من كتاب “انجلترا في السودان”: بقلم: يعقوب باشا آرتن .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
11 September, 2014
11 September, 2014
من كتاب "انجلترا في السودان"
England in the Sudan
بقلم: يعقوب باشا آرتن Yacoub Pasha Artin
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مذكرات الكاتب الأرميني - المصري يعقوب باشا آردن (1842 – 1919م) في كتاب باللغة الفرنسية عن رحلة قام بها إلى السودان في عام 1908م. وترجم جورج روب الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، وصدر من دار نشر ماكميلان في لندن في عام 1911م.
لا يخفي المؤلف في كتابه هذا عنصريته وعدم حياده تجاه الأهالي السودانيين (والمصريين أيضا، رغم أنه "نصف مصري")، وتمسحه الظاهر بالبريطانيين. غير أن كل هذا يجب أن يقرأ في سياق التاريخ والظرف الذي كتب فيه المؤلف كتابه بعد سنوات قليلة من غزو البريطانيين للسودان.
المترجم
***** ******** *************
12 نوفمبر 1908م
على ظهر الباخرة "السودان" بين اسوان وحلفا
بالأمس كان الجو حارا في الظهيرة، ثم برد قليلا عند المساء. غير أن الجو اليوم في غاية الاعتدال. ونعمت برؤية القمر ليلة كماله وأنا على سطح الباخرة، وعند الرابعة صباحا رأيت في الأفق كوكب المشتري يلمع كمنارة بعيدة. ثم شاهدت كوكبي الزئبق وفينوس ينافسانه في التألق واللمعان.
وعند الخامسة صباحا توقت بنا الباخرة لساعة ونصف من الزمان عند أبي سمبل، أجمل تماثيل مصر طرا، في نظري. ومضينا بعد ذلك في سيرنا. وكان كل ركاب الباخرة من العاملين في خدمة حكومة الحكومة فيما عدا شخصي وصديقي البريطاني، وسيدة إنجليزية في رفقه ابنتها الصغيرة. وتعارفنا (نحو خمسة وعشرين من ركاب الباخرة) مع بعض الضباط المصريين المسافرين معنا على نحو جيد مكننا من قضاء وقت ممتع في سمر وأحاديث طريفة كان من بينها ما دار بيني وبين م. ف. افندي، والذي كان يعمل في خدمة إدارة السكة حديد عن السودانيين البرابرة Berberins (أي سكان المناطق التي تقع جنوبا حتى دنقلا) ، ولخص لي الرجل في الحكاية التالية رأيه في سرفهم وطبيعة شخصيتهم التي تتميز بالإهمال وعدم التدبر:
" كنت أعرف أحد هؤلاء البرابرة من الذين عملوا لسنوات طويلة في مصر. وجمع الرجل البربري مالا كثيرا قبل أن يرجع لبلاده ويشتري عددا من الجِرار الفخارية لساقيته. وقام الرجل بوضع الجِرار في موضعها الصحيح من الساقية مستخدما الأدوات الصحيحة من خشب وحبال الخ، وقام ببذر حبوب الذرة الشامية في حقله. وعندما بدأت عمليات السقي انكسرت بعد أيام قليلة إحدى الجِرار ... معليش! (هكذا قال). ثم انكسرت أخرى بعد يوم أو يومين ... معليش (مرة أخرى)... ثم انكسرت جرة أخرى ثم أخرى ثم أخرى إلى أن بلغ عدد الجِرار المكسورة ثَمانِيَ، ولم يفعل البربري شيئا غير أن يردد الكلمة المشهورة "معليش"، والساقية تدور ولا ماء يصل للأرض العطشى! وأضطر صاحبنا في نهاية المطاف لبيع محصوله وهو ما يزال في بدايات نموه، بسعر متدني لإغريقي يشتغل بإقراض المال. لم يفعل الإغريقي شيئا غير إصلاح الجِرار المكسورة وربح من بيع محصول الرجل البربري مالا جما. وكل ذلك بسبب عدم إعمال الرجل لقليل من الفكر والاهتمام والتدبر".
وعند الواحدة من بعد ظهيرة ذلك اليوم بلغنا وادي حلفا، والتي قضينا فيها ساعتين، ثم واصلنا رحلتنا بالقطار للخرطوم. ومررنا ببربر في صباح اليوم التالي (13/11/1908م) ثم بأتبرا بعد ساعة من ذلك. وقبل وصولنا لشندي بساعة أو نحوها مررنا بسلسلة من الأهرامات في مروي القديمة (والتي قام باكتشافها والكتابة عنها الفرنسي فريدرك كالياد (1787 – 1869م) في عام 1820م).
وأخيرا وصلنا للخرطوم في حوالي الساعة الخامسة والنصف مساءً بعد رحلة مريحة استغرقت 26 ساعة في قطار "دي لوكس".
13 نوفمبر 1908م
قصر الخرطوم
أقيم لنا في المساء الذي وصلنا فيه حفل عشاء ضخم في القصر دعي له كثير من اصدقائنا القدامى والمعارف الجدد. وكان كل من قابلناه من الرجال قد وهب حياته للعمل بجد وإخلاص من أجل الانتصار على السودان وادخال أهله إلى عهد المدنية والتحضر بغرض ضمان رفاهيتهم وتقدمهم الروحي والمادي.
ويقف السردار (ويعرف الآن بـ "الحاكم العام" وليس "الحاكم دار / الحكمدار كما كان عليه في الحال قبل المهدية مباشرة) كالروح الموجهة لكل تلك الأنفس الشابة والمتحمسة التي تعمل في جد واجتهاد – بوحي من توجيهاته الكريمة – وبيد واحدة لهزيمة وصد البربرية - إن جاز لي أن أعبر عن مكنونات نفسي- وتحويلها لدولة عصرية متحضرة، من أجل الأهالي أنفسهم، والعالم بأسره.
وأحسست وأنا في وسط ضيوف ذلك الحفل أني في معية جمع من المبشرين غير المحترفين الذين لم يكن لهم من هم أو هدف غير تحقيق السلم ونشر السعادة في هذا العالم.
14 نوفمبر 1908م
قصر الخرطوم
عند وصولي للخرطوم كانت "السدود" في بحر الغزال قد حجزت عمليا كل أسطول البواخر الحكومية في تلك المنطقة، مما يعني أن سفرنا إلى النيل الأزرق سيتعطل. إلا أن السردار استلم في هذا اليوم برقية تفيد بأن الباخرة "دال" قد استطاعت السير عبر السدود، وأنها الآن في طريقها للخرطوم. وأخطرنا بأن نتهيأ للسفر يوم 20 نوفمبر. لقد زال قلقنا من انخفاض مستوى المياه في النيل الأزرق. فهذا العام بلغ ارتفاع منسوب المياه في ذلك النهر مبلغا لم يصل إليه منذ عقد من الزمان في مثل هذا الموسم. وفاض النهر في أغسطس وسبتمبر فيضانا مهولا خشي الناس معه أن تبتلع المياه مدينة الخرطوم بأكملها.
وكانت كل الدلائل تشير إلى أن رحلتنا ستكلل بالنجاح، فمركبنا جيدة، والنيل مرتفع المياه، ودرجات الحرارة الآن معتدلة، لا تتعدى 36 درجة مئوية عند العصر وفي الأمسيات، والنسيم عليل، بعد أن كانت درجات الحرارة في أيام 11 و12 و13 من هذا الشهر قد بلغت ما بين الأربعين والخمس وأربعين درجة مئوية. إذن لم يك لدينا ما نفعله سوى أن ندع الأمور تجري في أعنتها، وأن نستمتع بأيامنا ونحن نعيش في القصر، وما من مكان خير منه لملاحظة كيف تدار الأمور بالبلاد، ومعرفة مجريات الأحداث من "القلب السياسي" به.
وقبل أن استطرد في الكتابة عن الأوضاع والحال الرسمي للسودان لابد لي من التوقف عند ما سمعته من آراء في غاية الدقة والألمعية ذكرها لي ضابط مخابرات مصري يعمل في خدمة حكومة السودان، وهو رجل في مقتبل العمر من ابناء محافظة الجيزة، والده فلاح مصري، ووالدته من الشركس. درس الرجل في المدارس المصرية الحكومية، ثم التحق بالمدرسة الحربية حيث أظهر همة عالية ونشاطا منقطع النظير في دراسته وعمله بعد تخرجه إلى أن بلغ، وفي زمن قصير نسبيا، رتبة البمباشي. وعمل في السودان البريطاني – المصري في أول الأمر في إدارة (مصلحة) السكة حديد. ذكر لي الرجل أن كل وظائف الفروع والخدمات بالسكة حديد كان يشغلها جنود من الكتائب المصرية. وكانت الحكومة تدفع للواحد منهم مبلغا يتراوح بين 6 إلى 10 قرشا في اليوم بحسب رتبته العسكرية، وتمنحه بالإضافة إلى ذلك ملابس العمل الرسمية والحصص الغذائية مجانا. وعِلاوة على ذلك كان الواحد منهم يدخل مجانا فصولا لتعلم الكتابة والقراءة باللغة العربية، والتدريب على مهارات العمل في مجالات التلغراف أو الخراطة أو الحدادة أو البرادة أو قيادة محركات (وابورات) القطارات وغير ذلك من المهن. ويلزم الجندي بأن يقضي ست أعوام كاملة في خدمة الجيش (في السكة حديد) يكون في غضونها قد تعلم مهنة من المهن. وكان كثير من الأذكياء من هؤلاء الجنود يؤثرون – بعد إكمال مدة العمل الإلزامي في الجيش- التحول للعمل في الخدمة المدنية في حكومة السودان، عوضا عن أخذ مكافئة نهاية خدمتهم في الجيش، إذ أن مرتب الواحد منهم سيبدأ في الخدمة المدنية من 6 – 10 جنيهات مصريا في الشهر، ويتقاضون أكثر من ذلك إن كان الواحد منهم ملما باللغة الإنجليزية (والتي كان يتعلمها غالب من يعملون في الجيش). وبعيد قبولهم للعمل في الخدمة المدنية يسارع المسرحون المصريون باستقدام عائلاتهم من مصر للاستقرار (النهائي) في السودان، بينما يعجل العزاب منهم بالأوبة إلى قراهم في مصر للزواج وجلب زوجاتهم معهم دون أي نية عودة للوطن مرة أخرى. وأخبرني ذلك الضابط أيضا بأنه يعرف عددا من الجنود المصريين المسرحين الذين عادوا لمصر لبيع ما يملكونه فيها (مثل قطعة أرض صغيرة) والعودة للسودان بمبالغ تكفي لشراء أرض أو بيت في السودان، وكانوا في غاية الرضاء عن خياراتهم تلك.
وأضاف الضابط قائلا: "فالجيش إذن من هذه الناحية هو المدرسة لأولئك النفر (من المصريين) الذين لم يروا من الحياة غير أذيال أبقارهم وجواميسهم، والذين ترقوا – بفضل الجيش- في سلم الرتب الاجتماعية إلى مراتب تتيح لأطفالهم أوضاعا أفضل بما لا يقاس لأوضاعهم هم، ووسعت من مداركهم ونظرتهم للحياة".
ويجب علي هنا القول بأننا وعند نزولنا من الباخرة في وادي حلفا قابلنا النقيب وود، حاكم المدينة، وناظر المدرسة، وعرضا علينا – في كرم صادق- خدماتهما. وفي وادي حلفا سمعت من السكان شكوى متكررة – سمعتها من قبل مرارا في عام 1902م- من عدم توفر المياه في المدينة! وكنت أحسب أن مرد تلك المشكلة هو نقص الموارد المالية في ذلك الحين لنصب مضخات بخارية لجلب المياه للمدينة. وأحسست حينها أن الحكومة لا تعد وداي حلفا إلا "مدينة صغيرة يصادفها المرء في طريقه للخرطوم"، لذا ظلت مكانا هامدا لا نشاط فيه ولا حركة. وعلى الرغم من هذا فلا بد من الاعتراف أنني هذه المرة لحظت بعض الاشارات الدالة علي بدء نشاط وحركة في هذه المدينة الصغيرة. فالمدرسة مكتظة بالطلاب، ويبدو السكان أقل بؤسا وأكثر حيوية مما رأيتهم من قبل.
ووصلت محطة سكة حديد أتبرا. ويا لها من محطة رائعة! ويا لها من أعجوبة – في البدء- أن تنشأ سكة حديد في السودان! تعد محطة أتبرا هي محطة تقاطع بين خطي "وادي حلفا – الخرطوم"، و"بورتسودان – الخرطوم". وقابلت في الساعة التي قضيتها في أتبرا النقيب ميدونتر، مدير السكة حديد، والذي قدم لي شرحا موجزا وطاف بي سريعا على الورش والمنازل والفلل وبيوت العمال، وحتى الكنيسة الأنغليكانية الصغيرة، وكل ذلك كان قد "نبت من الأرض" بسرعة عجيبة في أقل من أربع أعوام. ويعمل في السكة حديد في هذه المدينة، والتي تقع بين نهري أتبرا والنيل، ما لا يقل عن 1500 فردا.
وبعد ساعات قليلة من مغادرتنا لأتبرا، وقبل وصولنا إلى شندي مررنا بتل من الجرانيت الأسود، كانت تلك هي أهرامات ملوك مروي الزنوج. أما شندي نفسها فقد انتعشت مؤخرا بوجود سلاح الفرسان الذي شيد مركزه في أحد أطرافها. وفي هذه المدينة وضع ملك شندي نمر حرقا بالنار أو اختناقا بالدخان حدا لحياة فاتح السودان إسماعيل باشا، ابن محمد علي باشا. ولكن من يتذكر الآن ذلك الحدث؟ لم يكن هنالك من يمكن أن يخبرني بما حدث، وأين حدثت تلك المحرقة للأمير ومماليكه سوى سلاطين باشا، وليس غيره من العرب أو الإنجليز!
ومن جهة أخرى وفي الخرطوم، كان كل شيئ وكل حديث فقط عن غوردون ȃ la Gordon ... القصر الذي اغتيل فيه، والذي دمره أنصار المهدي قد أعيد بنائه، والمكان الذي يظن أن تلك المجزرة قد وقعت فيه زرعت فيه شجرة وردها أحمر فاقع ليرمز للدماء التي روت أرضها من قبل. وفي الشارع الذي يحمل اسمه نصب له تمثال ضخم. بينما لا تجد في شندي من يتذكر حتى اسم إسماعيل باشا!...
فقط وحدها الشعوب التي تفخر برجالها العظماء وتكرم ذكراهم هي من تستحق أن توصف بأنها شعوب عظيمة!
18 نوفمبر 1908م
قصر الخرطوم
زارتنا هذا الصباح الليدي ونجت في صحبة زوجها السردار، والذي نقل إلينا نبأ تغيير الوزارة. فقد قدم مصطفى باشا فهمي وزملائه استقالاتهم، وتم الآن تعيين بطرس غالي باشا رئيسا للوزراء.
وكنت قد لاحظت بمجرد وصولي للخرطوم هذه المرة أن الأمور بالبلاد، مقارنة بما رأيته في زيارة سابقة لها عام 1902م تخطو إلى الأمام في تحسن مضطرد. فكل شيئ يبدو مكتملا الآن ... الأرصفة والطرق والحدائق والمنازل... كلها الآن كما يتصور المرء الحال في أي مدينة صغيرة متحضرة. فمعظم الشوارع الآن واسعة مسفلتة وعلى جانبيها أرصفة وأشجار ظليلة. وهنالك نظام محكم للإضاءة، وترام يذرع الطرق جيئة وذهابا، ويربط المراكب الراسية على شاطئ أمدرمان بتلك التي في الحلفايا أو الخرطوم بحري.
وترى من بعيد جسرا على النيل الأزرق تحت الإنشاء، ويمسح المهندسون الآن الأرض التي سيقام عليها خط السكة حديد يربط الجزيرة بكردفان. وإن هي إلا سنوات قليلة وسيغدو ذلك الخط حقيقة واقعة.
أما في مجال التقدم في المجالات الأخلاقية (غير المادية) ، فالأمر بادي الوضوح. فزيارة واحدة لكلية غوردون تكفي لإقناع أي متشكك بعظمة ما تم انجازه. فهنالك يدرس ما بين 200 و300 طالب من كل الأصول والجنسيات، موزعين على مختلف الكليات والمستويات. فهنالك مدرسة أولية ومدرسة عليا، ومدرسة للهندسة المعمارية التطبيقية والمساحة، ومدرسة الميكانيكا التطبيقية، وكلية تدريب مدرسي اللغة العربية، ومدرسة لتخريج القضاة الشرعيين. ويقود سفينة هذه الكلية الربان الماهر السيد / جيمس كيري. وبشهادة الاساتذة البريطانيين، فإنه لا يمر عام دون حدوث تقدم ملحوظ في مستويات الطلاب من أبناء الأهالي، وهذا مما يبعث على الرضاء عند كل الأطراف.
وليس هنالك الآن من مشكلة في تلك الكلية غير استجلاب الأساتذة، فكثير من هؤلاء كانوا يأتون من مصر، ولا شيئ يعادل الاشمئزاز (abhorrence) الذي يحس به المصريون تجاه السودان إلا حبهم للمال حبا جما. وظل الدافع المادي هو الحافز الوحيد لجعل هؤلاء يأتون للسودان للعمل في سلك التدريس. وعلاوة على ذلك، فأعداد المدرسين في مصر نفسها ليست بالكثيرة، ولا تكفي لمقابلة كل احتياجاتها المحلية. وهذا مما يمثل مشكلة عويصة لكل من السودان (ومصر أيضا) ، ولا يمكن حلها إلا بتوفير موارد مالية كافية تسمح بإعطاء المدرسين مرتبات عالية تغريهم بالعمل في هذه المهنة بالسودان، وتستبقيهم فيه. وبغير هذا فسوف يبحث المدرسون عن سبل كسب عيش من مهن أخرى في الخدمة المدنية العامة.
من غريب ما لاحظته في كلية غوردون هو تعدد أصول الطلاب فيها، ففيهم سودانيين عرب وزنوج ، ومصريين، وأقباط، وأحباش وطالب فارسي واحد. غير أني لم أجد من بينهم طالبا واحد من الأتراك، رغم وجود عدد من الأتراك بالبلاد. وصدق بروفسيور سايس والذي عرف السودان جنوب خط عرض 25 درجة بأنه " أرض لا تصلح للبيضان No white man’s country" . وكان النقيب آمري من قسم المخابرات قد أخبرني أن من بقي من الجالية التركية في السودان كانوا قد طلبوا منه التعجيل بإرجاعهم لبلادهم، خاصة بعد صدور الدستور التركي الجديد والذي عفا عن كل من أجرم في السابق بهروبه من الجيش التركي. وكان عدد من هؤلاء الأتراك من كبار السن من الذين كانوا يعملون كـ "باشبوزق" (أي جنودا غير نظاميين) متزوجين من نساء سودانيات (سود البشرة)، ولم يكن لديهن أدنى رغبة في ترك بلادهن والسفر لتركيا مع أزواجهن.
أي حياة تلك التي كان يعيشها هؤلاء الأتراك بعيدا عن أوطانهم بسبب حكومتهم الطاغية عديمة الحياء، وهم يقومون بتمدين شعب بربري لسنوات طوال!؟ وبما أني أتيت على سيرة البربرية والوحشية، فدعني أقص عليك نبأ ما كانت تأمر به الحكومة البلجيكية رعاياها في الكنغو من ضرورة الالتزام بعدم العودة لأوروبا عن طريق النيل (والرحلة بذلك الطريق تستغرق عادة من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع) بل عن طريق نهر الكنغو (والرحلة عن طريقه تستغرق نصف عام للوصول إلى بوما أولا، ومنها إلى بلجيكا بالسفن). واستخدم ذات المرة ذلك الطريق الطويل موظفين بلجيك اأكملوا فترة خدمتهم في الكنغو. ولكن شاء حظهم العاثر أن يتمرد عليهم البحارة السود الذين كانوا معهم في الباخرة وقتلوهم جميعا عدا اثنين منهم هربا للغابة. وتمكن أحدهما من تسلق شجرة ضخمة بقي فيها خائفا يترقب، بينما عجز الآخر عن الاختفاء فلحق به البحارة السود وقاموا بتقطيع لحمه وأكله حيا وزميله فوق الشجرة ينظر. وظل ذلك المحظوظ مختبئا في الشجرة ليومين إلى أن فقد البحارة الأمل في العثور عليه، ثم هبط البلجيكي بعد ذلك من الشجرة واستطاع الوصول لنقطة حربية بلجيكية حكى لهم فيها عن ما حاق بجماعته على يد المتوحشين السود. متى سيتحضر هؤلاء الناس؟ إذا كانت آلاف السنوات قد فشلت في أن تدخلهم في سلك الحضارة والمدينة، فهل من المعقول تصور أن آلاف السنوات القادمة ستنجح في ذلك؟ وإن بلغ هؤلاء المتوحشين درجة ما من الحضارة والتمدن، أليس من الممكن أن يرتد غيرهم من السود ممن بدأوا لتوهم في الدخول لعالم الحضارة والمدينة للبربرية والوحشية ويحلون محل هؤلاء؟
بالفعل لقد أذنب آدم (ومعه حواء) في عصيانهما لخالقهما!
******* *********** ***************
قمت مع مرافقي البريطاني بالتحضير لرحلة تستغرق عشرين يوما إلى الروصيرص على النيل الأزرق بعد دفع مبلغ ضخم بلغ مائة جنيه كاملة. ولم يكن استخدام السكة حديد ممكنا بعد في مثل تلك الرحلة. ولم تكن السكة حديد، وعلى وجه العموم، مفضلة عند الأهالي (من العرب والزنوج) كوسيلة للسفر، إذ أنهم يؤثرون ركوب الإبل أو الحمير أو السير على الأقدام للوصول إلى الأماكن التي كانوا يرغبون في الوصول إليها. لذا أقدمت إدارة السكة حديد على تنفيذ اقتراح ألمعي وهو توفير عربات ركاب ذات سعر رخيص للركاب يستطيع الفقراء تحمله (وهي عربات الدرجة الرابعة). ونجحت فكرة عربات "الدرجة الرابعة" أيما نجاح، وصارت تمتلئ بالركاب عن آخرها.
إن المناطق السودانية المجاورة للحبشة الإيطالية غنية بالغابات الكثيفة التي تحوي أنواعا متنوعة من الأشجار المختلفة، مثلها مثل الغابات في بحر الغزال. ولقد أنشأت الحكومة مصلحة للغابات كان من مهامها دراسة وتصنيف الأشجار وتنميتها وتطويرها والعناية بها وبإكثارها. وقابلت اليوم على مائدة الغداء السيد براون، عالم النبات والمسئول عن الغابات بالمنطقة. وكان الرجل هو أول من بدأ إنشاء مزارع تجريبية لإنتاج المطاط (الهندي) بجنوب البلاد. وكانت ترافقه دوما زوجه التي علمت لاحقا أنها عالمة نبات أغزر منه علما، و تقوم بكل الأعمال البحثية على المجهر الضوئي وكتابة التقارير العلمية. وكانت تلك المرأة ترتدي عند الترحال زي الرجال وتجيد استخدام المسدس والبندقية وتقتحم المخاطر. وعند الثانية بعد الظهر كان الزوجان على أهبة القيام برحلة علمية إلى قونوكورو على النيل الأبيض لتفتيش مزارع المطاط الهندي التجريبية التي أنشأتها الحكومة هنالك.
16 نوفمبر 1908م
قصر الخرطوم
في هذا المساء قابلت سلاطين باشا على مائدة العشاء في القصر. وتحدث الرجل عن إسماعيل باشا وعن مقتله في شندي وقال إن المكان الذي لقي فيه حتفه من الاختناق بالدخان معروف بدقة. فقد كان قد قابل في زيارته الأولى لشندي في عام 1878م رجالا من كبار السن كانوا من شهود تلك الحادثة وكانوا يذكرون تفاصيلها بدقة. ومعلوم أن الرواية الرسمية لتلك الحادثة هي أن جيش إسماعيل باشا هزم المك نمر وأفراد قبيلته من الجعليين في عام 1819م. وعقب تلك الهزيمة أمر المك نمر وأصحابه بمرافقة جيشه المتجه نحو قتال سلطان الفونج في سنار. وعند العودة من تلك الحملة في عام 1822م طلب الأمير إسماعيل من نمر أن يجلب له أعلافا تكفي كل إبل حملته والتي كان عددها لا يقل عن الفين. وبما أن نمر كان قد لاحظ أن جيش إسماعيل قد تناقص في العدد وأصابه الوهن الشديد ففكر في حيلة للانتقام من الأمير لما سببه لقومه من مهانة وخسائر في الأنفس والثمرات، فتظاهر بالموافقة على طلب الأمير وأقام له حفل عشاء ساهر قدم له ولجنده الطعام والشراب. وكان قد أمر جماعته سرا بإحاطة مقر إقامة الأمير وجنده بكمية هائلة من العشب الجاف، قام بإشعالها أثناء الحفل. وتكفلت النيرات الملتهبة والدخان الكثيف بحرق وخنق الأمير وجنده من المماليك وأبادتهم عن بكرة أبيهم. وهجم الجعليون على من لم يمت من الجنود حرقا أو اختناقا فقتلوهم. ولكن نجح بعض أولئك الجند في نقل جثمان الأمير إسماعيل (والذي قيل أنه مات من الاختناق) إلى مصر حيث صلي عليه في مسجد الإمام الشافعي.
كانت تلك هي الرواية الرسمية لما حدث. غير أن هنالك رواية مغايرة (وصعبة التصديق) شاعت وقتها في شندي وكانت تفيد بأن أحدهم كان قد وصف لإسماعيل باشا جمال إحدى بنات الأسرة المالكة، فهام بها حبا دون أن يراها، وطلب من المك أن يحضرها أمامه ليراها فسأله المك إن كان يريد أن يتزوجها، فغضب الأمير لما عده تطاولا من المك نمر على مقامه، وأمر بضربه. وهنا أقسم المك نمر أن يقتص لنفسه وقومه بقتل الأمير، وقد كان له ما أراد. وردد معه الجعليون: "لقد سلبنا الأمير أرواحنا وأرضنا وبهائمنا، ولكنه لن يستطيع سلبنا شرفنا، وإن حاول ذلك فليس له عندنا إلا القتل". ولا تتفق الرواية الرسمية مع تلك الرواية الشعبية الشائعة إلا في كيفية قتل إسماعيل وجنده. ولا أتفق أنا شخصيا أبدا مع تلك الرواية الشعبية فهي من النوع الذي يؤلف عن الحدث بعد وقوعه، تماما مثل تلك الأسطورة اليونانية عن ليكريشيا Lucretia . فالناس يعشقون أسوأ الأفعال ويحولونها لقصص شعرية ورومانسية، ويحبون الانتقام (والذي يقال في بعض الأساطير أن الإله قد اختص به نفسه لشدة مذاق حلاوته).
ومهما يكن من أمر، فقد نتج عن فعلة المك نمر البربرية ثورة شعبية ضد الأتراك، أعقبها فعل لا يقل بربرية قام به صهر الأمير في كردفان أحمد بيه الدفتردار في حملته الانتقامية المشهورة. وفقد المك نمر وعائلته عرشهم بعد هروبهم للحبشة وبقائهم بها حتى وقت قريب. وعاد حفيد المك نمر إلى السودان بعد هزيمة عبد الله التعايشي حيث أستقر مزارعا في كسلا وعاش عيشة لا تخلو بؤس وفقر. وبهذا قدر لعائلة نمر العودة للبلاد بعد أكثر من ثمانين عاما من العزلة في المنفى وذلك بفضل الحكومة البريطانية – المصرية.
alibadreldin@hotmail.com
//////////7