مواقف البريطانيين حيال الطبقة العاملة السودانية: سجلات وزارة الخارجية كمصادر للتاريخ الاجتماعي
British Attitudes to Sudanese Labour: The Foreign Office Records as Sources for Social History Peter Cross بيتر كروس ترجمة تلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض المقتطفات من مقال طويل (43 صفحة) بقلم بيتر كروس عن: "مواقف البريطانيين حيال الطبقة العاملة السودانية: كمصادر للتاريخ الاجتماعي"، تم نشره في العدد الرابع والعشرين من "المجلة البريطانية لدراسات الشرق الأوسط BJMES " الصادر عام 1997م. وكان الكاتب يعمل باحثا مستقلا إبان صدور ذلك المقال. وسبق لنا ترجمة أجزاء من مقال عن "تأسيس النقابات العمالية .... في السودان"، اعتمد في بعض أجزائه على ما ورد في مقال بيتر كروس الذي نترجم هنا بعض مقتطفات منه. المترجم ************ تناول الكاتب في ملخص بحثه أن دافعه لنشر هذا العمل كان هو النقص الواضح في الكتابات الموثقة عن تاريخ الطبقة العاملة السودانية (التي وصفها بالمهمة تاريخيا رغم صغرها)، وهو يهدف للمساهمة في سد هذا النقص بالكتابة عن مواقف البريطانيين حيال الطبقة العاملة السودانية، معتمدا على ما ورد في سجلات وزارة الخارجية البريطانية. ويمكن تقسيم تلك المواقف إبان سنوات الحكم الثنائي إلى أربع مراحل: 1. من بداية الحكم الثنائي إلى 1904م، حيث أعتبر المستعمرون أنه ليس بإمكان السودانيين - بصورة عامة – القيام بأعمال إنتاجية يمكن لهم الحصول منها على أجور. 2. من 1904م (حين بدأت عمليات إنشاء البنية التحتية) إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين وضح للسلطات في تلك السنوات أنه يمكن القيام للأهالي بـ "العمل مقابل أجر". وساد أيضا تخوف من أن يهجر الكثير من الأهالي الزراعة والتحول إلى الأعمال اليدوية، وعملت الحكومة للحد من ذلك. 3. كان الظهور المفاجئ عام 1946م للحركة (النقابية) العمالية صادما للحكام البريطانيين، مما دعاهم للبحث عن قوى سياسية خارجية للتأثير – بطريقة أو أخرى – على ما افترضوا أنها "حركة عمالية تفتقر إلى التنظيم". 4. من عام 1948م وما بعد ذلك، وبضغوط من لندن وأحداث محلية، قبلت حكومة السودان بوجود حركة عمالية بالبلاد، بل وحاولت مرارا ضمها أو المشاركة فيها (غير أن تلك المحاولات لم تصب أي نجاح يذكر). ************* ********** ******** استعرض الكاتب في مقدمته ما كُتب عن تاريخ الحركة العمالية السودانية وهو قليل. وهذا نقص في التوثيق لا مبرر له، على الرغم من ارتباط تلك الحركة في السودان بمجريات الأحداث في مصر. وأشار إلى تفرد الحركة النقابية العمالية في السودان، التي لم يستغرق تكوينها سوى تسعة أعوام فقط، بينما استغرق تكوين النقابات وسن تشريعاتها في بريطانيا عقودا طويلة. وأتى على ذكر أدوار الطبقة العمالية في نيل الاستقلال وثورتي 1964م و1985م. وأشار الكاتب إلى أن تجاهل الأكاديميين الغربيين لا يقتصر على الحركة العمالية السودانية، إذ أنه يشمل الحركات العمالية في كثير من بلدان أفريقيا وآسيا. وقد يكون مرد ذلك التجاهل هو عدم اقتناع أولئك الأكاديميين بأن الحركات المستقلة للطبقة العاملة في تلك البلدان يمكن لها أن تؤدي أدوارا مهمة في نضال التحرر الوطني من الاستعمار (الذي كانوا يفترضون أن من قاموا به هم من الطبقة الوسطى، ربما بمساعدة من المزارعين). ولم يكن الحكام البريطانيون أنفسهم يؤمنون بوجود تقسيمات طبقية أصلا في السودان. إلا أن القسم السياسي بحكومة السودان كان يعد النظام القبلي هو الوضع المثالي لبلد كالسودان، ومنحه الكثير من السلطات، رغما عن أن ذلك النظام بدأ في الانهيار مع ظهور طبقات جديدة في المجتمع. وكانت سجلات ووثائق وزارة الخارجية البريطانية صريحة وواضحة بخصوص تكوين تلك الطبقات في السودان. إلا أن الإداريين في السودان كان يتجاهلون ذلك ولا يشجعون على ظهوره. وفي ذلك كتب رجل الدولة والإداري الاستعماري فيسكاونت ميلنر (1854 – 1925م) في عام 1919م عن (ضرورة تحاشي خلق طبقة من "الأفندية" المتعلمين الذين يسهل تعرضهم لأفكار وطنية أو قومية، وشروعهم في إثارة القلاقل والتمرد على البريطانيين كما فعلوا في مصر)، رغم أن ذلك يناقض جهود الحكومة في تعليم أبناء الأهالي لشغل الوظائف الحكومية الإدارية الدنيا ووظائف العمال المهرة (الصنايعية). ********** ********** ********** ومن المؤلفات الجادة التي التفتت إلى مسألة التحليل الطبقي للتطورات الاجتماعية والسياسية في السودان هو كتاب تيم نبلوك المعنون "الطبقة والسلطة في السودان: ديناميكيات (ديناميات) السياسية السودانية بين عامي 1898 – 1985م". غير أن كاتب هذا المقال لا يشارك تيم نبلوك نظريته التي تذهب إلى أن البنية الطبقية للسودان، تلك التي نشأت في العهد الاستعمار الثنائي، كانت لها أهمية مركزية في فهم تطور الحياة السياسية بعد الاستقلال. إلا أن التركيز في هذا المقال ينصب على البروليتاريا الحضرية (من العمال المهرة وغير المهرة في مختلف المجالات) التي ظهرت بالسودان إبان فترة الحكم البريطاني. وهنالك – على حد علم كاتب المقال – كتاب وحيد نشره سعد الدين فوزي عام 1955م عن تلك الطبقة (العاملة) في المجتمع السوداني بعنوان: "الحركة العمالية بالسودان، 1946 – 1955م" (أصدر مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ترجمة له عام 1998م بقلم محمد علي جادين. المترجم). وهو كتاب ذاخر بالمعلومات المفصلة المفيدة، ولكنه لا يخلو من عيوب منهجية أتت كنتيجة مباشرة للسياق السياسي والتاريخي الذي ظهر الكتاب في غضونه. فقد تم تأليف ذلك الكتاب (وهو مستل من رسالة دكتوراه. المترجم) بينما كان البريطانيون يستعدون للرحيل عن البلاد، وكانت نخبة الطبقة المتعلمة التي ينتمي إليها دكتور فوزي، تتهيأ لتقلد السلطة السياسية في الدولة حديثة الاستقلال. لذا كان موقف فوزي حيال العلاقات بين الطبقات موقفا مثاليا يجنح لعدم المعارضة والمواجهة. وكان موقفه من النقابات العمالية وحريتها بمثابة نداء ليبرالي يتبنى قيام نقابات "مسؤولة"، وكان يدين الاستخدام المفرط لسلاح الإضراب، ويشيد بحكمة الإجراءات الحكومية التي هدفت للحد منها. أي أن فوزي كان مهتما في مؤلفه بأفضل السبل لتوجيه نشاطات عمال السودان واستغلالها في زيادة الإنتاجية في فترة بناء الوطن، وليس في ديناميات نشاطات هؤلاء العمال. وهناك أطروحة جامعية في مجال إدارة الأعمال (لم تُنشر) لعبد الرحمن الطيب علي طه، بعنوان: "الحركة العمالية السودانية: دراسة عن النقابات العمالية في مجتمع نامٍ" قدمت لجامعة أمريكية عام 1970م. وشملت تلك الدراسة الفترة بين 1946 إلى 1969م (أي أنها شملت فترة أوسع من تلك التي درسها فوزي). واعتمدت تلك الرسالة على ما أتى به فوزي في كثير من المواضع، غير أنه عارضه في تقليله من شأن العوامل السياسية والايديلوجية التي أفضت لقيام الحركة العمالية. ******** *********** *********** الفترة الأولى: 1898م - 1904م عندما سقطت دولة المهدية على يد الجيش الإنجليزي – المصري في 18989م كان الاقتصاد السوداني، بل كل المجتمع السوداني، منفصلا ومعزولا (عن العالم) لعقدين من الزمان قضاها في الثورة والحرب. وساهمت الصراعات المسلحة والهجرات القسرية والضرائب والمجاعات والأمراض في تعطيل التجارة وتقليل قيمة العملة، وعدم استغلال الأراضي الشاسعة، وغياب وسائل مواصلات حديثة. وكان شغل الحكام الجدد هو القيام بـ "التَهْدِئَة والتَسْكِين". ثم قاموا من بعد ذلك بالتخطيط لمشاريع زراعية، مع توقع عون من الخزانة البريطانية (أتى في الواقع من الحكومة المصرية). وفيما عدا ذلك، يبدو أن البريطانيين كانوا قد قدموا للسودان دون خطط مسبقة أو برنامج عمل معين، وكان غزوهم للسودان مدفوعا بسياسات السلطات الأوروبية في سياق تسابقها المحموم على أفريقيا أكثر منه رغبة في الحصول على مُبْتَغَيات اقتصادية مخطط لها سلفا. وكان لورد كرومر يؤمن بأن السودانيين في تلك الفترة الباكرة من الحكم البريطاني (ومعظمهم من الرعاة المستقرين أو الرحل) لم "يفهموا" بعد أن على الرجل أن يعمل وإلا سيموت جوعا. وعلى الرغم من ذلك بدأت المصالح البريطانية والأوروبية في التقدم لنيل امتيازات في مجالي الزراعة والتعدين فور "استعادة" السودان في 1898م. وبحلول عام 1905م كانت 12 شركة تعدين قد تحصلت على رخص لمزاولة التنقيب عن المعادن بالسودان. وتقدم بعض رجال الأعمال الغربيين بمقترحات لزراعة القطن بالبلاد، أهمهم الأمريكي لي هنت (Leigh Hunt) الذي أقام "رابطة (أو اتحاد) مزارع السودان التجريبيةSudan Experimental Plantations Syndicate "، (وبعد سنوات من نجاح تلك التجربة، أزيلت في عام 1911م من اسم المشروع كلمة "التجريبية" عندما أدخلت الحكومة بالنيل الأزرق طريقة الري بالمضخات (الطلمبات)، ودعت "رابطة (أو اتحاد) مزارع السودان" لإدارة مشروع الجزيرة. المترجم). ومنح لي هنت امتياز مشروع الزيداب. وتوسع مشروع مد خط السكة حديد بالبلاد، الذي بدأ عسكريا مع تقدم جيش كتشنر. ومع نهاية 1899م، اكتمل مد الخط من ضفة نهر أتبرا الشمالية إلى الحلفايا. وكان لمد ذلك الخط أهمية اقتصادية كبيرة، إذا قُدر للمحاصيل السودانية (وثرواته المعدنية المفترضة) أن تصدر للخارج. وتم في السنوات التالية مسح العديد من المناطق لمد فروع لذلك الخط الحديدي.، خاصة من بربر إلى سواكن، ومن أبي حمد إلى كريمة (وقد بدأ العمل في هذا الفرع الأخير عام 1904م). وفي ذلك العام بدأ العمل في إنشاء ميناء بورتسودان، ومُدت مئات الأميال من الطرق (البدائية نوعا ما) وخطوط التلغراف في الخمس أعوام الأولى من الحكم الاستعماري. وكانت مشاريع البنية التحتية تلك، وعمليات إعادة بناء الخرطوم تحتاج إلى أعداد كبيرة من العمالة اليدوية. وبينما كانت السياسة الاقتصادية البريطانية في السودان توصي بأن يظل الزراع في مناطقهم للحفاظ على الإنتاج الزراعي بالبلاد، أو زيادته إن أمكن، كانت تلك السياسة تقضي أيضا بزيادة أعداد العمال الأحرار (ويقصد بهؤلاء الرجال غير الأرقاء الذين لا يمتلكون أي وسائل للإنتاج). ولم تلتزم الحكومة بسياسة ثابتة ومتسقة تجاه الرق، علما بأن محاربة تجارته كانت إحدى الأسباب الأخلاقية التي سوغ بها البريطانيون "استعادة" السودان. وفي يناير من عام 1899م أعلنت الحكومة عن تحريم تجارة الرقيق. غير أن الرقيق كان يشكل 20 إلى 30% من سكان البلاد، ونسبة كبيرة من العمال الزراعيين. وخشي البريطانيون من هبوط الإنتاج الزراعي بالبلاد إن تم تحرير المسترقين العاملين في مزارع "سادتهم"، لذا وجدوا حلا لتلك المعضلة بأن فرقوا بين "تجارة الرقيق" و"امتلاك الرقيق". وكان البريطانيون يقبلون بـ "امتلاك الرقيق" وفقا لبعض الشروط التي وضعها كرومر في 1899م، التي تضمنت تدرجا في تحرير الرق المنزلي وغيره، وتحويل المسترقين لأجراء. واستمر ذلك التغاضي عن امتلاك المسترقين حتى عام 1922م. وكان من الحلول التي لجأ إليها الحكام البريطانيون لحل مشكلة نقص العمالة هي استيراد عمالة أجنبية للعمل في إنشاء مشاريع البنية التحتية. وقد كان الجنود المصريون هم من قاموا ببناء خط السكة حديد في شمال السودان في السنوات الأولي للغزو الاستعماري. وتم التخطيط لاستخدام الجنود الهنود المسلمين في تشييد الخط الحديدي بين بربر وسواكن، وذلك بموجب اتفاق مع حكومة الهند عام 1902م (عن طريق لندن). غير أن تلك الخطة لم تر النور نسبة لظهور مشاكل عديدة أعاقت الاتفاق. وحاول الأمريكي لي هنت جلب عمال من الأمريكيين من أصل أفريقي للعمل في مشروع الزيداب، إلا أن اللورد كرومر لم يتحمس للفكرة، وتم إرجاع من جلبوا من أمريكا للعمل بالسودان (كما ذكر ذلك محمد عمر بشير في كتابه الصادر عام 1974م "Revolution and Nationalism in the Sudan"). وتمت محاولات أخرى لجلب عمال من البوسنة والصين ونيجريا لم يكتب لمعظمها النجاح. ومنذ سنوات الحكم الثنائي الباكرة كانت هنالك هجرة موسمية لفلاحين الصعيد المصري للعمل في الزراعة، ثم في أعمال القنوات وبناء السدود. وفي تقليد قديم، كانت هنالك أعداد كبيرة من سكان غرب أفريقيا يقومون بعبور الأراضي السودانية وهم في طريقهم لمكة لأداء فريضة الحج، وكان بعضهم يعمل لفترات طويلة لكسب بعض المال ومقابلة تكاليف رحلته وحجه. وساهمت عودة الأمن والنظام في أرجاء البلاد في استقرار عدد من هؤلاء في المناطق الحضرية والريفية في سنوات الحكم الثنائي. وكانت هنالك أيضا هجرات من اثيوبيين وإرتريين ويمنيين للعمل في السودان (1). وأتى للسودان أيضا الكثير من العمال المهرة من اليونان وإيطاليا. ********* ******** *********** الفترة الثانية: 1904 – 1945م استهل الكاتب هذا الجزء بمقولة من سير اليدون قرست جاء فيها أن المقاول الذي تولى عملية إنشاء الكباري في خط السكة حديد بالبحر الأحمر كان قد استخدم أعدادا كبيرة من العمال الهدندوة، حيث أثبتوا نجاحا كبيرا في ذلك العمل، مما حفزه ليستخدمهم في تشييد جزء الخط الحديدي بين شندي والخرطوم. وعلق سير ريجلاند وينجت على ذلك بالقول إن "هذا أمر مثير للاهتمام أن يميل الفيزي ويزي لتأدية دوره في عمل (اعتيادي) ممل مثل بناء الجسور". التفتت الإدارة البريطانية في هذه الفترة إلى أهمية العمل والعمال بالسودان. وكان النقص في العمالة أحد مشكلتين جابههما البريطانيون (كانت المشكلة الأخرى هي توفير التمويل للأشغال العامة بالبلاد). وكان على كل مديري المديريات أن يضمنوا في تقاريرهم السنوية شيئا عن "وضع سوق العمل" بمديرياتهم، لتدرج لاحقا في التقرير الحكومي السنوي. وبدأت الحكومة في تسوية ملكيات الأراضي للبدء في زيادة الإنتاج الزراعي بالبلاد، وبالفعل ارتفعت مساحة الأراضي الزراعية من 1.1 مليون فدان في عام 194م إلى 2.1 فدان في عام 1913م. وعادت تجارة الصمغ العربي التي كانت قد توقفت تماما في سنوات حكم المهدية، وصار الصمغ هو أهم سلعة يتم تصديرها من السودان، ومصدر دخل الحكومة الأول حتى منتصف العشرينيات، حين حل محله القطن. وتوسعت زراعة القطن بعد إنشاء خزان سنار وبدء العمل في إنشاء مشروع الجزيرة في يناير من عام 1914م. وتزامن ذلك مع أزمة مرت بها صناعة الغزل والنسيج في بريطانيا بسبب فشل محصول القطن المصري والأمريكي. وانتعشت زراعة القطن أيضا في بعض المشاريع الصغيرة في القاش والتاكا وفي الجزيرة، خاصة بين عامي 1926 و1929م، مع بروز انتعاش اقتصادي عام. والتفتت الحكومة أيضا لتشييد بنية تحتية، خاصة في مجال الطرق والمواصلات، كانت تستهلك ثلاثة أرباع منصرفاتها. وأفتتح ميناء بورتسودان عام 1909م، ومحطة السكك الحديدة بالخرطوم في العام الذي يليه، ونقلت رئاسة السكة حديد من حلفا إلى أتبرا في عام 1906م، وكان ذلك إيذانا بإنشاء مدينة عصرية في أتبرا (التي غدت أهم مدينة عمالية بالبلاد). ومُدت خطوط السكة حديد إلى ود مدني (1909م) وإلى الأبيض (1911م). وتواصل بعد الحرب لعالمية الأولى مد خطوط السكة حديد لمدن في شرق البلاد. وعلى الرغم من كل تلك الإنشاءات، إلا أن الصناعة والتعدين لم يشهدا أي تطور يذكر في تلك الفترة. بل كانت الحكومة تقوم عمليا بتثبيط أي محاولة للتصنيع والتعدين بالبلاد (مثلا برفع قيمة منح رخصة التنقيب عن المعادن بالبلاد لمن وصفهم وينجت بـ "المغامرين"). ورغم ذلك فقد مُنحت عشرون رخصة في العقد الأول للحكم الثنائي، ولم يكن مردود التنقيب عن المعادن مجزيا. وأغلق منجم للذهب في أم نبردي Um Nabardi عام 1919م. ولم يكن هنالك مجرد تفكير في إقامة صناعة غزل ونسيج في السودان، إذ أن كل قطن السودان كان موجها للمصانع في لانكشير، وإلى حد أقل للمصانع في الهند (البريطانية). ويمكن القول بأن الإدارة السياسية بالبلاد كانت تخشى من أن يفضي التصنيع بالبلاد إلى تغييرات اجتماعية تسبب لهم مشاكل (من صنع أيديهم). ومنذ منتصف عشرينيات القرن العشرين صار القطن (خاصة المنتج بمشروع الجزيرة) هو سلعة التصدير الأولى في السودان. لذا فقد كان نقص الطلب العالمي عليه أو إصابته بآفات تلحق ضررا كبيرا باقتصاد البلاد (كما حدث عام 1931م). وزاد الطلب العالمي لاحقا على القطن وأدى ذلك لتحسن الأوضاع الاقتصادية بالبلاد. وأثرت تلك التذبذبات في الأوضاع على الطلب على العمالة بالبلاد. فحتى الحرب العالمية الأولى لزم لتشييد بنيات تحتية كبيرة تشغيل أعدادا ضخمة من العمال اليدويين غير المهرة. وبسبب الحرب توقفت معظم تلك الانشاءات وتم الاستغناء عن غالب أولئك العمال. وبعد انتهاء الحرب الأولى وحتى منتصف العشرينيات استؤنف العمل في مشاريع كبيرة مثل خزان مكوار وحفر قناة في مشروع الجزيرة وازداد الطلب على العمالة اليدوية حتى بداية الثلاثينيات، حيث ساد الركود الاقتصادي. ولم تقم الحكومة في تلك الفترة بأي عملية تنموية سوى بناء سد جبل الأولياء. لم يقتنع البريطانيون بإمكانية الحصول على عمالة يدوية في السودان إلا بعد عام 1904م. فقبل ذلك العام كانت كل العمالة اليدوية تُستجلب من خارج البلاد. وكان كرومر في عام 1903 وما قبلها يكرر بأن السودانيين غير قادرين على العمل الشاق. غير أنه غير رأيه بعد أن رأى نجاح بعض الأعمال التي قام بها العمال السودانيين في حقول التعدين وغيرها من الأعمال، واختط سياسة تهدف لتقليل العمالة الأجنبية (فعلى سبيل المثال أمر كرومر شخصيا بإيقاف جلب هنود مسلمين للعمل في تشييد خط السكة حديد بين بربر وسواكن، وتعيين سودانيين للقيام بتلك الأشغال). غير أن الأجور العالية نسبيا التي كانت تعطى للعمال المحليين جعلت المسؤولين يخشون من هجر الكثيرين للزراعة في مناطقهم والانتقال إلى حيث مشاريع البنية التحية التي كانت تسير على قدم وساق. وكانت هنالك اختلافات كبيرة في الأجر اليومي للعمال اليدويين في المديريات المختلفة. فبحسب التقرير السنوي للمخابرات عام 1923م كانت يومية العامل في البحر الأحمر 87 مليما، وفي النيل الأزرق 65 مليما، وفي الخرطوم 60 مليما، وفي بربر 47 مليما، وفي أعالي النيل 40 مليما، وفي دنقلا 33 مليما، وفي دارفور 30 مليما، وفي منقلا 17 مليما. وأحدثت هجرة القادرين على العمل من الأرياف للمدن بحثا عن عمل مشاكل اجتماعية، إذ أن أعداد أولئك العمال كان يفوق الحاجة الفعلية لسوق العمل. واضطرت الحكومة لإصدار "مرسوم المتشردين" الذي نص على إيقاع عقوبات صارمة على الجرائم التي يرتكبها الشحاذون أو المتشردون أو العاطلون عن العمل. ************* أنشئت في عام 1905م إدارة سميت "مكتب العمل" كانت مكلفة بالتنسيق بين المخدمين والعمال، وضمان حصول العمال غير المهرة على أجور عادلة، إذ أنه لا يمكن سريان قانون العرض والطلب حتى يفرض حد أدنى للأجور يتناسب مع تكلفة المعيشة. وتم تخفيض ذلك الحد (في ذلك العام) إلى ثلاثة ملاليم يوميا. وتم في عامي 1920 -1921م إعادة تشكيل "مكتب العمل" ليكون تحت إدارة مدير مصلحة الزراعة (وكان الطلب على العمالة في تلك الفترة على أشده). ثم أعيد تشكيله مرة أخرى في عامي 1936م و1945م، تحت إدارة السكرتير الإداري مع آخرين. ************* ساهم تنقل العمال (من المسترقين السابقين وغير المسترقين مختلفي الألسن والأديان والمناطق والقبائل والطرق الصوفية) بين مناطق السودان المختلفة في جمعهم معا تحت ظروف وجودية متشابهة. ولعل هذا هو ما عجل اجتماعيا بهدم الوعي الاجتماعي التقليدي، وبزوغ نوع جديد من الوعي قائم على الطبقة. وأتى للعاصمة المثلثة أناس من شمال السودان ودارفور وغرب أفريقيا. وزاد عدد هؤلاء من 81,880 في عام 1904م، إلى 202,381 في عام 1930م. وأقبل على بورتسودان رجال قبائل البجا، وأناس من كسلا والخرطوم، وحتى من الشاطئ المقابل للبحر الأحمر. **************** وقع أول اضراب عن العمل في السودان في عام 1903م، حيث توقف عمال الغابات عن العمل احتجاجا على ظروف عملهم. وأضرب هؤلاء مرة أخرى في عام 1907م، وكان ذلك عام شهد إضرابا آخر للمصريين العاملين في البواخر النيلية احتجاجا على قلة أجورهم، وإضرابا للأطفال العاملين بمشروع الفاضلاب الزراعي في بربر. وتواصلت في تلك السنوات وحتى بداية الحرب لعالمية الأولى العديد من الإضرابات التلقائية المعزولة قام بها الكتبة الحكوميون (1908م)، والمزارعون في مشروع الكاملين الحكومي (1909م)، وبعض العاملين ببورتسودان وأركويت. وفي 1919م أضرب العاملون بالحكومة المصرية في أتبرا وحلفا. وفي 1920م هدد عمال السكة حديد بالإضراب احتجاجا على نظام جديد للترقيات، وفي العام التالي أضرب بالفعل 108 من عمال الورش بالسكة حديد. واستمرت الاحتجاجات حتى وقوع حركة 1924م، التي شهدت دعوات لإضراب العاملين في البريد والبرق، وقيام إضراب قصير الأجل لكتبة الجمارك في بورتسودان احتجاجا على اعتقال زميل لهم كان عضوا في "اللواء الأبيض". وبعد حركة 1924م لم تحدث أي أضرابات حتى عام 1931م حين أضرب طلاب كلية غردون احتجاجا على تخفيض مرتبات خريجي الكلية بنحو 30% (2). وفي عام 1934م أضرب نحو مئتين من عمال خزان جبل الأولياء مطالبين بزيادة أجورهم، بينما أضرب المصريون العاملون بذلك الخزان في عام 1936م. وفي ذلك العام أضرب سائقو وكُمساريّة الترام بالخرطوم لمدة خمسة أيام. وفي عام 1938م أضرب عمال المحالج وعمال ميناء بورتسودان. وتواصل ذلك المنحى حتى قيام الحرب العالمية الثانية، فقد تم تسجيل إضرابات عمالية في الجزيرة وكسلا والمديرية الشمالية في عام 1940م، وفي عام 1941م حدثت إضرابات في الخرطوم وترنكات (قرب بورتسودان) ومشروع الجزيرة وفي مصنع أزرار في أتبرا. وفي عام 1942م أضرب ستمائة من العمال في كسلا، وعمال في بحر الغزال وجوبا، وعمال الأشغال العامة بالخرطوم، والعمال في السكة حديد بشجرة غردون، قرب الخرطوم. بل وقام الجنود السودانيون في كتيبة الحدود بليبيا بإضراب / اعتصام sit - down strike احتجاجا على إلغاء عطلاتهم. ويجدر بالذكر أن بعض تلك الإضرابات لم تذكر في سجلات وزارة الخارجية البريطانية. وعندما تذكر في تلك السجلات، كان المسؤولون البريطانيون يتحاشون كلمة "إضرابات" ويُسَمُّونها بغيرِ اسْمِها. ولم تُذكر كلمة "إضراب" صراحةً إلا عند ذكر إضراب شارك فيه إثنان (!) من موظفي البريد والبرق في بورتسودان. وثبت من تقارير المخابرات (التي لم تذكر في سجلات وزارة الخارجية البريطانية) أنه كان هنالك قلق ومخاوف، منذ منتصف العشرينات، من تزايد التذمر والاحتجاجات في أوساط العمال المهرة والأوربيين العاملين في الشركات والمصانع، مما يشكل بذرة لحركة عمالية في طريقها للبروز. إلا أن تلك المخاوف لم تنقل إلى المسؤولين بلندن بصورة منهجية حتى عام 1946م. ********** الفترة الثالثة: 1946م – 1948م (مولد الحركة العمالية السودانية) تطرق الكاتب هنا لفترة تكوين النقابات العمالية، وذكر أنها لم تنشأ في عام 1946م من فراغ (ex nihilo) فقد كانت هنالك لها سوابق عديدة تواصلت عبر عقود عديدة سالفة. وأشار أيضا إلى أن فكرة أن يقوم العمال السودانيون بتنظيم أنفسهم والقيام بعمل موحد ومنسق بحسبانهم "طبقة" كان بمثابة صدمة غير متوقعة للمسؤولين البريطانيين. فقد كانوا يعدون التشدد العمالي (labor militancy) شيئا غريبا على السودانيين، مصدره معلومات مضللة ودعايات مغرضة من المصريين، وربما من حزب "الأشقاء"، أو الشيوعيين. وظل السكرتير الإداري سير جيمس روبرتسون على موقفه من أن الحزب الشيوعي البريطاني هو من يمسك بخيوط الاضطرابات التي يثيرها العمال ونقابتهم الوليدة. وكانت هنالك مجموعات شيوعية في السودان يقوم على تنظيمها شاب بريطاني اسمه هيربرت ستوري في غضون سنوات الأربعينات. غير أن دور الرجل لم يتعد طلاب كلية غردون. وانضمت في عام 1946م مجموعة هيربرت استوري إلى مجموعة أخرى اسمها "الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو)" نشأت من "مجموعة أمدرمان للطلبة السودانيين الدارسين بجامعة القاهرة " التي أقامتها "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)"، كبرى التنظيمات الشيوعية المصرية بقيادة هنري كوريل (3). وقبضت الشرطة في أتبرا على أول منشور لحستو في سبتمبر من عام 1947م، بعد عام من بدء الحركة. غير أن محاولات الحزب الشيوعي اللاحقة نسب الفضل كله له في إنشاء الحركة العمالية بالسودان لا تتفق مع غياب أي تأثير شيوعي في بدايات تكوين الحركة العمالية. ويمكن استنتاج ذلك مما ذكره عبد الخالق محجوب سكرتير عام الحزب (الذي أنضم لحستو وهو طالب بالقاهرة) أمام محكمة عسكرية مَثُل أمامها في 13 مارس من عام 1959م: (وأقر في اعتزاز أنني لم أبخل في يوم من الأيام بتلك التجارب على وطني، بل أنني انتهزت أول فرصة للعطلة ... للحضور إلى السودان وتقديم خبرتي ومعرفتي المتواضعة لبني وطني. أنني أذكر بالفخر أن على رأس تلك الاعمال التي أسهمت فيها مساعدة الطبقة العاملة السودانية في بناء منظماتها عام 1947م. فقد عشت فترة في مدينة عطبرة خلال ذلك العام وعاصرت تكوين أول منظمة نقابية سودانية هي "هيئة شئون عمال السكة حديد" (4). وفي الواقع لم تكن الوثيقة المؤسسة لهيئة شئون العمال، وأول رسالة لها لإدارة السكة حديد (في 16 يوليو 1947م) تطلب فيها من السلطات الاعتراف بها، تحمل أي إشارة أو ملمح لتأثير شيوعي، بل بدت "معتدلة ووسطية" في لهجتها لدرجة الخنوع (servility)، ولم تذكر تلك الرسالة بتاتا أي شيء عن سلاح الإضراب، بَلهَ التهديد باستخدامه. وشددت الرسالة صراحةً على خلو الهيئة من أي أهداف سياسية، بل وذكرت ما يفيد بأن الهيئة ستعمل جاهدةً لتتحاشى القيام بأي عمل قد يكون من شأنه أن يسبب للإدارة أي إزعاج أو مضايقة أو مشكلة. (تناول الكاتب في بقية مقاله نفس ما أوردته الينا فيزاديني في مقالها المترجم بعنوان" تأسيس النقابات العمالية وصراعات التنمية بالسودان (1946 – 1952م)". المترجم (5) **************** **********
إشارات مرجعية 1. يمكن النظر في مقال صغير عنوانه: "رسالة من السكرتير الإداري البريطاني حول المهاجرين اليمنيين في السودان". https://www.sudaress.com/sudanile/105854 2. للباحث العراقي ظاهر جاسم الدوري مقال عن ذلك الاضراب بعنوان "في ذكرى إضراب كلية غردون التذكارية عام 1931م". https://www.sudaress.com/sudanile/95672 3. للمزيد من التفاصيل يمكن النظر في مقال محمد نوري الأمين المنشور عام 1987م بمجلة International J. Middle East Studies والمعنون:"The role of the Egyptian Communists in introducing the Sudanese to communism in the 1940s” دور الشيوعيين المصريين في إدخال / تعريف السودانيين بالشيوعية في أربعينيات القرن العشرين. 4. النص منقول من موقع http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=484808&r=0 5. عنوان المقال المذكور هو "مهمة عسيرة تتطلب صبرا لا حدود له: تأسيس النقابات العمالية وصراعات التنمية بالسودان (1946 – 1952م)" https://www.sudaress.com/sudanile/125434