كانت أم درمان عام 1948 تعتبر أكبر قرية في العالم. وكانت تمر على البيوت المفتشة الصحية ( حنينة ) وهي تركب الدراجة. تدخل المساكن، وتقيس بخطواتها المسافة الصحية بين المراحيض " الحُفرة " وبين " المزيرة ". وتأخذ على زجاجة صغيرة عيّنة من " نقّاط الزير" لتنقله للمختبر لفحصه .وكانت هنالك جائزة لأنظف المساكن في العام. ويتم تخفيض الضريبة على السكن " العوائد " إن كان المسكن نظيفاً. * كانت أم درمان قرية كبيرة. ولكنها نظيفة رغم انعدام الصرف الصحي المتحضر. طرقاتها من التراب المدموك. تأتي عربات البلدية، حاملة الماء لرشه في الطرقات لتلطيف الحرارة في موسم حمى " أبو فرار" التي تنتشر في الصيف. كان لباس الرجال العادي: " عرّاقي يصل طوله إلى ما بعد الساق وسروال يمتد إلى ما قبل الأقدام من قماش" الدمورّية "أو" الدبلان". وكان الرجال البالغين يتدرعون بسير جلدي وبه جفر سكين للدفاع عن النفس وتربط أعلى العضُد الأيسر ويحمل الواحد منهم عصا. أما النساء، فيرتدي البنات دون سن البلوغ فستان بطول منتصف الساق، و" طرحة ". أمام النساء فيرتدين الفساتين بطول إلى منتصف الساق ، وثوب يلتففن به، والمتزوجات يرتدين " القُرقاب " إلى كعب القدمين، غالباً مصنوع من قماش ملون هندي ( الفركة). * غرب المساكن على مسافة كيلومتر، أرض فضاء، تنمو فيها الحشائش طوال العام إلى ارتفاع المتر، وحولها شجيرات الحناء والكتِر والسدر متفرقة في الفضاء. وهو مرعى خصب للأغنام التي يأتي بها الراعي كل يوم. كل أسرة كان لها عدد أربعة أو خمس غنيمات، وتكلف المرعي اليومي من الساعة الثامنة صباحاً وإلى ما قبل الغروب (10) قروش في الشهر!.
(2) في كل بيت كان الأسرة منتجة بصورة طبيعية. هنالك في ركن بمساحة عشرون متراً مربعاً في البيت، بسور خشبي من جزوع الشجر كمكان مخصص لمعيشة الأغنام ، وتوجد أبراج الحمام على جانب من المسكن. وتربي كل أسرة مجموعة من الدجاج، تجدها تقضِي وقتها في البيت وتلعب مع الأطفال والقطط. صورة من العوائل المُنتجة لغذائها اليومي من الألبان والبيض ولحوم الطيور. ويمرّ على الحي صباحاً رجل يركب حماراً ويحمّله الأحطاب في حزم، تستخدم بعد شراءها للطبخ. فقط تشتري الأسر السكر والشاي والكبريت، والجاز الكيروسين من البقالات، وهي الشيء الوحيد الذي تضطر الأسر لشرائه.
(3) خلال صيف العام 1972، كُنا على موعد في رحلة لنشر استبيان لرسالة دكتوراه لأحد أساتذة قسم العمارة بجامعة الخرطوم آنذاك. كنا في زمان الطلب في منتصف الأعوام الدراسية بالجامعة. زرنا منطقة رفاعة، وكان مجلس ريفي رفاعة هو المسئول عن كافة قرى أرض البطانة. قمنا نحن بزيارة بعض القرى المتناثرة في أرض البطانة. زرنا مسكن في قرية ما. وكُنا أضياف هناك. واستغربنا من وجود ثلاجة تعمل بالجازولين. واكتشفنا أنها تستخدم خزانة ملابس!. استفسرنا عن الموضوع. وأوضح لنا الحاج " أبوبكر " قائلاً :
- والله يا أولادي، كُنا في نعيم من بعد موسم ناجح لجني وتصدير القطن في الستينات. وأصبحنا في غنى لا إيدنا ولا كراعنا. واشترينا الثلاجة دي. وهبّة الغنى راحت، زي فجّة الموت .وأصبحت التلاجة دولاب هدوم !.
(4) اليوم بعد انهيار هيئة السكك الحديدية وتبعه في الانهيار مشروع الجزيرة، وكان المشروع يعمل الذي فيه ما يقرب من أربعة ملايين فرد. انهمر أهل القرى على العاصمة، وتجردت القرى من أهلها، وهم يتسولون العيش في أطرافها. عادت أشباه المدن تئن من زحام شديد، بلا عمل. بدأت الدولة تحويل الرئات التي تتنفسها الأحياء لأراض سكنية، وقامت بتوزيع الأراض السكنية العشوائية، وبلغ الأمر بالدولة تحويل الأراضي الزراعية التي كانت تمد أحياء العاصمة بالخضر والفواكه، إلى أرض سكنية، توسيعاً للبيع التجاري للقطع السكنية ، أبعد من رؤية الدكتور المايوي " جعفر محمد علي بخيت " التي أطلق عليها مقولته بشأن بيع أراض العُشرة في الخرطوم بالمزاد العلني باعتبار ( الأرض سلعة مُشتهاة ). تمددت شراهة دولة الإخوان المسلمين في السودان، إلى تحويل مجاري الأمطار الموسمية، وتوزيعها إلى أراض سكنية، ويتم بيعها بأسعار تجارية. وجاءت السيول والأمطار، وجرت مياه الأمطار في مجاريها الطبيعية، وجرفت مساكن المواطنين. * تغيرت طباع أهل القرى، القادمين لأطراف المدن، وأصبح سكان العاصمة من حوالي 450000 في الستينات. وتضخمت إلى ما يقارب الاثني عشر مليوناً في مساحة تقارب 02% من أرض ما تبقى من السودان. أي أكثر من ثلث سكان ما تبقى من السودان. ولم تزل البنية التحتية للخدمات كلها كما هي !. وعمّت النفايات كل أشباه الحضر. ولم يزل أهل تنظيم الإخوان المسلمين يفاخرون بانقلابهم العسكري!
(5) ماذا تُرى لو نظرنا إلى أهل القرى نظرة فاحصة، في أصل قراهم !؟ تغيّب أهل القرى وهاجروا عنها، لا تراهم إلا في عيد الأضحى. أذكر أحد أصدقائنا في قرية في المديرية الشمالية، كيف أن تجار من تلك القرية قد خصصوا مبلغاً شهرياً لأحد الرجال، لكي يبقى بالقرية، لعمل الإجراءات الخاصة بتجهيز وغسيل الموتى من الرجال، إذ أن النساء يقومون بتشييع ودفن الموتى!.
منْ الضحية ومن الفاعل الحقيقي في أزمة السودان الطاحنة؟
كل التقسيمات السكنية التي تمت في العاصمة بامتداداتها العشوائية، غير قابلة لعمل بنية تحتية متحضرة، لأن الأسس والجدوى الاقتصادية غير متوفرة. فلا يعقل عمل شبكة صرف صحي لمساكن ذات طابق واحد، تمتد أميالاً. لقد أسهمت الدولة في تقنين هذا التكوين المتضخم. أما البنية التحتية لمياه الشرب والكهرباء وصرف مياه الأمطار ونقل النفايات، فهي كوارث ليس لها أول ولا آخر.