من تاريخ الرق في السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Slavery in the Sudan in History
Robert O. Collinsروبرت كولنز
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لجزء من مقال طويل لبروفيسور روبرت كولنز عن الرق عبر العصور بالسودان نشر في العدد العشرين من مجلة " الرِّقُّ وإلغاؤه Slavery and Abolition" الصادرة عام 1999م.
وبروفسيور كولنز (1933 -) من كبار مؤرخي السودان، إذ كان قد كتب أول بحث له عن السودان في عام 1954م بعنوان "أمين باشا في الاستوائية" ثم حصل على درجة الماجستير من جامعة أكسفورد البريطانية، nnnnودرجة الدكتوراه في عام 1959م من جامعة ييل الأمريكية بأطروحة عنوانها: "غزوات المهدية لجنوب السودان بين عامي 1883 و1889م". ونشر بروفسيور كولنز في غضون العقود الخمسة الماضية عددا كبيرا من الكتب والمقالات، وعمل أستاذا للتاريخ في جامعة كاليفورنيا (سانت باربرا)، ثم أستاذا زائرا في جامعات الخرطوم والجزيرة وجوبا وتل أبيب وبرجن وأكسفورد ودرم وبوسطن.
وسبق لنا ترجمة مقال مشابه لأليس موور – هاريل عنوانه " تجارة الرقيق في السودان في القرن التاسع عشر ومنعها بين عامي 1877 – 1880م"، ومقال لهيزر شاركي عن " الرق المنزلي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في شمال السودان"، ضمن مقالات مترجمة أخرى عن ذات التاريخ.
المترجم
***** *******
للرق وتجارته في السودان تاريخ قديم، كان أول ما سجل منه، بحسب ما جاء في كتاب" تاريخ السودان" بقلم آركل، نقش على نتوء صخري بالنيل، بالقرب من الشلال الثاني في عهد أول فرعون في الأسرة الحاكمة خنت دجر Djerحوالي عام 2900 ق.م. ويوضح ذلك النقش الحجري منظر ملك النوبة وهو مقيد على مقدمة السفينة المصرية مع ثلة من أتباعه في طريقهم للاستعباد في مصر. وفي القرون التي تلت ذلك تدفقت على مصر القوافل والمراكب حاملة أعدادا كبيرة من المسترقين الذين كانوا يعدون من ضمن صفقات البضائع المتبادلة. غير أن الأعداد الأكبر من المسترقين كانت تأتي من الذين يقبض عليهم في الحملات العسكرية التي كانت يشنها فراعنة مصر جنوب أسوان في أرض النوبة في غضون سنوات عصر الممالك القديمة والوسيطة والحديثة (31 سلالة حاكمة) التي امتدت من عام 2900 ق.م إلى عام 332 ق. م. وكان المسترقون يعدون ملكا خاصا للفرعون، وعادة ما كان يلحقهم بجيشه، أو يعينهم خدما في قصوره أو في دور النبلاء، أو يهب الفتيات المسترقات كمحظيات لمن يرغب في نيل ولائهم من القواد والنبلاء. غير أنه من الواجب ذكر أن الاقتصاد المصري في عهد الفراعنة لم يكن يعتمد على عمل المسترقين إلا في مناجم الذهب والدَيُوريت في بلاد النوبة.
وبلغت الإمبريالية الفرعونية أعلى مراحلها في المملكة الفرعونية الحديثة (بين عامي 1580 و1085 ق.م) حين سيطر فراعنة ذلك العهد على وادي النيل من أرض النوبة (الشلال الرابع بالقرب من جبل البركل) حتى الدلتا، والذين كان عدد سكانه يقدر بـ 3000000 نسمة. واستوعبت تلك الفترة الطبقة العليا من النوبيين في مصر الفرعونية في عصر الأسْرات، حين اِزدهرت أحوال تلك الطبقة اقتصاديا بفضل النمو الاقتصادي الذي جلبته المشاريع الاقتصادية التي أنشأها الحكام الفراعنة. غير أن ذلك الازدهار الاقتصادي لم يشمل النوبيين من الأقنان والعمال والرقيق.
وفيما تلى من عقود شكل المسترقون النوبيون وأحفادهم في مصر العنصر الرئيس في الجيوش المصرية، وانتقل ولاء هؤلاء إلى الأسرات النوبية الحاكمة في عام 751 ق. م. ثم أحتل الآشوريون والفرس مصر – لفترات قصيرة – وكان من نتائج ذلك الاحتلال انتعاش تجارة الرقيق مع مملكة كوش القوية.
واندثرت أو كادت حضارة مصر في عهد الأسرات الفرعونية بعد اِحتلال الإسكندر الأكبر لها في عام 332 ق. م. وأدخل ذلك الاحتلال على مصر تأثيرات عديدة من حضارة بلاد البحر الأبيض المتوسط تطلبت وجود رقيق للعمل في الجندية والمناجم والمحاجر والبحرية والبيوت وغرف النوم. وبقي النوبيون هم المصدر الأساس للرقيق في عهد البطالمة (عائلة من أصل مقدونى نزحت لمصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو "بطليموس" حكم مصر) والرومان Roman Perfects.
ثم قامت مملكة كوش شامخة في نبتة ومروي بثقافتها الخاصة وجيوشها القوية، مستعدة لصد أي غزو من الشمال. وشن البطالمة والرومان حملات عسكرية جنوب أسوان، وغزوا نبتة طلبا للرقيق والذهب في عام 23 ق. م. غير أن تلك المعركة لم تكن إلا مظهرا لـ "غضبة إمبريالية عابرة"، إذ أن البطالمة والرومان كانوا أكثر رغبة في الحفاظ على أمن حدودهم الجنوبية وإقامة علاقات تجارية مع جارتهم الجنوبية من مجرد تكديس الرقيق السوداني، خاصة وقد كانوا يستخدمون هؤلاء في جيوشهم. لذا بقيت مملكة كوش آمنة في مروي حتى 350م، حين سقطت، بعد اِضمحلالها التدريجي، على يد الملك الإثيوبي عيزانا King Ezana (ملك مملكة أكسوم في القرن الرابع الميلادي)، والذي لم يهاجم كوش من أجل الرقيق، بل من أجل التوسع الإمبريالي. غير أن الرق والاتجار فيه لم يتوقف بعد سقوط مملكة كوش.
وبدأ قيام الممالك المسيحية بالسودان بين عامي 543م و580م. وظلت العبودية بأرض النوبة كما هي، فقد كان كل سكان أرض النوبة (من النبلاء والرقيق) يعدون في القرن التاسع الميلادي ملكا (قانونيا) خاصا لملك المقرّة المسيحي. غير أن سكان أسوان باعوا أرضهم للمسلمين نكاية في سادتهم المسيحيين. وعوضا عن أن يسترق الملك هؤلاء الذين باعوا أرضهم، وأن يصادر أرضهم، طالب بأن يفصل الخليفة العباسي في أمرهم. وحكم قضاته المسلمون بأن رعاياه ليسوا بعبيد للملك. غير أن هؤلاء القضاة فرقوا بين رجال الملك في المقرة، وبين غيرهم في الجنوب، وحكموا بأن رجال الملك في المقرة يعدون من الأحرار، بينما عدوا من عداهم في الجنوب من العبيد. ولم يعارض ملك المقرة ولا من خلفوه ذلك الحكم. غير أن تلك القاعدة ظلت حاضرة في أذهان الجميع، خاصة عند ملك علوة عند ملتقى النيلين (الأبيض والأزرق) والذي ظل يؤمن بأن الأرض ومن وما عليها هي من أملاكه الخاصة.
وإن كان بإمكان الخليفة أن يعلن في القرن التاسع الميلادي أن سكان أسفل (جنوب) النوبة هم من الأحرار، فإن حكم قضاته لم يفلح بالتأكيد في منع نقل المسترقين من النوبة إلى مصر، وهو العمل الذي كان قد أكدته "معاهدة البقط" قبل نحو 200 سنة من ذلك التاريخ. ومعاهدة البقط هي أشهر وثائق العصور الوسطى المسيحية والإسلامية، التي عرَّفت وحددت شروط السلام على الحدود بين النوبة المسيحية والعالم الإسلامي لفترة امتددت لستمائة سنة بين عامي 652 م 1257م. (ورد في موسوعة الويكيبيديا أن معاهدة البقط أوقفت نشر الإسلام في هذه المنطقة لمدة 700 عام، مما تسبب في بعض الجدل بين علماء الدين الإسلامي حول ما إذا كانت تلك المعاهدة قد انتهكت واجب الجهاد. المترجم). وظلت تلك المعاهدة سجلا مثاليا في تاريخ العلاقات الدولية بين الدول القومية، خاصة وقد كانت في البدء تعد مجرد "هدنة" وليست "معاهدة". واستمدت المعاهدة قدرتها على الاستمرار من إدراك طرفيها للحقائق والفوائد المكتسبة منها، بأكثر من كونها معاهدة قانونية غامضة غير قابلة للنقض. وشرعت معاهدة البقط، الفريدة في العالم الإسلامي، تجارة الرقيق ونظمتها، واعترفت بدولة النوبة المسيحية دولة ذات سيادة، واستثنتها من "دار الإسلام"، ومن " دار الحرب" أيضا. وعكس ذلك الاستثناء النادر الغريب إقرارا بصعوبة هزيمة جيش النوبة، ودقة تصويب رجاله من رماة الحدق بأكثر من عكسه لسعة علم الفقهاء (واجه المحاربون المسلمون مهارة النوبيين في رمي القوس والنبل، حتى فقد كثير منهم حدقات أعينهم في تلك المعارك ولذلك سموا المحاربين النوبيين "رماة الحدق" المترجم). وحددت معاهدة البقط تفاصيل تبادل البضائع بين الطرفين، خاصة الرقيق من النوبة، حيث تقدم المقرة 360 عبدًا سنويًا إلى والي مصر، على أن يكون هؤلاء العبيد (الذكور والإناث) صحيحي الأبدان، ليسوا من العُجُز أو الأطفال. ويضاف إليهم 40 عبدًا يوزعون على وجهاء ولاية مصر). ولم يعد إرسال النوبة لأولئك الرقيق جزية أو ضريبة، بل "هدية" من ملك النوبة في مقابل إرسال مصر للعدس والقمح وغير ذلك.
وفي القرن الثالث عشر بدأت الممالك المسيحية في الاضمحلال وتضاعفت موجات دخول العرب للسودان. وكان من بين هؤلاء الفقهاء (الفقرا) ورجال الطرق الصوفية، الذين عملوا جميعا لنشر الإسلام في أرجاء السودان. ولم يكن هؤلاء بغزاة ولا تجار، ولم يمنعوا الناس من الاتجار في الرقيق، غير أنهم ما اعتمدوا على عمل الرقيق قط. وظل الرق في السودان هو العلاقة الجازمة النهائية بين الحكام والمحكومين، وبين الموسِرين والمُعسِرين، في بلاد تشيع فيها تقاليد تراثية محلية، واتحادات قبلية اقطاعية، ويعد فيها ممارسو الديانات الأفريقية التقليدية قانونيا من عبيد بلاد السودان.
ولم يمكن من المتصور أن تنتعش تجارة الرقيق ومؤسستها بالسودان في عهد القبائل العربية التي تميزت بأنظمة سياسية لامركزية فاقت ما كانت عليه الأنظمة في العهود السابقة، بل كانت في الواقع امتدادا (إسلاميا) للإقطاعية المسيحية المتأخرة. وكانت أكبر وآخر تلك الاقطاعيات بالسودان هي مملكة سنار (السلطنة الزرقاء) التي قامت في عام 1505م، وحكمت المناطق الممتدة من الشلال الثالث حتى منطقة "السدود" جنوبا، ومن كردفان غربا حتى البحر الأحمر شرقا. واختلفت الآراء حول أصول سلاطين الفونج (انظر مقال جيمس ويلسون روبرتسون المترجم "أصول الفونج". المترجم)، ولكن الثابت أنهم سيطروا بالقوة العسكرية على كثير من المناطق، وبسبب تلك السيطرة، أو كنتيجة لها، تضاعفت أعداد المسترقين بالبلاد بغض النظر عن ديانتهم أو أصولهم العرقية. وأدى تمددهم الاستعماري (الإمبريالي) غربا عبر السافنا، وجنوبا عبر النيل الأبيض لجلب أعدادا كبيرة من المسترقين من جبال النوبة، التي كانت من قبل مصدرا رئيسا للمسترقين الذين يرسلون لمصر ولمملكة كوش والممالك المسيحية بالبلاد. وبحسب ما أورده الرحالة السويسري جون لويس بركهارت في كتابه "رحلات في بلاد النوبة" الصادر في عام 1822م، فقد كانت زيادة الطلب على المسترقين من تلك المنطقة وارتفاع أثمانهم في أسواق النخاسة من القاهرة إلى القسطنطينية عبر العصور بسبب صفاتهم البدنية المميزة.
وظل النوبة طوال القرن الثامن عشر يصطادون من مساكنهم في الجبال بجيش (بعض أفراده من المسترقين سابقين) يدينون بالولاء لسلطان سنار، قوامه نحو 14000 من المشاة، وفرسان على ظهور 1800 حصان. وكان ذلك الجيش قد حل محل جيوش الاقطاعيين الصغيرة في العهدين المسيحي والإسلامي، بعد أن توحدت السلطة السياسية في مركز واحد، وصارت كل الأسلحة تحت قيادة صفوية واحدة، في محاكاة لحركة التجنيد الضخمة التي قام بها العثمانيون للمسترقين (انظر المقال المترجم بعنوان "الرق العسكري في شمال شرق أفريقيا: بنية إرث". المترجم).
وفي الوقت الذي كانت فيه سلطنة الفونج تجلب المسترقين من مناطق النوبة والأنقسنا والشلك على النيلين الأبيض والأزرق، كان الحصول على الرقيق سياسة مستقرة من ثوابت سياسات سلطنة دارفور، الواقعة غرب سنار. فقد كانت سلالة سلاطين كيرا (حوالي 1600 – 1874م) في حالة حرب مستمرة ضد سلاطين وداي وهم يزحفون للتمدد غربا، ونحو حوض الكنغو جنوبا، حيث يمكنهم اصطياد أعداد كبيرة من المسترقين الذين يمكن تجنيد رجالهم للعمل في الجيش "الأسود" الذي كونه السلطان السادس أبو القاسم. وأفضى وجود هؤلاء الجنود المسترقين لخلافات عميقة بين سلطان دارفور وكبرائها، تكررت طوال سنوات السلطنة. وخلق الطلب الملح والمستمر على المسترقين مهنة "النخاسة" قبل نحو مئة سنة من إنشاء قوة الغزاة الباحثين عن الرقيق ووصولها للجنوب قادمة من الخرطوم في القرن التاسع عشر (للمؤرخ أوفاهي مقال مهم في هذا الجانب ترجم بعنوان "الرق وتجارة الرقيق في دارفور". المترجم). وانضم النخاسة والتجار (مثل أحمد تكتك) لرجال أعمال من العائلة الدارفورية الملكية وبعض أثرياء تجار الفاشر لتمويل الغزوات العسكرية المكلفة باصطياد المسترقين من الجنوب وجلبهم لدارفور للخدمة في الجيش والمزارع والبيوت (كخدم منازل ومحظيات). وشملت المناطق التي غزاها سلاطين دارفور وجلبوا الرقيق منها مناطق دار فرتيت وواديي نهري اوبانغي وبوميو (بين الكنغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى) ومناطق السافنا في جمهورية أفريقيا الوسطى. وكانت تلك الغزوات تتم بمشروعية أوامر سلطانية تبيح نهب المناطق التي يتم غزوها. ويتم تقسيم الغنائم التي يحصل عليها الجيش الغازي بين قادة الغزو والسلطان وممولي الغزوات من التجار. ثم يمضي الغزاة بما غنموه عبر درب الأربعين من كوبي (الفاشر) إلى أسيوط بجنوب مصر. وكما هي العادة، تفقد تلك القوافل بعض ما غنمته من مسترقين لأسباب متعددة.
وظلت مؤسسة الرق في دارفور تتبع ذات النمط الذي كان سائدا في وادي النيل منذ عصر الممالك (الفرعونية) الحديثة حتى الممالك المسيحية المتأخرة. وكانت أوضاع المسترقين تعتمد على متطلبات الذين يمارسون السلطة، سواء عن طريق القبيلة أو الدولة أو التجارة أو الأرض أو الدين. فالأفراد كانوا يهدون، أو يشترون، أو يتنازل عنهم، أو يقبض عليهم، ويجبرون على العمل في الجيش أو المناجم أو المحاجر أو المزارع أو البيوت (كخدم أو مربيات للأطفال أو محظيات). وسواء أكانت المعاملة التي يلقاها المسترق كريمة لينة أو وحشية قاسية، فالحقيقة تبقى أن الرق والاتجار فيه ظل في وادي النيل منذ عهود سحيقة عملا مربحا يوفر الخدمات والمنتجات والأمن للحكام وصفوة المجتمع. وكان سلاطين الفونج والكيرا يعيدون ببساطة تأكيد عمل مؤسسة عرفت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في حوض النيل منذ العصور القديمة، واستمرت في نهجها حتى عصرهما.
كان غزو نابليون لمصر في عام 1789م (الصحيح هو عام 1798م. المترجم) فصلا قصيرا من فصول تخطيطه الكلي لبسط سيطرة فرنسية استعمارية واسعة. وأخفقت تلك السياسة في مصر، غير أنه أفلح في تحطيم سيطرة المماليك، وخلق فراغا في السلطة سده باقتدار المغامر التركي (الألباني الأصل) محمد علي باشا. وبعد أن فرغت خزائن محمد علي من الأموال وهلك جيشه في مغامراته الاستعمارية بالجزيرة العربية وبلاد الشرق، رأى أن يتجه جنوبا بحثا عن الرقيق والذهب. وأكد في رسائله لقادة حملته وهو يحثهم على التعجيل بفتح كل أرض السودان أن الهدف النهائي من حملته هي "الحصول على الزنوج". ولم يتحقق له ما أراد من الحصول على كمية معقولة من الذهب. غير أنه حصل على عدد كبير من السودانيين غير المسلمين. وكان يتوقع ان يحصل على 20 ألفا من الرجال لجيشه الجديد (الذي كان يطلق عليه "النظام الجديد")، كما كان يؤمل أن يوسع إمبراطوريته في الشرق الأدنى وأفريقيا مستعينا بجيش يثق فيه ويعتمد عليه أكثر من الجنود الأتراك والفلاحين المصريين، الذين كان يحتاجهم أكثر للعمل في الحقول. وأفلح بالفعل في تكوين جيشه الجديد من مجموعة كبيرة من المسترقين السودانيين (الجهادية).
وإلى تلك الأيام كان الرق نظاما مستقرا في وادي النيل. ومهما كان الرجل (النوبي) غنيا أو فقيرا فلا بد له من اتخاذ 2 إلى 4 من المسترقين أو المسترقات. وبعد الغزو المصري – التركي في 1821م غدا الحصول على الرقيق عملية مؤسسية عامة ومنظمة. وبدأت السلطة التركية – المصرية في استخدام سلطتها لفرض المكوس والضرائب على تجار الرقيق، وكغرامات على المواطنين أيضا (عوضا عن النقد).
وعقب استيلاء الجيش التركي – المصري في 14/6/ 1821م على عاصمة السلطنة الزرقاء (سنار) بدأ الغزاة فورا في التفكير في الحصول على المسترقين من كردفان والنيل الأبيض وجنوب الجزيرة على الحدود مع أثيوبيا، ونظموا في سبيل تحقيق تلك الغاية حملات عسكرية سميت بـ "الغارة razzia " (بالفرنسية، وقد استخدمت في الأصل لوصف حملات الرقيق التي شنت على سكان المغرب العربي. المترجم). وغدت تلك "الغارات" تسير بصورة دورية كل عام. ففي عام 1839م مثلا كان حصاد تلك الحملات نحو 5000 مسترق من تقلي، تم توزيعهم على المسئولين والتجار الذين مولوا تلك الحملات. وكان المسترقون في العهد التركي - المصري يلاقون صنوفا من شنيع الفَظائِعُ السادية (ذكر الرحالة السويسري جون لويس بركهارت أن محمد على باشا أمر بإخصاء 200 من صبية دارفور ليبعث بهم كهدية للسكان العثماني. المترجم). غير أن الخديوي المصري محمد سعيد خضع – أخيرا- للضغوط الأوربية وألغى حملات جمع الرقيق الحكومية بمرسوم خديوي، تجاهله ببساطة تجار الرقيق في السودان واستمروا في حملاتهم كالمعتاد.
وبدأت في عام 1841م غزوات جمع الرقيق من مناطق المستنقعات " السدود" بالجنوب. ثم تم في عام 1843م إلغاء احتكار الحكومة لحملات الرقيق، وفتح حوض أعالي النيل. وعقب ذلك تدفق سيل من تجار الرقيق إلى تلك المناطق التي كانت معزولة تماما عن العالم الخارجي. وكان من بين هؤلاء بعض الأوربيين مثل المالطي أندريا ديبونو، والسودانيين مثل الزبير باشا رحمة، والعرب مثل المصري القبطي غطاس، والأتراك مثل علي كشك. وعرف أولئك المغامرون بـ "الخرطوميين Khartoumers". وقام هؤلاء الخرطوميون باصطياد آلاف المسترقين في أعوام متتابعة، ولكن ظل المؤرخون في حالة خلاف مستمر حول أعداد أولئك المسترقين. فعلى سبيل المثال تم في عام 1876م نقل 15000 مسترق ومسترقة عبر النيل، و2000 عبر الطرق البرية. وهنالك أرقام أخرى تشوبها بعض المبالغة، مثل زعم بعضهم أنه تم نقل 30000 مسترق خلال عام 1876م. غير أنه من شبه المؤكد أن ربع سكان السودان كانوا من أصول مسترقة في القرن التاسع عشر.
وبدأت تجارة الرق في الجنوب من قبل مؤسسات وشركات مع بداية رحلات البحث عن العاج، والذي كان يتطلب جمعه وحمله لخارج المنطقة عمالة قوية مدربة (غالبا من المسترقين الأفارقة). ولما انخفضت أسعار العاج، وارتفعت تكلفة نقله، وصار جمع العاج وبيعه غير مُجْزٍ اقتصاديا، عوضت الشركات خسارتها ببيع هؤلاء المسترقين. ولم يكن مستغربا والحال هكذا أن يعادي الجنوبيون هذه الشركات ويأبون العمل معها كعمال بأجر أو كمسترقين. وفي المقابل كان تجار الرقيق يصرون على الحفاظ على استثماراتهم بعمل حصون تجارية "تسمى زرائب" وخدم مسلحين (يسمون البازنقر)، وعلى التوسع في أفريقيا الاستوائية من أجل الحصول على العاج والرقيق لمقابلة ارتفاع تكاليف تجارتهم، ولزيادة أرباحهم.
وبعد نهاية تجارة الرقيق بصورة مؤسسية مسنودة من الحكومة التركية – المصرية، وسقوط حكم الخديوية في مصر عام 1879م ظهر في السودان محمد أحمد (المهدي) في عام 1881م، واحتلت بريطانيا مصر بعد ذلك بعام. وجاء المهدي بدعوة تعارض فساد الأتراك في الحكم وإشراكهم للنصارى في شؤون البلاد، ونادى بقيام دولة تحتكم إلى دولة مهدية إسلامية (وصف المهدي الترك بأنهم "أسوأ خلق الله لكفرهم ونفاقهم ...ومن لا يقبل منهم الدخول في الإسلام ويأبى الاستسلام وتسليم ما لديه من أسلحة وأموال وممتلكات فإن نسائه وأطفاله سيجعلون رقيقا. المترجم).
وسقطت الخرطوم في 1885م. ومع سقوطها توقع تجار الرقيق (وغيرهم) عودة قوية للرق وتجارته في السودان. غير أن ذلك لم يحدث كما كانوا يأملون. وخلف المهدي بعد وفاته عبد الله (التعايشي)، والذي لم يرد أن يقوي من شوكة تجار الرقيق، والذين كان يعلم أنهم يناؤون السلطة الحاكمة في بلاده. وبذا لم تقم للخرطوميين (وجرائمهم المنظمة) قائمة في عهده، إلا أن "الجلابة" استمروا في أعمالهم كالمعتاد طوال فترة المهدية. وظلت أسواق الرقيق مفتوحة في كل مناطق السودان تقريبا (انظر المقال المترجم "مواقف مهدي السودان حيال الرق وتحريره" لكيم سيرسي. المترجم). وكسابقيه من حكام السودان عبر الألفية كان هدف الخليفة عبد الله من الرق ليس هدفا تجاريا بحتا، بل رَمَى لاستخدامه في تجنيد المسترقين ضمن جيشه. وقام بتعيين نحو 10000 من هؤلاء المسترقين الأقوياء المخلصين له وحده كحرس خاص (يسمون الملازمين")، كانوا من بقايا المسترقين في جيش التركية (الجهادية) وجنود الخرطوميين (البازنقر). ومثل هؤلاء المسترقون نصف عدد سكان أم درمان تقريبا. وأثار ذلك امتعاض وسخط عشيرة الخليفة من البقارة، بحسب ما ورد في أطروحة هارقي المعنونة "منع الرق وتجارته بالسودان بين عامي 1898 و1939م من جامعة أكسفورد عام 1981م ". ولعل ذلك ما عزز العداء بين سلطة الخليفة الشديدة المركزية وكثير من مناطق السودان الريفية. غير أنه من الواجب تذكر أن مشاغل الخليفة (ومصاعبه) في تركيز سلطته الداخلية، ومع جيرانه، قد ساعدت على خمود الحملات المنظمة لجلب الرقيق من جنوب السودان، لدرجة أن بعض المؤرخين عد سنوات حكم المهدية "أعواما سعيدة" بالنسبة لسكان جنوب السودان.
وسقطت دولة المهدية بقيادة الخليفة في 2/9/1898م على يد الجيش الإنجليزي – المصري. ومنع الحكم الجديد تجارة الرقيق، ولقي ذلك القرار الباكر ترحيبا حارا من أفراد الشعب البريطاني، ومن أعضاء البرلمان، ومن المنادين بإلغاء العبودية، مما ألزم حكومة السودان الجديدة بتنفيذ قرارها، الذي كان كرومر حريصا على تضمينه في البند رقم 11 في اتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري. غير أن كرومر تجاهل مؤسسة الرق بالسودان، بل فرق بين "تحريم تجارة الرقيق" وبين الرق. ولا عجب في ذلك، بالنظر إلى أصل وتاريخ كرومر، وفهمه لطبيعة ومصالح شريكه في حكم السودان. فقد كان الرجل يعد الاتجار في الرقيق ممارسة غير عملية، وغير أخلاقية كذلك. غير أنه كان يرى أيضا أن الرق ضروري من أجل الحفاظ على النظام والأمن والهدوء والسكون المحلي. ولم يكن كرومر ومن تحته من المسؤولين البريطانيين بالسودان على استعداد للتفريط في الأمن والسلم الاجتماعي بالبلاد. كانوا بالطبع يعدون العبودية مشكلة اجتماعية محيرة ومثيرة للاشمئزاز، وعادة ذميمة مستقبحة، وتقليد رجعي متخلف، ولكنهم كانوا يؤمنون كذلك بأنها، رغم كل شيء، مؤسسة ضرورية لحفظ النسيج الاجتماعي لبلد كان يحتاج لحكمه في 1899م أمنا وأمانا (استعماريا) بأقل تكليف ممكنة. وكحل لمشكلة الرق قاموا بابتداع حل عملي يشجب الرق، ويسعى لاتخاذ خطوات تهدف لاستئصال جذور تجارته، وفي الوقت ذاته أقر، بل فرض، استمرار الرق المنزلي، بحسب ما جاء في صفحة 231 من كتاب المؤرخ البريطاني دالي "إمبراطورية على النيل" طبعة عام 1986م. وعد المنادون بإلغاء الرق في بريطانيا والعالم الغربي ذلك التوجه ردة مرفوضة، غير أن أحدا في السودان لم يأبه لتلك المثالية. وكتب دالي في كتابه المذكور في صفحة 232: "... لم يكن للمزارعين ورجال القبائل والتجار والمسؤولين، وحتى المسترقين أنفسهم في بعض الحالات ... ليؤيدوا سياسة عديمة النفع اقتصاديا، وتخالف العادات الراسخة منذ قديم الزمان...". وعبرت الملكة فيكتوريا من قلعتها بوندسور عن قلقها من ذلك "التسامح" الذي تبديه حكومة السودان تجاه الرق بالبلاد. غير أن المسؤولين بالسودان لم يكن ليسمحوا لتلك العواطف الملكية الرقيقة بأن تعطل القوانين والنظام، وتهدد أمنهم الشخصي كذلك.
وإن كانت الحكومة قد عدت العبودية حقيقة مؤسفة يجب التعايش معها، فلم يكن لها من مفر من الالتزام بالبند الحادي عشر من اتفاقية الحكم الثنائي، الذي كان ينص على منع تجارة الرقيق. فأنشأت قسما أسمته "قسم محاربة تجارة الرقيق"، وكان ذلك القسم الجديد نسخة منظمة من "قسم الرق" الذي كان الحكومة المصرية قد أنشأته في عام 1880م عقب مغادرة الخديوي إسماعيل. وأصابت الحكومة بعض النجاح في تثبيط تجارة الرقيق على منافذ البلاد وحدودها. غير أن ذلك القسم أغلق عام 1922م، مع غيره من المصالح التي أغلقت بسبب سياسة تقليل التعاون المصري – البريطاني في حكم السودان. وكان إغلاق ذلك القسم أكثر قبولا (رغم صعوبة تفسيره) في تلك السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والتي تميزت بصعوبة الأوضاع الاقتصادية بالبلاد، ووجود أعداد كبيرة من المحررين والمحررات من ربقة العبودية، دون حصولهم على أعمال (شريفة)، وتشردهم في المدن، مما شكل أخطارا اجتماعية عديدة.
وللمفارقة، لم يمنح اختفاء "قسم محاربة تجارة الرقيق" الحكومة السودانية أي "مناعة" من بعض الفضائح التي أثارت غضب جمعية محاربة الرق، وجلبت للحكومة البريطانية أسئلة محرجة عديدة في البرلمان، وفي عصبة الأمم أيضا. ونتيجة لذلك قامت حكومة السودان في مايو من عام 1925م بإصدار إعلان يؤكد على شديد تمسكها بحقها المطلق في منح الحرية لكل السودانيين رغم معارضة الزعماء الدينيين / الطائفيين، ورغم فتوى قاضي قضاة السودان بأن العتق الجماعي لكل المسترقين مخالف للشريعة الإسلامية. وبعد عامين من ذلك وافق المسؤولون البريطانيون بالسودان، بضغط من وزارة الخارجية البريطانية، ودعاة حقوق الإنسان، والمجتمع الدولي، على التوقيع على الاتفاقية الخاصة بالرق الصادرة عام 1926م من عصبة الأمم، والتي سبق لكل الدول المستقلة التوقيع عليها. وكونت الحكومة السودانية مفوضية مهمتها إصدار تقارير عن العبودية بالسودان، وعن أسلم الطرق لإصدار وثائق وشهادات الحرية والعتق بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. غير أن حملة "العلاقات العامة" تلك لم تخدع إلا قليل من الناس، ولم تنطل على السودانيين خاصة. ثم عادت فضائح الرق والاتجار به بالسودان للظهور مرة أخرى في عامي 1928 و1929م. ولم يسر المسؤولون البريطانيون بالسودان لوضعهم في ذلك الموضع المحرج مع سادتهم في لندن، رغم أن الحالات التي تم الكشف عنها كانت حالات فردية وعفوية. لذا وافقت حكومة السودان عام 1930م على التوقيع على ما أصدرته منظمة العمل الدولية من تشريعات دولية تحرم أعمال السخرة، والتشريعات الأخرى التي تمنع الإتجار بالنساء والأطفال، التي صدرت عام 1931م.
ومع انتهاء الحرب العالمية دخل السودان في مرحلة التحضير لنيل استقلاله التام كواحد من أوائل الدول الأفريقية التي تنال ذلك الحق.
لم تختف العبودية تماما في السودان قط. غير أن من كانوا من المسترقين صاروا في الأعوام التي سبقت استقلال السودان في سنوات عمرهم الأخيرة. لقد منع البريطانيون تجارة الرقيق، غير أن العرض والطلب للعمال ("الأحرار"/ غير المسترقين) بعد الحرب العالمية الثانية قلل بالفعل من إساءة استخدام الرق. غير أن النقص الحاد في الأيدي العاملة في تلك الفترة تسبب، للمفارقة، في زيادة ملحوظة في الرق المنزلي. فقد كان القادمون للحج من غرب أفريقيا عبر السودان يتوقفون في المدن السودانية لقلة مصادرهم المالية، ويؤدون الأعمال المطلوبة في المزارع والبيوت، التي لم تجد من يؤديها في غياب المسترقين السودانيين. ورغم أن مثل تلك العمالة "الأجنبية" كانت حرة قانونا، إلا أنها كانت تمثل شكلا من أشكال العبودية، ربما أسوأ من الأشكال التقليدية للعبودية.
***** *** *** ***
الشكر موصول لدكتور عبد الله جلاب على مدي بصورة من هذا المقال.
alibadreldin@hotmail.com