من تاريخ الري بالسودان في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي (2 – 2) Percy F. Martin بيرسي أف. مارتن ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة ما جاء في الفصل الثاني والثلاثين من كتاب (السودان في طريق التطور) The Sudan in Evolution الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، بقلم المؤلف البريطاني بيرسي أف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م). ويتناول المؤلف هنا تاريخ الري في السودان في غضون العقدين الأولين للحكم الإنجليزي – المصري للسودان. ومن المقالات المترجمة التي تناولت تاريخ مشاريع الري بالسودان هنالك مقال بعنوان: " التنمية الاجتماعية في مشروع الجزيرة في العهد الاستعماري"1، ومقال آخر بعنوان "مشروع الجزيرة بالسودان والمزارع الجماعية (الكولخوزات) بروسيا: مقارنة تجربتين"2. المترجم ******* ********** ******* كان مشروع إنشاء سد جبل أولياء يُعتبر من المشاريع ذات الأهمية العاجلة، بينما عُد مشروع حفر قناة تربط بين النيلين الأبيض والأزرق من المشاريع التي يمكن تأجيلها حتى يكتمل تشييد سد سنار، ويتيسر الحفر عن طريق التجريف. وأعدت الخطط لبناء سد جبل أولياء، وتم تصميمه بحيث يقوم بتخزين مياه النيل الأبيض في الصيف، وفي ذات الوقت يحمي مصر من آثار الفيضانات المدمرة. وفي بدايات عام 1014م طلب اللورد الراحل كتشنر من سير ميردوخ ماكدونالد وسير آثر ويب والسيد ماكلور أن يرافقوه في زيارة تفقدية إلى موقع المشروع المقترح إقامته على النيل الأبيض في جبل أولياء. وكان السيد بي. أم توتنهام (مفتش عام الري بالسودان) قد عكف على دراسة ذلك المشروع وتجهيزه حتى اكتمل، وكان مؤمنا بأهمية ومزايا مشروع لتخزين المياه في فصل الصيف ودرء خطر الفيضانات المفرطة الشدة. وتوفرت من دراسات المشروع معلومات كافية عن وجود صخور رملية بقرب وادي النهر تصلح للأغراض الهندسية المطلوبة. وتوفرت كذلك معلومات أخرى أكدت على صلاحية تلك المنطقة المختارة لإقامة سد صغير. وُصف تصميم سد النيل الأبيض بأنه بسيط نسبيا. وكان أقصى حد لرأس السد في ذلك التصميم 10 أمتار (الرأس هنا يعني النقطة في المجرى المائي، التي تم تغييرها بشكل مصطنع عن طريق الحجز فوق أعلى السد. المترجم). ولم يكن متوقعا أن تكون ثمة مشاكل تتعلق بالممرات المائية أو بوابات التحكم بذلك السد. وأجمع عدد من الخبراء بأن تصميم السد جيد جدا، ويستوفي كل الشروط الهندسية المطلوبة. وأثبتت كل الحسابات الخاصة بمستويات النيل الأبيض أن مستودع السد يمكنه امتصاص كميات كبيرة من مياه الفيضان، مما سيفضي لتقليل فعال في مستويات الفيضانات العالية لعدد من العقود القادمة. ومن المؤكد أن إنشاء قناة تربط ما بين النيلين الأبيض والأزرق، وتكون مستودعا كبيرا لتخزين المياه، سوف يكفي لتأمين مصر من آثار الفيضانات المدمرة. غير إن إنشاء مثل تلك القناة الكبيرة ليس بالأمر المستحسن أو الضروري لأن كثيرا من الأشغال الهندسية المستقبلية في أماكن أخرى سوف تمتص نحو نصف مياه الفيضان المفرط. وعلى كل حال، كانت الدراسات قد أثبتت أن ما سيخزنه سد النيل الأبيض من المياه كافٍ جدا للغرض الذي سيقام من أجله (وهو حماية مصر). وفي السنوات التي يكون فيها الفيضان جيدا (أو حتى عاديا)، فإن مخزون مياه سد النيل الأبيض سيكفي حاجة مصر طوال فصل الصيف. وفي السنوات التي يكون فيها مستوى الفيضان منخفضا يكون مخزون الماء في ذلك السد محدودا وغير كافٍ لعدم وجود أعمال تنظيم لكمية المياه في النهر، وليس بالإمكان سحب كمية أكبر مما يجب من تلك المياه دون إحداث أضرار كبيرة بري منطقة الدلتا المصرية في مديرتي جرجا وجنوب أسيوط. ويمكن حل تلك المشكلة بإنشاء سد صغير بالقرب من نجع حمادي. وأثبتت نتائج قلة الفيضان في عام 1913م ضرورة الإسراع ببناء مثل ذلك السد. وربما سيؤمن بناء ذلك السد (إضافة إلى السد الذي سيشيد على النيل الأزرق) كل احتياجات مصر المائية. أما إذا احتاجت مصر لمزيد من المياه في فصل الصيف فينبغي تشييد سد على النيل الأبيض وبحيراته. وما زالت تكلفة بناء سد على النيل الأبيض (في جبل أولياء) غير محددة تماما، ولكنها قُدرت بـ 600,000 جنيها مصريا. وقُدرت مرة أخرى بناءً على اعتبارات هندسية بـ 1,250,000 جنيها مصريا، وارتفعت الآن – بحسب الخطة الحالية لتشييد السد - إلى 1,500,000 جنيها مصريا. وسيضاف إلى ذلك المبلغ 200,000 جنيها مصريا ستدفع كتعويضات للأهالي الذين يقطنون هذه المنطقة ويزرعون بعض أجزاء ضفاف نيلها. وكان بند التعويضات هذه مدرجا في كل ما أُقترح من خطط من قبل. وستوفر جملة المبالغ المذكورة حلا يتمثل في بناء محطات ضخ كبيرة على حدود البحيرات حتى تقلل من مستويات السطح في المصارف (drains). وقد يقال في هذا الخصوص بأنه قد تم بمصر في خلال سنوات العقد الماضي، وبنجاح كبير، الصرف drainage في مساحة كبيرة من الأرض الواقعة أقل من خمسة أقدام تحت سطح البحر بفعل مضخات مُلاك مساحات صغيرة من الأرضي التي تصب في المصارف الحكومية. وهذا النوع من الاستصلاح الزراعي قد تضاعف مع مرور السنوات في شمال الدلتا حتى غدت ممارسته أمرا شائعا مثله مثل الأنواع الأخرى من الزراعة عند مُلاك الأراضي. وفي إبان عمله كقنصل لبريطانيا في مصر أبدي اللورد كتشنر اهتماما كبيرا بأمر مشاريع الزراعة بالصرف (drainage projects) في مصر، وكلف مصلحة الأشغال العامة في عام 1911م بإعداد وتقديم مشروعين، واحد في منطقة "البحيرة" وآخر في "الغربية" يعتمدان على ذلك النوع من الزراعة. وفي ذات العام قام مستشار مصلحة الأشغال العامة، بتوجيه من اللورد كتشنر، بدعوة سير ويليام قاريستن وسير آرثر ويب لدراسة هذين المشروعين وتقديم تقرير عنهما. ولقيت طريقة الزراعة بالمضخات معارضة قوية من العاملين داخل وخارج مصلحة الأشغال العامة، بدعوى أنها طريقة مكلفة ويصعب تنظيمها، خاصة بين ملاك الأراضي، وإلا فإن أحد ملاك تلك المضخات قد يكون في الواقع يضخ الماء لزملائه الملاك الآخرين! وبعد دراسة متأنية جاء تقرير الخبراء موصيا بهجر نظام مزدوج للزراعة وأن يتم التعامل مع الصرف في مُنشآت الضخ. ووافق سير ميردوخ ماكدونالد على تلك التوصية. ويجب أن نسجل في نهاية هذا الجزء أن أول هيئة صاغت مشروع تخزين المياه في النيلين الأبيض والأزرق كانت هي سلطات الري المصري. غير أن ذلك الأمر كان قد أثار الكثير من الخلافات بين مختلف الجهات ذات العلاقة بالأمر. ولدعم موقفها من المشروع قامت الحكومة المصرية بتكوين مفوضية مكونة من ثلاثة خبراء لم تكن لهم أي علاقة سابقة بهذا المشروع أو غيره من المشاريع المائية بالبلاد. وشُكلت تلك المفوضية برئاسة السيد جون جيبي (كبير المهندسين في بومباي، الذي صمم من قبل سد سكر في منطقة السند، وقد رشحته الحكومة الهندية)، وعضوية دكتور جي. سي. سيمسون (وهو دكتور في علم الأرصاد الجوي رشحته جامعة كمبردج)، والسيد هـ. ت. كوري (الذي كان يدير الأشغال البحرية في بحيرة سالتون بكاليفورنيا، وقد رشحته الحكومة الأمريكية)، والسيد جي. ال. كيبس (من وزارة المعارف المصرية، كسكرتير للمفوضية). ******* ********* ************ (كما ذكرنا من قبل فإن العمل في تشييد سد النيل الأبيض بجبل أولياء لم يبدأ إلا في نوفمبر من عام 1933م، واكتمل في أبريل من عام 1937م، تحت إشراف الحكومة المصرية. المترجم).