ميزاب الكلمة وملتقي العبرة … بقلم: د. الوليد آدم مادبو

 


 

 

عبد النبي علي أحمد ..رحمة الله

       في ذات يوم فاجأ الفاروق عمر بن الخطاب رفاقه بقوله " تمنُّوا " فتمني كل من الشهوات غا يتها  المتمثلة في النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، أمَا عمر فقال " لكنني أتمني منزلاً مليئاً برجال مثل أبوعبيدة عامر بن الجراح " . عندما عَّزت الأمانة وخلت تمني عمر مثول رجل شهد له النبي "صلي" بأنه أمين هذه الأمة" . لقد إستفاد عمر منه في حياته ، فعزي عليه فراقه، أمَّا نحن فنهين المرء في حياته ونترحم عليه عند مماته . فهل يتقبل مثل هذا الترحم؟ أنظر إلي أولئك الذين مضوا من المتميزين المنشغلين بالشأن العام من أبناء هذا الشعب ، ماذا جنوا غير النكد، التعب، الإفلاس ؟ كل هذا يهون إذا إستطاعوا أن يدفعوا بالقافلة نحو الأمام ، لكن القافلة مابرحت  تتقهقر  حتي أناخت بكلكها علي " مثلث حمدي" الذي باركته الطائفية مؤخراً ودونما خجل. لقد أحست القيادة الطائفية تقادم قوي الريف السوداني فإختارت أن تتحصن عند أخر المعاقل ولسان حالها يقول " هل إلي نجاة من سبيل ؟" لقد كان أخر ما إنشغل به المرحوم مسألة التراضي وقد عقبتها بشهور مبادرة أهل السودان ، فألي أي مدي كان عبد النبي مقتنعاً بكل ذلك إذ هو حتماً ليست من متلقي " الإشارة" ؟ لعل من الإنصاف أن نقول أن هنالك أسباباً بنيوية وأخري مؤسسية/سلوكية تقهر إمكانية الفرد للتمدد والإزدهار .بالنسبة للأسباب البنوية فهناك التجاذب بين المركز والهامش والتعارض بين محاولات الإصلاح الفوقية وتلك القاعدية.إن المؤسسة لم تجعل من أولياتها تطوير الفرد المنتمي الذي عطلت ملكاته لصالح الوصول إلي الحكم ، بمعني تعطيل المدني لصالح السياسي وذاك السياسي (الحيوي) لصالح الديني ( المتمرس) وهنا نلاحظ أن الفهم للحكم مقصور علي مؤسسة الدولة أي هنالك تركيز علي إسقاط النظام ولا يوجد دأب لتفكيك المنظومة . إن أدبيات الحكمانية اليوم تقول ان كل حركة حتي إجتماع المراهقين في القهوة هو منحي من مناحي الحكم لأنه يساعد علي بلورة رأي مؤيد كان أو مخالفاً . إذا ما  كثرت حمولة الرأي علي البنيان المؤسسي دون توزيع راشد فإن البنيان حتماً سيتهاوي ويُهلك من بالداخل . في كل مرة يأتي حكم عسكري أقول لنفسي لو أن هذه الأحزاب التقليدية وظفت طاقتها في رفع قدرات أبنائها وبناتها بأبتعاثهم للخارج للتخصص في مجالات الأستراتيجية ،الإعلام ، الهندسة الدستورية، البناء المؤسسية،القيادة الفاعلة إلي أخره ليكون لهم طاقم يشرف دفة الحكم متما أذن المولي بالوصول . أما أن  يولوا كافة طاقاتهم (دون جدوي) لتغيير الحكم لا لشئ إلاَ لأنهم هم الأولي به فهذا شئ محزن .ماهي حصيلة المعارضة 20 عاماً لنظام الإنقاذ؟ صفر . فلا يوجد حزب وأحد لديه رؤا يثقب به ظلمات المجهول وغياهب الإحباط الذي كانوا أول المتسببين فيه ، إنما مجرد النعيق والتلفيق. إننا موعدون بديمقراطية دينية تكتمل أضلاعها بعد أن ينفصل الجنوب فينفرد قادة المثلث بمن بقي معهم من رعايا ، فيالها من مصيبة! إن التنازل أو التخاذل الذي تم مؤخراً لم تراع فيه مصلحة السودان إنما الأسرة المتهالكة . لو أن القيادة زعمت بان التراضي يكسبها حيزاً تستطيع أن تتمدد فيه لقلنا هذا مهم علّ الكيان يتطور تدريجياً فيكتسب من خبرات المجتمع المدني الذي تجسد مدنياً وقد إذدهر دينياً في عهد السيد عبد الرحمن ، لكنها تجربة مثل التجارب الأخري أُهملت لصالح تعبيد الصنم ، طليه ، الأهم جعله محوراً للوجود . أن  " الأمير" عبد المحمود يتكلم لغة حداثوية باستمولوجية قديمة أما صاحبه فقد إستخدم الحداثة ليقضي بها علي التقليديين  ( الإمام الهادي والمحجوب) وإستخدم التقليدانية ليقضي بها علي الحداثويين ( محمد إبراهيم خليل ، صلاح إبراهيم أحمد، عبد المحمود الحاج صالح ) ، وإستخدمهما معاً للقضاء بها علي مادبو فهل جنت علي نفسها براقش؟ الرئيس ونائبه يتكلمان عن جوانب إجرائيه في شأن الإستقالة الأخير وكلاهما يتفادي الأمر المبدئ وهو أن مادبو كان الأداة التي طوع بها المارقين وقد حان وقت ذهابه فليته يهنأ بالمعاش ! إن الرئيس يعلم جيداً أهمية الغرب لكنه يريد غرباوياً أملسً ، كما يود أن يرشح إبنته الطبيبة المتعاطية للسياسة مريم لمنصب الأمين العام وقد أراحته الأقدار من الإحراج الذي كان يمكن أن يحدثه إستئذان الدكتور الوفي عبد النبي . هذه هي الحقيقة ومن فاته تداركها عقلاً فليتشربها ذوقاً بالنظر ولو مرة أخري لمسرحية " الزعيم " لعادل إمام الممثل المصري  المخضرم .لم أزل أذكر يوم أن حملته الجماهير منتشيه بفوزه بمنصب الأمين العام الذي ولأول مرة يفوز به أحدُُُ ُ من الغبش فلا يكون حكراً للمخضرمين من الأمدرمانيين . لقد نجح عبد النبي علي أحمد فيما أخفق فيه الشفيع أحمد محمد إذ أيقن الأخير أنه لا جدوي من التصدي لخيار المنصة فإختار السلامة وهي حتماً من الصفات التي جعلته أهلاً للرئاسة.لقد برع أهل الغرب في قوميتهم فكانت هذه محنتهم ، وأخلصوا في تدينهم فكانت تلك منقصتهم ، ولا أجد ما أنصحهم به غير الصبر والإعتبار. لقد وصل عبد النبي إلي قمة الهرم السياسي الحزبي دون أن يستثمر أي نعرات عرقية ، قبلية كانت أو جهوية إنما سجله العامر بالتضحيات . بل أكد علي أهمية المنحي التنافسي/ التعاضدي وليست التعارضي /الإقصائي .إن هذا المسلك الحضاري يتلائم وشخصية عبد النبي ذالك الرجل النبيل الذي ترجم الأنصارية إلي واقع حياتي معاش. إذا كان جل ما وصف به المولي صحابه رسول (صلي) الحسبة فقد إستحقها الأنصار    ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً) . إن عبد النبي لم يكتف بالعفة ، إنما تصدق بجهده، وقته، أدبه، نباهته وحسن خلقه .لا يخطأك مطلقاً عندما تلتقيه أنه يحمل رؤي مؤسسية ، وملتزم بمنهجية فكرية.إن عبد النبي لم يكن ليخلط بين ماهو زمني وماهو روحي فإن له  لغة عقلانية مع العقلانيين وروحية مع المتذوقين...ودبلوماسية مع المتطلعين....كل هذا جعل منه ميزاباً للكلمات وأداة للتقاسم ( حتماً ليست الفصل ) بين السلطات . إذا كانت القافلة لم تتحرك حتي الأن ، رغم جهود المنجدين فقد أثري عبد النبي وأخوته الذاكرة الجمعوية  التي تحرض علي عدم  الإستكانة أو الرضي  بكافة أنواع الإستبداد الثقافي ، الأخلاقي ، السياسي ، الإقتصادي أو ذاك الروحي.ولنذكر مشهد التحرير ( تحرير الخرطوم ) من المستعمر الأبيض ... فكرة نبعت من قلب رجل صادق تهادت لها شجون السودانيين وهم يتهادون من (شِدة الحَزم لا من شَدة الحُزم ) . إذا كان عبد النبي لم يشهد النصر فإنّا نبشره بيوم عيد مبارك ينتصر فيه السودانيون لكبريائهم الذي جرح وكرامتهم التي وئدت .بقي علي الأنصار أن يستعيدوا أرثهم بإستيعابهم لخصائص الذات السودانية .. حينها ستشع الأنصارية فلا يكون شجاراً حول شبر يدفن فيه محب إنما إتساع ً بإتساع الكون ورحابً بأريحية الخالق....

د. الوليد آدم مادبو

 E-mail: auwaab@gmail.com                                                                                                                                    

 

آراء