مُدْخَلاتُ التَّهَيُّؤِ، فَاسْتِجَابَاتُ الرَّحِيْلِ (29)

 


 

 

 

" ... الشَّمْسُ تَسبحُ في نَقاءِ حضُورِها، وعلى غُصُونِ القَلْبِ عَائِلةُ الطُّيورِ، ولَـمْعَةٌ سِحْرِيَّةٌ في الرِّيْحِ، والأشياءُ تُبْحِرُ في قداسَتِها الحَمِيْمة ..."

(العَوْدةُ إلى سِنَّار"النَّشيدُ الخامس: الصُّبْحُ " : د. محمد عبد الحي).
ثنائية المدينة والجامعة التي سكنتْ مخيلتَكَ الرِّيفية البكر، هي الثنائية الأخرى بعينها والتي ربطتْ بين بَلْدتِكَ الحبيبة، والإذاعة السودانية (هنا امدرمان)، بجامع الدفء الإنساني الذي قد لَفَّكَ مُنسرباً فيك تدفُّقاً نحو كروموسومات دواخلكَ وذاكرتكَ قارَّاً في جيناتهما، شاهداً على تفاعلاتِ أحماضهما النَّوويَّة.
والآنَ، وأنتَ في البعيد، ظلتْ تُلِحُّ عليكَ في شَغبٍ سَخِيٍّ لطيف، بلدتُكِ الحبيبة وإذاعتُكَ الآسرتان الحفيتان الحميمتان، وهما تماسكانكَ صلداً صلباً تُعافرُ غُربةً في عُتوِّها المُستَطال، وعائلةُ الطُّيور المُترعة تغريداً تبعث فيكَ غناء الحياةِ في تفاصيلها الحلوة، ومعانيها الوريفة الدافئة الحميمة والهميمة في طربها الطاعم الذي يشفي ظمأ الروح وجوعها. تلكم الطيور الراسيات على غصون قلبكَ النَّضرة، وهي تستقبل نقاء حضور الشمس السابحة في فضاءكَ أيها المفتون "عشقاً" بالمكان وأهله في كليهما (البلدة والإذاعة). فالذي يجمع المكان والإنسان هو تلكم العلاقات المتداخلة في تشابكها العميق الآسر والمؤثر، حيث إن المكان الجغرافي بمعماره الهندسي المميز له، لا يستمدُّ هويتَهُ وألفتَهُ وجماليتَهُ من تضاريسه وتكويناته الجغرافية فحسب، إنما من ساكنيه ومعمِّريه من بني البشر بإرثهم الثقافي الجامع.
وهنا يتلبَّسكَ الحنين، حيث يقول العالم والفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار في دراسة له عن جماليات المكان: " إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً ذا أبعادٍ هندسية فقط، فهو مكان قد عاش فيه بشرٌ ليس بشكل موضوعيٍّ فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيُّزٍ ... والمكان الذي نحبه يرفض أن يبقى منغلقاً بشكلٍ دائم ... إنه يتوزَّعُ ويبدو وكأنَّه يتجهُ إلى مختَلِفِ الأمكنةِ دون صعوبةٍ، ويتحرَّكُ نحوَ أزْمِنَةٍ أُخرى، وعلى مستويات الحُلْمِ والذّاكرةِ ...". وهكذا ينفتح مكاناك المحبَّبان إلى نفسكَ، متوزعين "بسهولة ويسر" على فرقان، وقرى، وبلدات، ومدن، وأراضي رحيْلِكَ المتطاول في مسيره الزَّمني يتحرك نحو أزمنةٍ أخرى تظل فيها الذاكرة متقدةً، ويبقى الحُلم مُتلبساً صحوكَ ويقظتكَ.
من خلال دراسته لعلمي الفيزياء والكيمياء قدم باشلار مصطلح العائق الإبستمولوجي (المعرفي) Epistemological obstacle، والذي هو مجموع الأفكار والتصورات المسبقة أو الخاطئة التي تؤثر في عمل العَالِم دون وعيٍ منه، وتعوقه عن بلوغ الحقيقة الموضوعية للظواهر التي يدرُسُها، وهذه العوائق ليست خارجية، إنما نفسية، ويؤدي التجرد من هذه العوائق النفسية إلى تحلِّي العالم بالروح العلمية والتي من أهم سماتها ومميزاتها التَّواضع، والتَّسامح، وحب الحقيقة، والشَّجاعة الفكريَّة والأخلاقيَّة.كما وضع مصطلح القطيعة الإبستمولوجية (المعرفية) Epistemological Break. وهي عبارة عن قفزات نوعية تحدث في تاريخ العلوم، مُحدثةً قطيعةً إبستمولوجية (معرفية) عند نشأة علم جديد أو نظرية علمية جديدة تقطع الصلة مع ما سبقه من معارف وعلوم. وهي هنا قطيعة خاصة بالعلوم والمعارف فقط، وهي قطيعة كاملة بين المعرفة العلمية والمعرفة الشعرية. فقد اهتم باشلار بالأدب والشعر خاصة، جامعاً بين العالم والفيلسوف والأديب، حيث يقول: " ... عندما يدخل العالم المختبرَ، ينبغي أن ينسى الآراء كلها التي تلقاها من بيئته أو مجتمعه أو محيطه. وأن العالم الذي نعيش فيه ليس هو العالم الذي نفكر فيه. والفرق بين العلم والشعر هو الفرق بين المصطلح الدقيق، والصورة الخيالية والمجازات، وبالتالي لا رابط بينهما ". ونحمد الله أنَّكَ لن تُصاب بقطيعة "عاطفية" في علاقتِكَ "الوددكو-إذاعيَّة" بلَـمْعَةِ ريْحِها السِّحْرِيَّةِ، والأشياءُ تُبْحِرُ في قداسَتِها الحَمِيْمة .
ونواصل


dokahassan@yahoo.com

 

آراء