من كتاب مذكرات في الصحافة: زيارة الي بهو التاريخ

 


 

صديق محيسي
3 March, 2018

 

 

في عام 1963 ونظام 17 نوفمبر يقترب من عاصفة ثورة اكتوبرالشعبية يممت من مدني شطر الخرطوم العاصمة للإلتحاق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم , ويومذاك كانت اولي خطواتي في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة في جريدة الزمان اليومية لصاحبها الصحفي الفذ عبد العزيز حسن دسوقي شراكة مع الدكتورين محي الدين صابر, وعقيل احمدعقيل , ثم شراكة اخري فيما بعد مع الملحق الثقافي السوداني يومذاك في يوغسلافيا عثمان عبد الله.

كانت جريدة الزمان تقع في شارع السيد عبد الرحمن المهدي في مبني وهو مبني عال وجميل بمقاييس ذلك الزمان. وبالقرب من الزمان فندق " الحرية " لملك الفنادق مصطفي راشد "كيشو" وفندق الكوباني لصاحبه على الكوباني .
في مدرسة الزمان وانا صبي يافع تفجؤه الدهشة قابلت كبار الكتاب ونجوم السياسة. تعرفت هنا ك علي كبارالكتاب ونجوم السياسة ,الدكتور محي الدين صابر, والدكتور عقيل احمد عقيل ,والسياسي والمحامي والكاتب الكبير محمد امين حسين , والأديب الموسوعي محجوب عمر باشري المشرف علي صفحة الأدب ,والقاص والمثقف الوجودي بشير الطيب الذي كان له عمود يومي بعنوان "اقول لكم "وكما اشرت من قبل في مذكرات في الثقافة ان بشير الطيب وكمال شانتير المحامي هما اول من ادخل المذهب الوجودي الي السودان .
كانت الزمان جريدة القوميين العرب، وكان كتابها الكبار مؤيدون بقوة للوحدة العربية وزعيمها جمال عبد الناصر وتبنت قضايا التحرر إستنادا الي ادبيات ثورة 23 يوليو في عصر المد القومي العربي .


كان في الزمان ايضا كاتب العمود الساخر الأشهر مصطفي عابدين الخانجي "الوجه الأخر من المسألة "ويوقع اسمه ب مصطفي ,وكان يعمل مترجما في السفارة اليوغسلافية وله صلات وطيدة بالوسط الصحفي.
في الزمان ايضا تعرفت علي الكاتب المخضرم ابراهيم دقش الذي صار فيما بعد الناطق الرسمي بأسم منظمة الوحدة الإفريقية ,والكاتبة الصحفية نجمة المجتمع حينذاك بخيتة امين حيث عاصرنا في ذلك الزمان الجميل قصة حب بين دقش وبخيتة انتهت بزواج الأثنين.
كان ابراهيم دقش الموظف بوزارة التربية يتواجد مساء كل يوم بالصحيفة يكتب عموده الإسبوعي تعرف دقش علي بخيته محررة صفحة المرأة بالجريدة في جامعة القاهرة الفرع حيث كان الاثنان يدرسان بها.
شكّل دقش ومحمود ابو العزائم مدير التحرير ثنائيا ظريفا طريفا يشيع البهجة في جو الجريدة المفعم برائحة الأحبار وابخرة الرصاص,وصوت المطبعة ,وجاء عبد العزيز بأبي العزائم كمدير للتحرير ,غير انه استبدل رصانتها السياسية بمدرسة اخبار اليوم التي تعتمد الإثارة في إختيارها للأخبار,وكان ابو العزائم من اشد المعجبين بالأخوين مصطفي وعلي امين اصحاب صحيفة اخبار اليوم المصرية .
في الزمان كذلك كنا فريق التحرير ثلاثة اصدقاء محمد حسن مهدي، وعثمان الحويج عليه رحمة الله وانا,محمد حسن مهدي مسئولا عن صفحة التحقيقات والجريمة يجوس بأقدامه المتربة طوال النهار مراكز الشرطة في الخرطوم والخرطوم بحري, ومهدي ذا حس صحفي عال ترك الإحتراف الصحفي في الصحف منذ سنوات طويلة وفتح له مكتبا إعلاميا انيقا في عمارة ابو العلا القديمة اهتم فيه بعمل الدلائل التجارية , والمطبوعات للشركات والحكومةعلي السواء, وبعدإنتفاضة ابريل85 19 شرع في إصدار صحيفة بأسم "العصر" و لكن لصعوبات مالية صرف النظر عنها ومع كل ذلك لازمته روح الصحافة ولاتزال .
كان عثمان الحويج ببنيته الضعيفة ونظراته الحادة أحد اهم رواد النقد الفني والمسرحي في ذلك العصر, وكانت جريدة الزمان في حالة عسر دائم ترتب عليه شح في رواتبنا التي ننتزعها بالقطارة حين تتكرم الحكومة بدفع قيمة الإعلانات التي تتعلق بالعطاءات ,ونشرات المحاكم التي كانت تخاطب من المتهمين الهاربين في القضايا المختلفة.

احمد طيفور صحفي قتلته المأساة:
في العام 1961إنضم الينا الراحل احمد طيفور مفتش الغيط الذي فصل من مشروع الجزيرة بسبب الإضراب الشهير لمفتشي الغيط فإختار الصحافة بديلا لوظيفة المفتش, جاء طيفور ذي الجذور الاريترية الي الزمان وعمل بها سنة واحدة نشط خلالها في كتابة المقالات عن الثورة الاريترية فوافته فرصة الإقتراب منها فكان اول صحفي سوداني يدخل الي الأراضي التي حررها الثوار من الجيش الأثيوبي المحتل ,قضي طيفور شهران في الإراضي المحررة وعاد حاملا حصيلة وافرة من الحقائق والمعلومات عن الثوار وعن بطش وتنكيل الإستعمار الإثيوبي بالشعب الإريتري ,ولكن رئيس التحرير عبد العزيز حسن رفض نشرها خوفا من إغضاب حكومة عبود وهي في اخر سنواتها وكانت علي علاقة طيبة مع الامبراطور هيلاسلاسي الذي يستضيف منظمة الوحدة الأفريقية .
لم يكن الإختيار قد وقع علي احمد طيفور إلا بعد ان اعتذرت انا عن قبول الدعوة كان ذلك في امسية شاتية عندما دخل وفد من جبهة التحرير الأريترية الي مبني الجريدة يحمل بعض البيانات العسكرية لعمليات للثوار ضد الجيش الأثيوبي وكنت ساعتئذ مسئولا عن صفحة الاخبار العالمية فعرض علي الوفد الذهاب الي الاراضي المحررة فقبلت الدعوة ولكن رئيس التحرير عبد العزيز حسن رفض مجرد الإستماع الي الإقتراح ولكن ان احمد طيفور انبري للمهمة وابدي استعداده للسفر دون موافقة رئيس التحرير الذي اخبره بأن يبحث له عن جريدة غير الزمان لنشر إنطباعاته.
توجه طيفور الي الأراضي المحرر بعد ان رتبت له جبهة التحرير الأريترية تحت قيادة عثمان صالح سبي ابو الثورة الإريترية "وسط إجراءات امنية مشددة حتي الوصول الاراضي المحررة وببالغ السرية جري الإعداد للرحلة الشاقة المحفوفة بالمخاطرسيرا على الإقدام احيانا او فوق ظهور الجمال، وكانوا يغزّون السير ليلا وفي الأسحار ويتحاشونه في الليالي المقمرة".
مكث طيفور قرابة الشهرين بين الثواروعاد بحصيلة وافرة من المعلومات واللقاءات مع المقاتلين والقادة الميدانيين والفظاعات التي كان يرتكبها الجيش الإثيوبي في حق الشعب الإريتري ابرزها حرق القري والمزارع ودفن وتسميم ابار المياه.
عاد الي الخرطوم فوجد الثورة اطاحت بنظام عبود فالتحق بجريدة اكتوبر التي اصدرها السياسي الإتحادي صالح محمود اسماعيل وهو اول وزير إعلام في اول حكومة لثورة اكتوبر الشعبية,وكان اسماعيل يكتب بابا اسبوعيا راتبا بعنوان "اصداء " في صحيفة الأخبار لصاحبها رحمي محمد سليمان ,وبعد تركه الوزارة اصدر صحيفة بأسم 21 اكتوبر تيمنا بالثورة التي اطاحت نظام عبود, كان صالحا مؤيدا قويا للثورة الإريترية ووافق علي الفور علي نشر تحقيقات طيفور وكانت كما يصفها الكاتب الصديق عمر جعفر السّوري " نصرا مهنيا، وفتحا في دنيا الصحافة السودانية. فهي تكاد تكون المرة الأولى التي تذهب فيها صحيفة بحثا عن الحدث خارج الحدود وأضحت تلك التحقيقات التي كانت تملا صفحة من ثمانية أعمدة وتفيض أحيانا، حديث الناس، ليس في العاصمة فحسب، بل في مدن السودان كافة. أصبح أحمد طيفور نجما لامعا وبطلا مغوارا"
احدثت التحقيقات ضجة كبري في الوسط السياسي وكانت ردة الفعل عنيفة غاضبة لدي الملحق العسكريرجل المخابرات القوي الكولونيل ترّقْي الذي ارسله الإمبراطور هيلاسلاسي الي السودان لإحصاء انفاس الثوار الإريتريين,وكان عليه ان يتصرف بسرعة تجاه ماجري خوفا من عقاب ملك االملوك اسد يهوذا فشرع في صمت يفكر في توجيه ضربة لطيفور تبطل ماقام به.
بمساعدة صحفيين عملاء له دّبر الملحق تركن خطة للإيقاع به ,وبالفعل تم إستدراجه الي فندق المنتزه وهو فندق جديد شرق الخرطوم يتوسطه حوض سباحة يشع بالأضواء وتتناثر حوله طاولات انيقة في جو شاعري .
وجد طيفور نفسه وجها لوجه امام "سفير جهنم كما كنا نطلق عليه"ولكنه كان غيرعابيء وذلك لوجود اثنين من زملائه مستبعدا في الوقت نفسه ان يقوم المضيف بأي تصرف يعكّر جو السهرة ,فدارت الكؤوس تسري في الرؤوس فدس "تركن" في كأس طيفور مخدرا ثقل به لسانه وجسمه بينما انسحب الصحفيان في هدوء بعد ان اكملا المهمة حمل فرنكشتاين ضحيته المترنحة الفاقدة الوعي الي سيارته متوجها بها الي منزله في حي العمارات الراقي, وهناك قام بتصويره في اوضاع شاذة إستخدم لقطاتها المشينة فيما بعد ضده ومهددا اياه بنشرها في الصحف وتوزيعها علي معارفه واصدقاؤه اذا لم يلب شروطه , وكانت الشروط هو ان يضع اسمه علي كتاب بعنوان "حقيقة جبهة التحرير الأريترية" كتاب يسيء الي الثورة ويصور الثوار "كشفته" قاطعي طريق, ولم يجد الراحل بدا من الإذعان لضغوط عنيفة مارسها ذلك المجرم ضده.
كان كتاب "حقيقة جبهة التحرير الإرترية بقلم أحمد طيفور" قد بدأت طباعته في مطبعة جريدة الزمان التي أصدرها ورأس تحريرها الصحافي عبد العزيز حسن، الذي اتهم بأنه كان حلقة الوصل الأولى بين ترّقي وأحمد طيفور. جاء بعض عمال المطبعة الذين ساءهم ما كان يُعد الى القادة الإرتريين وأطلعوهم على الأمر وزودوهم بنسخ من مسودات ما قبل الطبع. لم يكن الكتاب من تأليف أحمد طيفور، والحديث هنا لعمر السوري ولكنه بني على ما كتبه في "21 أكتوبر" وبمكر دونه مكر الثعلب. فالكتاب وبخبث شديد يدعي فيما يدعي إن الإرتريين يسعون الى فصل كسلا اذا تحررت دولتهم ".
سعي وفد من القادة الأريتريين من بينهم عمر السّوري سعيا محموما لمعرفة كاتب الكاتب الأصلي وقصدو حسب رواية السّوري الصحفي والشاعر المعروف حسين عثمان صاحب ورئيس تحرير مجلة الصباح الجديد في مكتبه . فأمسك الرجل بالمسودة وقرأ المقدمة: " ثم تصفح بعض الأبواب. وبعد صمت عميق استغرق دقائق معدودات، قال لهم "مقدمة الكتاب هذه وتلك السطور المتناثرة في المتن لا يكتبها في السودان إلا اثنان في الوسط الصحفي أنا أحدهما , ولكنني لم افعل ذلك , اما الثاني فهو"ع ح" المشهور بعلاقته القوية بترقي .

مضت جرائم "ترقي "او" "تركن " تجاه الإريتريين وطيفور دون تحقيق او مسائلة من احد, وكل مافعلته الحكومة الإتلافية بين حزبي الأمة والوطني الإتحاد وجّهت وزير لخارجية بالإنابة ابرهيم المفتي ليعقد مؤتمرا صحفيا تلفزيزنيا يوضح فيه ما جري, ولكن الرجل بطيبته المتناهية وعدم إلمامه بخلفيات القضية فشل في ان يقدم اية معلومات تفيد الصحفيين فطوي الموضوع في دوامة صراعات الحزبين ولم يعد يذكره احد .
اطلق سفير جهنم كما كنا نطلق عليه اطلق يده استباحة لمجتمع الخرطوم دون مسائلة من احد ,وعقد صداقة مع رئيس الوزراء محمد احمدالمحجوب,وكان يزوره في منزله متي شاء ودون مواعيد ليبتز بهذه الزيارات الأمن السوداني والوزراء والمسئولين تأمينا لتحركاته .
أقام شبكة جاسوسية قوامها سياسيون وصحفيون بل وجنّد المومسا ت الإثيوبيات في الخرطوم والمدن السودانية الأخري للتجسس علي الأريتريين والمتعاطفين معهم ,وكانت اكبر جرائمه تصفية المعارض الأثيوبي كبدي تسما واثنين من مساعديه الذين عثر علي جثثهم في القضاء الواقع بين المطار وبري.
افتتح ناديا في" الخرطوم اثنين"اسماه نادي الجالية الإثيوبية يقدم المشروبات والأكلات الإثيوبية باسعار رخيصة نادلاته فتيات إثيوبيات جميلات لجذب الزبائن ,وبالفعل صار هذا النادي قبلة للصحفيين والسياسين ونجوم المجتمع لرخص اسعاره,وبهذا استطاع "تركن" ان يؤمن مصدر معلومات جديد قوامه زوار النادي متعد دي المشارب .
عاد الي السودان هاربا بعد الإنقلاب الذي قاده منغستو هيلا ماريام ضد الإمبراطور هيلاسلاسي عام1974 ولكن مخابرات النميري اعتقلته في الحدود وسجنته سنوات طلب بعدها اللجوء الي بريطانيا حيث توفي هناك.

S.meheasi@hotmail.com
////////////////

 

آراء