من قصص الخليفة .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


Khalifa Stories: Perhaps the Most Cruel Man in History

مقدمة: نشر هذا المقالدون ذكر اسم كاتبهفي الصحيفة النيوزلنديةOtago Daily Timesوذلك في عددها  الصادر في 19 يناير من عام 1899م. وهذه الصحيفة هي من أقدم صحف ذلك البلد، إذ  أن عددها  الأول كان قد صدر في 1861م. والمقال مبذول على الشبكة(الشابكة( العنكبوتية في أرشيف تلك الصحيفة. وآثرنا تغيير عنوان المقال والذي يذهب إلى أن الخليفة "ربما يكون أقسى رجل في التاريخ"!

ونترجم هذا المقال من أجل نشر الوعي ببعض آراء الغربيين في الماضي القريب، وما سجلوه في كتبهم وصحافتهم عن جزء مهم من تاريخ السودان، ألا وهو تاريخ الدولة المهدية وقادتها. ولا يجد المرء حاجة ليذكر بأن ذلك التاريخ مكتوب بأقلام المنتصرين، ويغلب على كثير منه الغلووالتحيز والميل والهوى وعدم الإنصاف، تماما كما هو الحال مع التاريخ الذي يكتبه ويحفظه ويردده المناصرون (دون تبصر)،والذين لا يرون في قادتهم الوطنيين التاريخين إلا أبطالا عظاما لم تشب أفعالهم وأقوالهم شائبة، ولم تكن أفعالهم إلا خدمة خالصة للدين والوطن، بل وقد يلتمسونلهم الأعذار في ما ارتكبوه من انتهاكات مخازي ومجازر. ولكن لا بد من القول بأن كاتب هذا المقال قد أبعد النجعة في زعمه بأن الخليفة "ربما يكون أقسى رجل في التاريخ"، فكل من له معرفة متواضعة بالتاريخ يعلم بأنه مر على هذا العالم، شرقه وغربه – ومنذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا-  عشرات بل مئات الطغاة الذين قد يعد الخليفة بالمقارنة بهم حاكما منصفا وجزلا رحيما.

المترجم

*************             *****************

ربما لم يعرف التاريخ رجلا متوحشا قاسي القلب وطاغية متعطشا للدم  مثل الخليفة عبد الله بن سيد محمد نسيب وخليفة المهدي، والذي نالت إمبراطورتيه البربرية هزيمة ساحقة في معركة أمدرمان.

بيد أن المهدي نفسه لم يكن  بذلك الرجل المحسن الخير، فقد شن حربا ضروسا ضد من عدهم من أعدائه، وكان الموت هو مصير من يقع في أسره من هؤلاء، إلا أن الخليفة بَزَّه في القسوة، ولم يوغل في الأعمال الوحشية ودماء اعدائه فحسب، بل تعدت وحشيته إلى أصحابه أيضا.  فأنظر إلى ما فعله بالجعليين في مجزرة المتمة قبل أسابيع قليلة من دخول قواتنا لتلك البلدة.   ولقد كان أفراد تلك القبيلة الشجاعة قد قاتلوا  تحت راية المهدية لنحو عقد من الزمان، ولكنهم ما أن أبوا الانضمام لمحمود (ود أحمد) في ما قدروا أنها حملة يائسة حتى أبيدوا غدرا في مجزرة لم تفرق بين طفل أو امرأة أو رجل.

وهنالك ما هو أفظع من ذلك، حين أوغل الخليفة في دماء  كثير من رجال البطاحين في عام 1889م. اقتيد أولئك الرجال أسرى لأمدرمان في مجموعات  ثلاث. وقضى الخليفة بأن تحز رقاب أسرى المجموعة الأولى، وكان ذلك من حسن حظهم، إذ أنهم لقوا موتا رحيما سريعا مقارنة بما حاق بأفراد المجموعتين الأخريين. وسيق رجال المجموعة الثانية للمشانق التي نصبت على عجل. أما المجموعة الأخيرة فقد تقرر أن تقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف. وقد شهد الخليفة بنفسه تنفيذ تلك الأحكام القاسية، وبدا سعيدا جذلا وهو يضحك ويجول بين  الأعضاء المقطوعة، والجثث المتناثرة، والأجساد المتدلية من المشانق التي ملأت الميدان الواسع. وبعد أن بلغت تلك المسرحية التراجيدية السوداء فصلها الأخير استدعى الخليفة شيخ البطاحين عثمان ود أحمد (ولعله الوحيد الذي استحياه الخليفة من باب النكاية والزراية) وقال له ساخرا أنه يسمح له بأخذ ما تبقى من أفراد قبيلته معه إن أراد.

وهنالك قصص أخرى عن ممارسات ذلك الطاغية الوحشية مع أحد أخلص قواده العظام. فقد أمر بحبس الزاكي طمل في غرفة بالغة الضيق تحاكي القبر، وشدد على أن لا يعطي أي طعام أو شراب سوى حسوات يومية معدودة من الماء. وبقي ذلك القائد على تلك الحالة أربعة وعشرين يوما حتى أراحه الموت من ذلك العذاب. ولم يكتف الخليفة بذلك، بل أمر بدفنه ووجهه معاكس لاتجاه القبلة، ظانا أنه بذلك يحرمه من نعيم الآخرة أيضا.

ولعل عقوبة الموت جوعا كانت من إحدى عقوبات الخليفة المفضلة، فقد أوقعها على خليل، ذلك الرسول الذي بعث من القاهرة عقب معركة توشكي حاملا رسائل للخليفة عبد الله تطلب إعادة متعلقات غوردون باشا والذي قتل على أبواب قصره في الخرطوم.

شملت عقوبات الخليفة أيضا الجلد المبرح والمفضي للموت. وقد أوقع تلك العقوبة على بنت لأحد الموظفين المصريين السابقين من العاملين في خدمة الحكم التركي / المصري، وكانت  فتاة صغيرة جميلة، ولم تكن جريمتها غير محاولتها الهرب من بيت من وهبت له كجارية. جلدت الفتاة الصغيرة بسوط من جلد فرس النهر، وهو سوط ضرباته حادة جارحة تشابه القطعبموسى حادة. ومن باب المبالغة في التعذيب وقف أحد الجنود وهو يعد وببطء : واحد... اثنين ... ثلاثة بين كل جلدة سوط وأخرى. بدأ تنفيذ ذلك العقاب الوحشي عند  الفجر و أستمر حتى الرابعة  عصرا حين لفظت تلك المخلوقة المعذبة أنفاسها الأخيرة.

وهنالك قصة الضابط المصري الرائد حمادة، والذي أتهم – عن حق- بإخفاء أمواله ومجوهراته ورفضه الافصاح عن مخبأها  فتم الحكم عليه بألف جلدة يوميا يتم تنفيذها على مدى ثلاثة أيام متتالية. وكان جلادوه يسكبون الماء المفرط الملوحة علي ظهره المقروح، بل ويحشون جروحه بالفلفل والشطة الحارقة إمعانا في التعذيب. غير أن كل ذلك لم يجد فتيلا مع ذلك الضابط، فقد آثر تقبل العذاب على أن يدل معذبيه على مكان أمواله ومجوهراته، وحمل سره معه للقبر.

ولقد كان الخليفة  هو من أمر وأشرف شخصيا على مجزرة الأيام الثلاثة التي وقعت عقب سقوط الخرطوم، وقدر بعض المؤرخين من سقط فيها بما لا يقل عن خمسة عشر ألفا من الأنفس. وورد أن الفظاعات والانتهاكات التي حدثت في تلك الأيام النحسات فاقت حد الخيال. فقد لقى القنصل الإغريقي في الخرطوم مصيرا مروعا حين  بترت يداه، وقطع جسده إربا إربا بالسواطير، ورميت أجزاء جسده المتقطع على قارعة الطريق المتربة.

وأمر الخليفة كذلك بتعليق راهبة استرالية من معصميها على عارضة مرتفعة وبجلدها  بعصاة سميكة على باطن قدميها (فيما يسمى فلقة) حتى تورمت قدميها واقتلعت أظفارها من قدميها.

ومن وسائل التعذيب الأخرى التي مورست في عهد الخليفة هو ربط الضحية على عارضة مرتفعة من إبهامه وتركه يتأرجح في الهواء حتى يفقد الوعي.

ولا ريب أن القسوة في خاصة نفس الخليفة كانت أمرا متأصلا ولكنه كان مَخْبُوءاً إلى حد ما في عهد المهدي، إلا أن الرجل فيما يبدو، وعند تسنمه لدفة حكم البلاد، كان مصرا على تعويض السنوات التي لم يظهر فيها تلك القسوة في أبشع صورها. ومضى الخليفة يسن كل أسبوع تقريبا قانونا (متعسفا) ينال كل من يخالفه أنكى أنواع العقاب وأفظع صنوف التعذيب.

وكانت فتيات السودان مغرمات بوضع شعر مستعار على رؤوسهن. ولكن ما أن تولى الخليفة الحكم حتى أصدر أمرا منع بموجبه الفتيات من وضع أي شعر مستعار، وهدد بسلخ فروة رأس كل من تخالف ذلك الأمر. وأمر ذات مرة بربط مولود في صدر أمه وإدخالهما معا في حفرة ورجمهما بالحجارة.

غير أن وسيلة التعذيب المفضلة عند الخليفة بلا شك كانت هي بتر الأعضاء من خلاف، مثل قطع اليد اليمني  والرجل اليسرى. وكانت تلك العقوبة العنيفة توقع حتى  بمن يدان بجرائم غاية في التفاهة، بل وفي بعض الأحايين على أشخاص لم يقوموا بارتكاب أي جريمة على الإطلاق.  كانت تلك العقوبة توقع ببتر اليد أو الرجل من المفصل ثم غمس الجذع النازف فورا في زيت حار  ثم  دهنه بالقطران مخافة الإصابة بالإنتان (الغرغرينا).

وحدث ذات مرة أن سولت نفس أحد عمال بيت المال له اختلاس عدد من القطع الذهبية مما أتؤمن عليه  فحكم عليه أولا بأن تفقأ عينيه بمرود حديد محمى، وتلت ذلك بعد مرور شهور قليلة عقوبة أخرى هي قطع يدي الرجل وربطهما حول عنقه وإجلاسه على ظهر حمار طاف به كل  شوارع أم درمان.

وشاع في فترة من فترات حكم الخليفة تكرار هرب العبيد من منازل مسترقيهم في أمدرمان.  وكان أولئك التعساء يتحينون أي فرصة للهروب إلى الصحراء حيث يلجأون لبعض العرب الرحل، والذي كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان يعاملهم به مسترقيهم من الدراويش. وجرب الخليفة عددا من الوسائل للحد من تلك الظاهرة دون جدوى. لذا فكر وقدر وقرر أخيرا أن يقطع آذن جميع العبيد (ذكورا وإناثا)  في أمدرمان دون استثناء، وقتل كل من يأوي عنده عبدا مقطوع الأذنين! أدت تلك العمليات اللاإنسانية في بعض الحالات لنزف حاد أفضى للموت.

ولكن على الرغم من كل ذلك التعطش المرضي للدماء، فقد كانت تنتاب الخليفة في لحظات نادرة حالة من الرحمة العجيبة bizarre compassion. فقد كان قد أمر ذات مرة بشنق مئة من رجال الكبابيش لجرم (حقيقي أو متخيل) ارتكبوه. وتصادف أن مر موكب الخليفة بعد ساعات قليلة من تنفيذ الحكم على المكان الذي تم فيه شنق أولئك الرجال وحيث ردمت جثثهم في حفرة عميقة. وفجأة تناهى إلى سمع الخليفة صوت أنات صادرة من تلك الحفرة فأوقف حصانه على الفور وترجل عنه ونبه من حوله إلى أن هنالك رجلا حيا بين ذلك الركام البشري، وأمر بإخراجه. عندما جر الرجل وهو شبه ميت ورمي أمام الخليفة أستل أحد الحراس سيفه وانتظر أمر الخليفة بقطع رأسه. ولكن الخليفة هذه المرة صاح حتى يسمع جميع من حوله: "لا...لا تقتله. لقد تعذب المسكين بما فيه الكفاية. دعه يعيش"!

لقد كانت كل تلك العقوبات التي أتينا على طرف منها توقع على مرتكبي الجرائم العادية التي قد تقع كل يوم.  إلا أن مرتكبي الجرائم الخطيرة كانوا يلقون في عهد الخليفة  من صنوف العذاب الوحشية وأشكال التنكيل اللاإنسانية ما يعجز القلم عن وصفه.

alibadreldin@hotmail.com


///////////////

 

آراء