مُداخلة حول؛إشكالية العلاقة بين الجاليات والسفارات

 


 

 


mahdica2001@yahoo.com
بتاريخ 12 أبريل 2011 ، نشرت صحيفة سودانايل مقالاً بعنوان "الرقص فوق جماجم الفقراء: عجائب الجاليات والسفارات السودانية" للدكتور/ عبد الله محمد قسم السيد- جاء فيه، "الدمار الذي ألحقه نظام الإنقاذ لم يقتصر على من هُم بالسودان ولكنه شمل من هُم بالخارج أيضاً، وطبعهم باللامُبالاة وعدم الإكتراث والنظرة الفردية في المنفى.. فكما عملت قيادات السودان على تمزيق السودان وفق مصالحها الذاتية والحزبية، كان حال حُكامنا الصغار في السفارات.. فقد سمعنا كيف درجت سفاراتنا على القيام بما تسميه إحتفالات الجاليات وتصرف عليها ما تشاء وما تريد، لتفرح الجاليات خلال هذه الإحتفالات بلا فرح؟؟ ألم يكن أجدى وأنفع أن تُصرف تلك الأموال على دافع الضرائب المهزوم والمقهور؟!".
ثُم أتحفنا الدكتور/ حامد بُشرى– المُقيم بكندا، بمُداخلة مُستفيضة في ذات المنبر بتاريخ 24/04/2011 وبعنوان "مهام الجاليات السودانية بالخارج" إستعرض فيها نشأة الجاليات وختمها بالقول "حالياً؛ سفارات النظام بدلاً من أن تصُب جهدها وتتفرغ لتحسين وجه السودان خارجياً، نجدها تُمارس بعض الأعمال الصبيانية وتحاول التغلغل بكُل السُبل لإبعاد أنشطة الجاليات من مهامها القومية أو إضعافها، وتصرُف في ذلك صرف من لا يخشى الفقر من أموال دافع الضرائب بتعيين عناصر أمنية كجُزء من البعثات الدبلوماسية) ثُم أضاف..نُريد أن نرسل رسالة واضحة للبعثات الدبلوماسية؛ وهي أن دساتير الجاليات لا تسمح بقبولهم كأعضاء، إضافةً إلى أن هذه الجاليات هي المولود الشرعي للشعب السوداني الذي أُجبر على ترك الوطن، ولن نسمح بالمساس بها ولا يجوز لأي جهة أن تتدخل في تصريف شئون الجاليات".
وعقب السيد/ عبد الله شريف – المُقيم في فيينا/أوروبا- بمقال تناول فيه على طريقة محن/ شوقي بدري، إشكالية العلاقات المتوترة بين الجاليات والسفارات السودانية في أرجاء الدُنيا الأربعة، جاء فيه "لقد كُنا وما زلنا نؤمن بأن السفارات هي ملك لشعب السودان، ومهمتها هي خدمة المواطنين السودانيين دون تمييز، ولكن هُنالك من يتخذ من السفارات مصدر سُلطة وثروة، ناسياً أو مُتناسياً أنه يتبحبح بأموال دافع الضرائب السوداني؛. ومع ذلك لا أجد نفسي في صف أولئك الداعين لمُقاطعة السفارات، ولكن وبالتأكيد لابُد من الحذر وترسيم الحدود والخطوط الحمراء!! وعلينا أن نُراقبهم جيداً ونتتبعهم خطوة خطوة، وزنقة زنقة".
يبدو لي وإستناداً على خبرة طويلة في الإغتراب وشئون الجاليات والسفارات، أن هُنالك خلطاً وتشويشاً في توصيف وتعريف الإشكالية، ولإزالة سوء الفهم وتصحيح الإنطباعات الخاطئة ووضع الأمور في نصابها الصحيح، لابُد من الإنطلاق من الآتي: -
-    تصحيح الإنطباع الخاطئ بأن الأزمة هي بين السفارات والجاليات، فالمُشكلة في حقيقتها أزمة بين الجاليات وبعض عناصر الأمن المُلحقة بالسفارات. والدليل على ذلك أن السفارات التي يقود دفة إدارتها دبلوماسيون محترفون، (Career & not CAROR diplomats) لاتوجد بها مُشكلة كهذي. وقد دلت تجربتنا في جنوب إفريقيا على أن الأمنيين والعقائديين المُنتسبين للسفارات والمبعوثين تحت مُسميات مُختلفة، هُم الذين يتسببون في خلق المشاكل والجفوة وتخريب العلاقة، وعلى عكسهم فإن السُفراء المحترفين دائماً ما يسعون إلى مُعالجة هذا الخلل. وبهذه المناسبة وتأسياً بشيم الكرام الذين يردون الفضل لأهله، نذكُر بالخير السفير/ عبد الرحمن مُختار (وزوجته/أسماء)، لدوره في رتق العلاقات الإجتماعية في بريتوريا (التي أفسدها من سبقه) وإرسائه (بمُساعدة ودعم من الجالية المُتميزة آنذاك) لسُنن حميدة سار على نهجها كافة السُفراء الذين أتوا من بعده، فلهم جميعاً التقدير والعرفان.
-    من المعلوم والمفهوم أن لكُل دولة جهازاً للأمن القومي، تُنتقى لقيادته والعمل به أفضل العقول والخبرات (هنري كيسنجر/أمريكا، ومحمد حسنين هيكل/مصر، وفلاديمير بوتين/روسيا،،، إلخ)، ولكن فساد النُظُم الديكتاتورية وسعيها للبقاء السُرمدي في سدة الحُكم، يقودها إلى تحويل مفهوم الأمن القومي ليُصبح أمن النظام والحزب الحاكم (وليس أمن الوطن والمواطن)، وفي ظل الخلط القائم (والضار) بين الدولة والحزب الحاكم، وبين الحزب وجهاز الأمن؛ يتصرف أعضاء المؤتمر الوطني وكأنهم مسئولين في جهاز الأمن والعكس صحيح، وقد عبر بوضوح عن هذه المسألة الباحث الإسلامي د. عبد الوهاب الأفندي في مقاله بصحيفة سودانايل بتاريخ 06/مايو/2011، حيث قال "لعل أبلغ مايُجسد عُمق الأزمة التي يواجهها حزب المؤتمر الوطني الحاكم (إسماً) في السودان، هو أن الصراع الذي تفجر علناً في الأيام القليلة الماضية (بين نافع وقوش) يؤكد ما أوردناه مراراً، بأن أزمة النظام حالياً تتمثل في تغول أجهزة المُخابرات فيه على مجال السياسة وعمل الدولة.. فضعف المؤسسات السياسية وغيابها جعل الأجهزة الأمنية تتمدد لتتولى أدوراً سياسية – بما في ذلك الحوار مع الأحزاب الأُخرى والتحرك الدبلوماسي- بل إنها تحولت للعب أدوار عسكرية وحتى عدلية، إضافةً إلى أدوار إقتصادية (ودبلوماسية) في الداخل والخارج".
-    لا تبرُز مثل هذه الإشكالية في العلاقة بين الجاليات والسفارات إلا في عهود الديكتاتوريات الشمولية، وقد بدأت بعهد النميري البائد ثُم استفحلت في عهد الإنقاذ اللعنة، وزادت إستفحالاً بتكاثر أعداد عناصر الأمن بالسفارات وخارجها (تحت غطاء المُلحقيات العديدة وبعض المبعوثين) وتدخلهم في شئون الجاليات وأحياناً شئون السفارات ذاتها، مما خلق صراعاً ليس بينهم وبين الجاليات فقط، وإنما تحول الأمر أحياناً إلى صراع بين الدبلوماسيين المُحترفين والمسئولين الأمنيين- الذين غالباً ما يكونوا مدعومين بقيادة مؤدلجة، يرتبط ولائهم لها بروابط عصبية،  قبلية أو جهوية أو عقائدية.
-    إنتهاج جهاز الأمن بالسودان في تعامله مع المُغتربين لإستراتيجية تقوم على السعي للسيطرة على الجاليات، عبر تسليم قيادة لجانها لعناصر الأمن والمؤتمر الوطني والمُتعاطفين معه، ومن ثم توجيهها لخدمة مصالح الحزب، أو تحييدها وإبعادها عن القضايا الوطنية العامة والثقافية بحُجة عدم الإنغماس في المسائل السياسية. وفي حالة الفشل في ذلك يعمدون إلى تأجيج نيران الخلافات لشق الجاليات، كما فعلوا مع كافة قوى المُعارضة، يُساعدهم في ذلك توفر الإمكانيات المادية والوقت (التفرغ التام) وضعف الوازع الأخلاقي، وتسخير مؤسسات الدولة لدعمهم وإنجاح أنشطتهم الإنصرافية، وما البرامج التلفزيونية (كمراسي الشوق) والبعثات الفنية (وحفلات السماية وخروج النُفساء من الأربعين) إلا غيض من فيض.
-    غفلة لجان الجاليات وعدم حذرهم عند التعامل مع العناصر الأمنية بالسفارات (وبشجاعة، نتحمل نصيبنا من اللوم ونعتذر للجميع)، فإلتزاماً بعاداتنا السودانية السمحة التي تتسم بالطيبة والمُجاملة والحياء، ولأن الغُربة حارة (لدرجة أن الجعلي عندما يلتقي بالشايقي يسلم عليه بالأحضان!!) فقد صدقناهم واحتضناهم في جالياتنا لدرجة أن سمحنا لهم بأن يكونوا أعضاء كاملي العضوية (تصويتاً وترشيحاً وترشحاً) فردوا لنا الجميل تآمراً خبيثاً، ولم يراعوا إلاً ولا ذمة، لكن العترة بتصلح المشي ولذا لا بُد من إعادة النظر في دساتير الجاليات وسد الثغرات التي ينفذ منها ذوي الأجندة الخاصة. ولا تقتصر الغفلة على لجان الجاليات فقط وإنما تمتد لتشمل بعض الذين يُقدمون أجندتهم الخاصة على المصلحة العامة، وأولئك الذين يمسكون العصا من المنتصف خوفاً على صورتهم أمام الآخرين، والقلة من عديمي الرأي والتابعين لغيرهم بغير إحسان.
-    الخلط بين المسائل الشخصية والآراء العامة (سواءً كانت آراء سياسية أو فكرية أو غيرها)؛ ومثالاً على ذلك فإن العديد من الناس يعتقدون أن إنتقادك لسياسات جهاز الأمن إنما يعني إنتقادك لأفراده وشخوصهم، فيسيئون تفسير مواقفك (ويُشخصنونها)، كمطالبتك مثلاً بأن تقتصر عضوية أفراد البعثات الدبلوماسية بالجاليات على الناحية الشرفية فقط، وبحيث يحق لهم المُشاركة في النشاطات الإجتماعية والرياضية،،، إلخ، ولكن دون التمتع بالحقوق الدستورية كالترشيح والإنتخاب وتقرير شئون الآخرين (أي أفراد الجالية المُقيمين إقامة دائمة)، لأن أفراد البعثات والمبعوثين إنما ضيوف عابرين، لا ينبغي لهم التدخل في ما لايعنيهم. أما إذا إنتقدت وتساءلت عن جدوى تزايد عدد أفراد البعثات الدبلوماسية، وتضخم أرقام المبعوثين الأمنيين وإرتفاع رُتبهم ودرجاتهم الوظيفية (بطريقة لا تتناسب مع ظروف البلاد الإقتصادية) لأخرجوك من الملة وحكموا عليك بالزندقة، حتى ولو كانت علاقتك الشخصية بهؤلاء سمن على عسل وتشهد لهم بحُسن الخُلق ودماثة المعشر على المستوى الشخصي. إن ننتقد السياسة العامة التي  أدت إلى إستحواذ الأجهزة الأمنية على 70% من الميزانية العامة، بينما لا يُصرف على الصحة والتعليم سوى أقل من 5%!!!، ولكن لن يستقيم الظل والعود أعوج، ولن ينصلح الحال طالما يتولى زمام الدبلوماسية السودانية، أطباء الأسنان وتجار الاسمنت وقادة المليشيات المُسلحة.
-    أخيراً: قد يتساءل مُتسائل (ومعه ألف حق)، ماذا يستفيد المؤتمر الوطني من السيطرة على جاليات لا تحل ولا تربط؟؟ ولماذا يصرف مبالغ باهظة وجُهداً كبيراً من أجل نفر ضعيف التأثير في الشأن العام؟؟. والإجابة تجدونها ببساطة في مقال المُستشار القانوني/ البُشرى عبد الحميد، المنشور بصحيفة سودانايل بتاريخ 08 مايو 2011، بعنوان "المهجر والوطن: قانون الإنتخابات وظُلم المهجريين في ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية" والذي ورد فيه "إن حق المُشاركة في الإنتخابات من الحقوق السياسية التي أقرتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، مُمثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، والتي صادقت عليها جميعاً حكومة السودان، وقد تم تضمينها في وثيقة الحقوق في الدستور الإنتقالي لسنة 2005، ومن الناحية التاريخية شارك المهجريون في الإنتخابات التشريعية من خلال دوائر الخريجين في الأعوام 1958 و1965، و1986".
وقد نصت المادة (7) من الدستور الإنتقالي لسنة 2005، على أن المواطنة أساس الحقوق والواجبات، وبالتالي يحق لأي مواطن يحمل الجنسية السودانية أو المزدوجة الحق في ممارسة حقوقه الدستورية (بما فيها المُشاركة الكاملة في الإنتخابات)، كما نصت المادة (41) (1) من ذات الدستور أن لكُل مواطن الحق في المُشاركة في الشئون العامة من خلال التصويت حسبما يُحده القانون، ولكن وبالرغم من كُل هذه النصوص الدستورية القطعية، إلا أن أبالسة الإنقاذ إستطاعوا الإلتفاف والتحايل عليها وأصدروا قانون الإنتخابات لسنة 2008، مُقيداً لحق المُغتربين في المُشاركة في الإنتخابات لتكون على مستوى رئاسة الجمهورية فقط دون غيرها من المستويات؛ ومرروا المادة (22) (3) التي اشترطت أن يكون جواز السفر والإقامة سارية المفعول في الدولة التي يُقيم فيها المواطن السوداني، مما حرم ملايين اللاجئين والمهاجرين من مُمارسة حقوقهم الدستورية، ومع ذلك لم يرتفع صوت جالية واحدة مُحتجاً أو مُسانداً للدعوى القضائية والطعن الدستوري بعدم دستورية المادة (22) من قانون الإنتخابات، وما إنتهى إليه حكم المحكمة الدستورية في قضية البشرى عبد الحميد وآخرين ضد حكومة السودان.
ختاماً: لا أحد يعلم العدد الفعلي للمُهاجرين السودانيين بما في ذلك منظمة الهجرة الدولية وجهاز المغتربين السودانيين الذي تم إنشاؤه منذ أكثر من ثلاثين عاماً!!!! ولكن التقديرات تُشير إلى أن الذين يحق لهم الإنتخاب يتجاوزون الستة ملايين؛ شارك منهم حوالي 100 ألف مواطن في الإنتخابات العامة الأخيرة (أي بنسبة 1.6% فقط من العدد الكُلي)؛ وصوت منهم 60.000 لصالح البشير (أي بنسبة 1% فقط من الإجمالي) ومع ذلك يكذب أبواق الإنقاذ ويدلسون فيقولون إن المُغتربين يؤيدون الرئيس/ البشير وحكومته!!- عجبي.
أرجو ان تكونوا قد أدركتم الآن لماذا تحرص الحكومة وجهاز أمنها على السيطرة على الجاليات؛ وعليه، فإن كُل من يضع يده في يد المؤتمر الوطني ويُساعد مُنتسبيه في مُخططاتهم إنما يُساند ويدعم جهاز الأمن، ويسهم في إطالة أمد مُعاناة شعبنا.

 

آراء