة، وينبغي الاحتفاظ بموظفين كُثر من أجل القيام بأداء الأعمال فيها بصورة مقبولة. ويشهد كل عام تحسنا وتقدما في خدمات البريد بالسودان. إلا أن تلك الخدمات قد تضررت من قيام الحرب الأوربية (المقصود هي الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 – 1918م. المترجم). فقد أوقفت في تلك السنوات خدمات الاتصال الخارجي التي كانت تقدمها شركتي Austrian - Lloyd وP.&O. بينما لم تتأثر خدمات الاتصالات الداخلية. ولم يتم أي استثناء لقطع خدمات الاتصال الخارجي سوى تلك المقدمة من شركة P.&O. عبر البحر. وتم أيضا في سنوات تلك الحرب إيقاف خدمة إرسال الطرود والحوالات المالية البَرْقية للدول الأجنبية ما عدا بريطانيا العظمى، وذلك بصورة مؤقتة. وأعيدت مؤخرا تلك الخدمات لسابق عهدها. وأدخلت لأول مرة بالسودان في عام 1915م خدمات التلغراف اللاسلكي (تسمى تقنيا "التلغافية اللاسلكية". المترجم). وتم رصد مبلغ 5,700 من الجنيهات المصرية في العام الماضي (1919م) لربط قامبيلا بالحبشة مع النقطة العسكرية السودانية في الناصر، الواقعة على نهر السوباط. وأدخل نظام للتلغراف في ملكال، حيث أقيمت بها ثلاث محطات لخدمات التلغراف اللاسلكي. وأدى قيام الحرب الأوربية، للأسف، لتأخير المشروع بسبب عدم وصول المعدات اللازمة من بريطانيا في موعدها المقرر. غير أن العمل في المشروع قد استؤنف الآن. لم يصب أي قسم أو مصلحة بالسودان نجاحا باهرا مثل ذلك الذي أصابه فرع المخابرات / المعلومات التجارية Commercial Intelligence Branch في المجلس الاقتصادي المركزي، الذي أنشئ بموجب المرسوم رقم 427، الصادر في يونيو من عام 1906م. وكان وظيفة ذلك القسم استشارية محضة، ولكن مقترحاته وسجلاته كانت شديدة الأهمية في مساعدة الحكومة على تطوير مقدرات البلاد ومواردها. وتألف ذلك المجلس الاقتصادي من ستة أعضاء. وكان من مهام ذلك المجلس دراسة ما يقدمه لهم الحاكم العام للبلاد من تقارير عن خطط الحكومة لإقامة مشاريع اقتصادية وتجارية وتنموية. ويمكن لأي عضو بالمجلس أن يبتدر تقديم اقتراحاته للمجلس لدراستها وتقييمها. وينتهي دور المجلس عند دراسة المقترحات وتقديم رأيه بشأنها، إذ ليس له أي صلاحيات تنفيذية. وترأس ذلك المجلس منذ قيامه سير أي. أي. بيرنارد (السكرتير المالي لحكومة السودان). وكان يدعو المجلس للانعقاد على فترات متفاوتة بحسب ما يتجمع عنده من موضوعات في جدول أعماله. وكان من بين أعضائه، من وقت لآخر، السكرتير الإداري، ومدير السكة حديد، ومدير البواخر والوابورات، ومدير مصلحة الزراعة والغابات، ومدير المعارف، ومدير خدمات مصلحة البيطرة، ومدير معمل ويلكم لأبحاث المناطق المدارية (ومعه رئيس قسم الأبحاث الكيميائية بالمعمل كعضو إضافي). وكان للمجلس مكاتب وطاقم إداري، وكان يتبع إداريا لمصلحة المالية. وكانت من أجلّ خدمات ذلك المجلس نشره لتقرير سنوي ضخم يحوي كل المعلومات (الدقيقة) عن التجارة والأعمال بالسودان. وكان ذلك التقرير يباع بثمن معقول ليسهل على كل من له رغبة في معرفة الأحوال الاقتصادية بالسودان الحصول عليه. وكان العاملون بالمجلس لا يتلقون راتبا (أو حافزا) إضافيا على عملهم به، على اعتبار أنهم يعملون موظفين في الحكومة. غير أن الموظفين والكتبة المتفرغين للعمل بالمجلس يتلقون رواتبهم منه.