من ثمار الثورة الثقافية الصينية: اكتشاف دواء ضد الملاريا
بدر الدين حامد الهاشمي
3 October, 2011
3 October, 2011
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
تم في هذا العام (2011م) منح العالمة الصينية يويو تيو جائزة الباحث الإكلينيكي (وتسمي جائزة ريسكر ديبيكي) اعترافا بفضلها (وفضل زملائها) في اكتشاف عقار آرتيميسينين (artemisinin)، كعلاج للملاريا في بداية سبعينات القرن الماضي. وإذا علمنا أن الملاريا قد قضت على ملايين الأطفال والبالغين سنويا في أفريقيا وحدها، وأن إدخال عقار آرتيميسينين لعلاجها (بعد أن فقدت الأدوية الشائعة المكافحة لها قدرتها على قتل الطفيل المسبب لها) ساهم في إنقاذ حياة الملايين من بني البشر في المناطق الاستوائية الفقيرة، لعلمنا مدى أهمية اكتشاف يويو تيو هذا للبشرية جمعاء. عادة ما لا تجد الاكتشافات الأساسية في مجال البيولوجيا الطبية لها تطبيقا عمليا على المدى القصير، بيد أن اكتشاف عقار آرتيميسينين، واحتلاله لمركز العلاج الأول للملاريا في نهاية تسعينات القرن الماضي، ترك أثرا واضحا وضوح الشمس في مكافحة ذلك المرض اللعين الذي أنهك شعوب بلاد كثيرة من بلدان العالم الثالث المنهك أصلا.
لذلك الاكتشاف قصة لا تخلو من غرابة، فقد حدث في "عز" (أو قل فوضى) أيام الثورة الثقافية (والتي استمرت لعقد كامل من 1966 إلى 1976م)، حين أمر الزعيم التاريخي ماو تسي تونج (شخصيا) ورئيس وزرائه مجموعة من أبرز علماء الصين لبحث أمر الملاريا التي تقاوم العلاج بالكلوروكين، والتي استفحل أمرها في فيتنام الشمالية، حليفة الصين وصديقتها الصدوقة إبان حربها الضروس مع أمريكا "أعتى قوة إمبريالية عرفها التاريخ". لم تكن فيتنام الشمالية تملك القدرة على القيام ببحوث تؤدي لاكتشاف أدوية بديلة، فلجأت للأخت الكبرى (الصين) تطلب العون. رغم أن الزعيم ماو عند القيام بثورته الثقافية كان يرى في قديم تراث الصين عائقا تتكسر على أبوابه محاولات التقدم والانطلاق والدخول في عصر نهضة جديد، إلا أنه كان يستثني تراث الصين في مجال النباتات الطبية، ويعده كنزا ثمينا عامر بأحجار كريمة يمكن الاستفادة منها في مقابلة احتياجات المجتمع الصيني العصري و"خدمة الشعب" أو كما قال. أصدر ماو في 23 مايو 1967م ما سمي بواجب القضاء على الملاريا أو "الواجب رقم "523، والذي عهد لتنفيذه بنخبة من ألمع علماء الصين ، بلغ عددهم أكثر من 500 عالم يعملون في نحو 60 جامعة ومعهد ومركز بحثي. عكف هؤلاء العلماء على دراسة كل كتب ومخطوطات التراث الصيني القديم في مجال النباتات الطبية واستعمالاتها، خاصة كتاب العالم والطبيب التقليدي الصيني جي هونق (والذي عاش بين عامي 284 – 363م). أسفرت تلك الجهود الحثيثة لدراسة كل النباتات التي وردت في الكتب التراثية في مجال الأعشاب الطبية (والتي لا شك أنه كان وراءها سوط وسيف "الثورة الثقافية" البتار، وقسوتها الشديدة خاصة ضد المهنيين) عن العثور على مادة آرتيميسينين من نبات يسمى علميا ارتميزا انيوا (Artemisa annua) في عام 1971م. كان النبات الذي عزلت منه المادة الفعالة معلوما في كتب الطب الصيني القديم بفائدته في علاج الملاريا، بيد أن عملية استخلاصه وعزله من النبات لم تكن من الأمور السهلة اليسيرة لأسباب تقنية معقدة ليس هذا مجال التوسع فيها. عمل الباحثون على النظر والتجريب في أكثر من 2000 وصفة نباتية صينية، وقع الاختيار على 640 منها لمزيد من الدراسة المعملية على الطفيل المسبب لمرض الملاريا، وتقلص العدد إلى 200 وصفة نباتية تم تجريبها على الجرذان المصابة بالمرض. وجد أن الوصفة الناجعة المستخلصة من النبات ذات سمية عالية، فعمل الباحثون (بقيادة العالمة يويو تيو) بتجارب كيميائية معقدة لتخليص المركب من سميته.
كانت السلطات الصينية قد اعتبرت أمر تنفيذ الواجب رقم 523 سرا عسكريا ينبغي إحاطته بالكتمان الشديد، ومنع المشتركون في رحلة البحث عن دواء جديد للملاريا من الحديث للآخرين عن نتائجهم أو نشرها في المجلات المحلية أو العالمية، بيد أنهم سمح لهم بالنقاش حول نتائجهم في مؤتمراتهم المحلية. ولما لم تكن هنالك دراسات منشورة عن تلك النتائج، فإنه يصعب معرفة من هو مكتشف المادة المعزولة من النبات المكافح لمرض الملاريا. تبين بعد عدة أعوام أن الفضل الأكبر في اكتشاف تلك المادة يرجع للعالمة الصينية يويو تيو الباحثة بالمعهد الصحي للطب التقليدي. تم السماح للعالمة الكبيرة (بعد أن أزيلت رموز وبقايا وآثار"الثورة الثقافية") بتقديم ملخص لنتائج أبحاثها في مؤتمر عن علاج الملاريا عقدته هيئة الصحة العالمية في بكين في أكتوبر عام 1981م.
بدأ التصنيع الدوائي لتك المادة في عام 1986م، وبدأت منظمة الصحة العالمية في دراسة المادة النباتية المعزولة ومشتقاتها في بدايات تسعينات القرن الماضي، وبدأت في الترويج لاستعماله منذ عام 2004. بعد اكتشاف دواء آرتيميسينين، واصلت الفرق البحثية الصينية بحوثها في مجال الملاريا فتوصلت لاكتشاف وتصنيع عدد من المركبات يمكن أن تضاف إلى دواء آرتيميسينين من أجل مزيد من الفعالية والسلامة، وهما العاملان الأكثر أهمية في أي مستحضر علاجي.
يبقى التحدي الأكبر وهو بقاء دواء آرتيميسينين دون حدوث مقاومة له من طفيل الملاريا. وحيث أن الآثار المرضية والموت الذي يسببه هذا المرض كان واسع الانتشار قبل إدخال دواء آرتيميسينين، فإن الخوف والقلق من حدوث حالات مقاومة للدواء له ما يبرره، ويدعو لمزيد من الدراسة والبحث من أجل إيجاد بدائل آمنة وفعالة عندما يحدث ما ليس منه بد، وهو فقدان الدواء لفاعليته مع تطاول سنوات استعماله، وإلى حين اكتشاف دواء آخر للملاريا في فعالية آرتيميسينين ، ينبغي استعمال دواء آرتيميسينين مع دواء آخر (أو أكثر) لتقليل احتمالية حدوث مقاومة للعلاج. إن الحديث النظري عن إيجاد دواء جديد للملاريا سهل، بينما يصعب التنفيذ بسبب معوقات معلومة منها أن الملاريا من أمراض البلدان الاستوائية الفقيرة، التي لا تستطيع تحمل نفقات البحث العلمي المؤدي لاكتشاف أي دواء (وكلفة اكتشاف دواء واحد منذ بداية الأبحاث عليه إلى حين وصوله ليد المستهلك قد تصل لمليار دولار)، وتفضل شركات الأدوية الغربية البحث في أدوية أمراض تصيب الأغنياء (والفقراء أيضا) حتى تجني – وفي أقصر وقت ممكن- أربحا طائلة تغطي بها ما أنفقته في عمليات البحث والتطوير، وتكسب من فوق ذلك مالا لبدا. تقوم بعض الشركات والمنظمات بمحاولات "خجولة" – ربما من باب الدعاية والعلاقات العامة- للبحث في أدوية جديدة لأمراض المناطق الاستوائية الفقيرة، بيد أن أثر هذه المحاولات ليس واضحا حتى الآن.
كتبت الدكتورة اليزابث سو من معهد علم الأجناس الثقافي والاجتماعي بجامعة أكسفورد مقالا معمقا في "مجلة علم الأدوية الإكلينيكي البريطانية" في عام 2006م عن بعض ملاحظتها عن "اكتشاف" دواء آرتيميسينين، وبينت أن علماء الاجتماع والتاريخ ظلوا من قديم يقومون بتفكيك عملية "الاكتشاف" ويشيرون إلى أن إنتاج "حقيقة علمية" يستلزم حدوث "عمليات اجتماعية محددة"، وبينوا أن هنالك "تقنيات للإقناع" و"شبكات تواصل" تتيح تكرار / إعادة استنساخ النتائج المعملية، وبينوا خطل الفكرة القائلة بتمجيد شخصيات المكتشفين كأبطال، على حساب الاعتراف بالدينميات الاجتماعية (social dynamics) التي تتيح ظهور النتائج العلمية الجديدة والتحقق منها. لا ينتقص هذا القول بالطبع من براعة العالمة يويو تيو وتفانيها في خدمة العلم، والتي كوفئت بما تستحقه من التكريم في داخل الصين وخارجها. بيد أنه لا بد من التأكيد على تقول اليزابث سو إن المناخ السياسي غير الاعتيادي في الصين إبان فترة "الثورة الثقافية" في الستينات، ووضعية المراكز البحثية حينها هو ما سهل عملية اكتشاف دواء آرتيميسينين، خاصة وأن تلك السنوات شهدت وجود دافع قوي للصين لمساعدة حليفتها فيتنام الشمالية في حربها ضد العدو المشترك لكليهما. أثبت لجوء النظام الصيني لأكاديمية أبحاث الطب الشعبي حماسا وطنيا للصين الماووية، خاصة وأن تلك المؤسسة كان يعمل بها علماء وأطباء تقليديون في الطب الشعبي والطب الغربي، أجبروا جميعا في خلال سنوات "الثورة الثقافية" على تلقي دورات مشتركة في مجالي الطب الشعبي الصيني والطب الغربي كذلك.، بالإضافة إلى تلقي دورات مكثفة في تقدير واحترام "المعارف الشعبية التقليدية" من قبل مؤرخين متخصصين في الطب الشعبي الصيني. كل ذلك كان لازما لاكتشاف دواء آرتيميسينين، والذي ظل تحت الدراسة والاختبار مدة 33 عاما قبل أن يحظى بموافقة ومباركة "منظمة الصحة العالمية".
كتب لويس ميلر وزنهوان سو من معهد الصحة القومي بأمريكا في مقال صدر في سبتمبر من عام 2011م في المجلة العلمية الشهيرة "الخلية" أن اكتشاف دواء آرتيميسينين قد تم بسبب حرب طويلة بين فيتنام والولايات المتحدة، بيد أنه لا أحد يريد أن تندلع حرب أخرى جديدة كي تغدو دافعا لاكتشاف دواء أو أدوية أخرى! دعنا نأمل في أن يكون السلم (وليس الحرب) هو الدافع.
نقلا عن "الأحداث"