مِحْنَة شعب: ما بين جوبا وأبا!

 


 

 

 

 

في محاولة لتوصيف الراهن السوداني، وجدت نفسي مضطراً للبحث وراء الستار السياسي، فالمشكلة لم تعد مشكلة سياسية فقط، إنما هي ايضاً مشكلة إنتولوجية تتجلي في إهمال الحكومة الحالية لبعديّ الوجود، الزمان والمكان:

مكانياً، تنحسر إهتمامات هذه الحكومة في الخرطوم، وهي بعد لم تطور إستراتيجية للتواصل مع السودانيين في بقاع السودان المختلفة. وقد يذهب أعضائها لزيارة بعض الأقليم حال وجود توتر سياسي، أمني أو إداري.

زمانياً، الحكومة تنظر إلي الوراء وتسعي لإكتساب شرعيتها السياسية من إبداء كرهها للكيزان وإظهار حرصها علي إستئصالهم، فهي إذن منشغلة بالماضي ومهملة مهمة إستحداث رؤي تخاطب المستقبل، وتطوير إستراتيجية تعمد إلي ادماج الشباب في خطوات التخطيط الإجتماعي، الإقتصادي، البيئي والمؤسسي.

تعريف الكيزان هم الإنقاذيين المفسدين بيد أن اليسار إستهدف الإسلاميين في محاولته لتصفيف وإضاعة للوقت. تُحْجَر أملاك رجاء خليفة، فيما يطلق سراح مأمون حميدة. الأولى إسلامية تعاملت مع الإنقاذ من منطلقاتها الفكرية، والأخر كوز تعامل مع البشير وعصبته من منطلق مصالحه الشخصية. بهذا المنطق سيتم إعفاء كل النفعيين – والذين أتوا من كل حدب ينهلون من معين الإنقاذ الموبوء – وسيعمد اليساريون على تتبع العقائديين لتصفية حساباتهم الشخصية. ليس لدينا مشكلة مع الإسلاميين الشرفاء الوطنيين الملتزمين بالخيار الوطني الديمقراطي، مشكلتنا مع الإنتهازيين والمنافقين.

لقد أرهق التدافع غير السوي بين الإسلاميين والشيوعيين السودان وأهله، فلا يمكن لبلد أن ينتقل من أقصى اليسار (1970) إلى أقصى اليمين (1990) في أقل من ثلاث عقود دون أن يكون لهذا التأرجح على أثر سلبي على مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية. ولينظر أهل السودان في شكل الإصلاح الذي يلزم مؤسساتهم كي يزدهر الوسط الأيديولوجي والجغراسي فيقطع الطريق على الطامحين غير المؤهلين من ذات اليمين ومن ذات اليسار.

إهمال هذين البعدين (الزماني والمكاني) يجعل الحكومة في حالة الغياب أو اللاوجود. ممّا يجعلها عاجزة تماماً عن تطوير إستراتيجية أمنية كانت، سياسية أو إقتصادية، وغير قادرة علي إستصدار موجهات إدارية صارمة. عليه فالمشهد السياسي يتسم بالأتي:
1. نشهد تغذية للأجندة الذاتية علي حساب المصلحة الوطنية. فوزراء حزب الأمة يسكنون عضويتهم في الوظائف الحكومية دوني أدني إعتبار للمعايير الوظيفية، بل منتهي الإستهتار بالضوابط الإدارية. تنسحب التهمة علي الشيوعيين، البعثيين والخرطوميين (صينية أوزون) ونواحيها. علماً بأن الشباب عندما هتف بالمدنية، لم يكن يعني إعلان الضدية للعسكر، إنما كان يعني إزدهار القيمة الحضارية المتمثلة في الشفافية، المحاسبية، والتبادلية.

2. نشهد تهافتاً من قبل الحكومة علي المنصات الإقليمية والدولية دونما أدني محاولة لتحديد الأولويات الوطنية. إن التواصل مع المجتمع الدولي أمر حيوي وضروري، لكنه لا يكون مجدياً، بل قد يكون مضراً، إذا أصبحت الدولة مجرد متلقي لقائمة من المهام واجب إتباعها.

3. نشهد إستقطاباً حاداً بين قطبي السلطة، العسكريين والمدنيين، ومحاولة كل مجموعة لإستمالة أعضاء من المجموعة الأخري، عوضِ عن الإحتكام للوثيقة الدستورية بإعتبارها المرجعية الثورية علي مافيها من علل.

أدرجت هذه النقاط الثلاث ليقيني أن قياس التقدم المحرز نحو أهداف الثورة التي أعلنها الشباب (حرية، سلام وعدالة) يجب أن ينطلق من واقع تقييمنا للموقف الحالي: أين نحن ونحو أي جهة نود أن ننطلق؟

الحرية التي نمارسها اليوم هي حرية سلبية يمارسها بعض "الثورجية" لتقويض الجهود الرامية لخلق سودان جديد خالي من أمراض العصبية والعنصرية، ومتحرر نسبياً من محددات الفكر الإستعماري الذي إعتمد الإقتصاد الريفي وسيلة لإستتباع الريف السوداني. وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تخشى من ضياع نفوذها في ظل نظام تعددي ديمقراطي ينال فيه المر قيمته قدر إسهامه، ويحتل خانته وفق موافقة ورضا الأغلبية.

الحرية الإيجابية التي كان يمكن أن يمارسها الشباب، وحريُّ بهم أن يفعلوا ذلك ملتزمين بالفكر الديمقراطي الحر، غائبة تماماً وذلك لعدم توفر القنوات المناسبة لتوجيه هذه الطاقة المعنوية الهائلة. توقعت أن يُكَوَّن برلماناً من شباب الثورة، إذا تعذر تكوين الجهاز التشريعي في وقته، وأن تُعقد مؤتمرات تساعدهم علي بلورة أفكارهم، تأطيرها، وتطويرهم كي تقدم كمسودة للأجهزة التخطيطية. فإذا بي أفاجأ بأن الشباب قد أُستبعد حسياً بإقصاء النابهين منهم والشجعان الذين تصدوا لقيادة الثورة في وقت كانت فيه قيادات العمل السياسي الحالي تعد لتنفيذ خطة الهبوط الناعنم التي إعتمدت الرئيس مرشحاً لإنتخابات (2020)، كما إُستبعد الشباب معنوياً إذ رُكِلَت أجندته علي جنب.

لا غرو، أن الشباب قد طفق يبحث عن البديل، وهو بعد مازال عازماً علي تحقيق ثورته وبالسبل المدنية ذاتها.

أما بخصوص السلام، فالحكومة حسب تقدير د. محمد جلال هاشم، جاهلة وغير راغبة في تحقيق السلام (ندوة أقامها مركز Justice Africa). جهلها تبدي في عدم معرفتها بأسس التفاوض إذ أصرت علي إلزام الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بمسمياتها وأصرت علي عدم إيراد كلمة علمانية، وتحفظت علي عدم ذكر مصطلح "تقرير المصير"، علماً بأن أطراف التفاوض قد تجاوزت مرحلة ترتيب الملفات (الملف السياسي، فالانساني ثم الأمني)، ولم تعد بعد في مرحلة "أعلان المبادئ" الذي يعطي كل طرف حق تسمية بند التفاوض الخاص به، وتحديد الموجه الذي سيحكم التفاوض حول هذا البند. الأمر الذي الجأ الحركة الشعبية لموقف تفاوضي صارم وحدد آلية لا يمكن الحياد عنها: العلمانية مقابل تقرير المصير.

وأنا أستغرب، هل من حرص الحكومة – شقها العسكري خاصة – علي الاسلام أنها لاتريد أن ترجع إلي دستور 1974م، أم أنها تريد أن ترث الحاضنة الإجتماعية للإنقاذ وذلك بإستخدامها العاطفة الدينية وإعادة توظيفها لمشروع سياسي نهبوي (من نهب) جديد؟ أعتقد الأخيرة. وها هو حمدوك يشرعن لهم سرقتهم ونهبهم للبلاد تحت غطاءٍ "فاخر" و"مديد". أي هوان هذا وأي إنبطاح؟ لم يتغول الطاقم السيادي على سلطات الجاهز التنفيذي، بل أسند حمدوك رئاسة "الألية العليا لإدارة الأزمة الإقتصادية السودانية" طواعية لأحد أعضاء المجلس السيادي؟ كيف يحدث هذا في بلد فيه من فيه من العلماء الأجلاء ونخبة الخبراء؟ بل كيف يحدث هذا في ظل ثورة ضحى أبناؤها وبناتها بحياتهم في سبيل مجتمع علمي وديمقراطي؟

لا أعتقد أنه يلزمنا التدليل بعد هذا على خيانة (قحط)، خناعتها، غدرها وجبنها، بعد أن استبانت بلادتها وعدم كفائتها الأخلاقية والفكرية. وما حمدوك وشلته إلا تجسيد لهذه السمات السالبة. لعل صراحتي هذه تزعج النخب المكابرة كافة، إذ تضعهم في مواجهة مع أنفسهم التي اعتادت الخور، التلكؤ المعنوي، الإرتداد النفسي والكسل الجسدي والذهني. أعجب من متعلمين ومثقفين يدغدغون مشاعرهم بغنائيات أيمن ماو، يكتفون بتلقف القوالات عبر الواتسب، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الإطلاع على كتاب عن الشأن السوداني (سد النهضة، دارفور، حقوق المرأة، الدستور، التعليم، الى أخره).

هذه هي قمة عدم المسؤولية واللامبالاة التي جعلتنا تحت رحمة الغوغاء. تعريف الداء هو أول موطن الدواء، أو كما يقول الزملاء الأطباء. نحن أمة غير مسؤولة والأمم غير المسؤولة تتحمل تبعة إتباعها للعاطفة واتخاذها لقرارت غير مبنية وغير مستندة على أسس موضوعية. اولاها وأخراها: عبارة شكراً حمدوك!

وأضح أن للحركة الشعبية طاقم محترم ومستوعب لدينامية الحراك السياسي ومالآت الاستمرار في إحتكار جهة بعينها لإمكانية التلاعب برأس المال الرمزي. فلم تشب الحروب ولم تبرر الإبادة لشعوب الهامش إلاَّ بهذه الحيل التي تعطي فئة دون غيرها حق التوظيف لمقومات الثقافة وإعادة ترتيبها بغرض خلق هرمية إجتماعية تعطي أحقية سياسية للألهة وأبنائها. لا غرو، أننا سمعنا نعيقاً لأحدهم من الجزيرة أبا، يندد فيه أحدهم بالعلمانية ويرفض مطلب تقرير المصير. علماً بأن عدم الإقرار بتعدد المرجعيات الثقافية، بل وتساويها في الأحقية، في حال إدراجها في دورة تصميم السياسات، يحيل الفئات المستضعفة إلي مواطنين من الدرجة الثانية.

بمثل هذه الدعاوى ضاعت معالم الحنيفية وتهددت أركان الوطن. يتباكى هذا الدَّعِي على الأنصارية ويحذر من الإنقضاض على الشريعة الإسلامية وهو لم يبن للأنصار مزيرة ولم يشد مئزرة للحق طيلة حياته (صدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "خير الناس من إذا طال عمره حسن عمله، وشر الناس من إذا طال عمره ساء عمله")، ويرثي الوطن وهو ما زال يستنفزفه ويتواطأ مع أخرين – محليين وإقليمين– على سرقة موارده. يبدو أن وزر الأنقاذ لم يكن السرقة، إنما عدم مشاركتها الكافية للسُراق!

لا أشك مطلقاً في أن مهندس المهزلة الأخيرة والتي سميت "بالألية العليا لإدارة الأزمة الإقتصادية السودانية" هو السيد الصادق المهدي. فما فتأ يبحث عن حيلة يسترضي بها حميدتي ويستعطف بها "كفيله" حتى وجدها. أولاً، عندما استخدم نفوذه الطائفي وأبرم صفقة "الفاخر" بين وزير المالية إبراهيم البدوي و"السادة الجوكية" في دار حزب الأمة. ثانياً، عندما أوهم الحكومة بأن العسكر يمكن أن يكونوا بمثابة طوق نجاة في مثل هذه الظروف الحرجة، فكان أن تم تكوين لجنة من السياسيين ليس من بينهم اقتصادي وتكنوقراط محترف غير الدكتور ابراهيم البدوي، واسند الأمر كعادته إلى غير أهله وصُرِّف إلى غير وجهته.

ولنا في شأن "الألية العليا" قصة طالما حكاها لي أحد ظرفاء مدينة أم درمان وتداولها الكثيرون في بقاع السودان المختلفة بصيغ عديدة.

يُحكى أن شاويشاً وتمرجياً كانا يتنافسا في إحدى أقسام السلاح الطبى على طلب ود التجار الجلابة والذين كثيراً ما كانوا يأتون عجلين لإستخراج أوراق الحمى قبل سفرهم إلى خارج البلاد. في ذات يوم جاء تاجر ماكن وجيبه كبير. ما إن جلس على الكرسي حتى انفرجت أسارير الشاويش، لكنه احتار في شأن المعاملة التي كاد أن يضمن بها "حق القعدة" لولا أن التمرجي استغفله إذ سرعان ما طلب من الجلابي الدخول إلي الغرفة الداخلية لأخذ الإبرة.

على قصر المسافة بين الاستقبال والغرفة الداخلية، كان التمرجي قد أبلغ الجلابي بالضائقة المعيشية، كما وعده بأن الإبرة ستكون باردة ولن يحس بها. والوقت على ندرته لم يجد الشاويش بداً من الدخول إلى الغرفة. فكان أن رأى التمرجي متلهفاً، وإذا شئت متردداً، فانتهره قائلاً: لماذا كل هذا التأخير؟ انقذت التمرجي بداهته فقال للشاويش وهو يناظر التاجر رافعاً كِم جلبابه والجزلان (أي المحفظة) قد تدلى نصفه من جيب الجلابي، بل كاد أن يهوى كله: يا سعادتك، اديهو الحقنة وين؟ رد عليه الشاويش ساخراً ومغاضباً: أديها ليهو في جزلانه!

لا يحتاج الإقتصاد السوداني إلى حقنة في الجزلان، بل يحتاج إلى حقنة في الشريان يغذي بها وريده وينعش بها مريضه.

حريّ كان برجل في سن "الأمام" وخبرته أن ينصح الدكتور إبراهيم البدوي بالنأي عن الشبهات استبراءً لعرضه وصيانة لوطنه من الدنس، لكنه الغرور والتشوف لكل مأمول. كما كان محريّ فيه ان يحث حمدوك وحكومته الاستمساك بمبدأ المدنية التي تتطلب الشفافية والمحاسبية والسعي لفك كافة ارتباطات المؤسسات العسكرية والأمنية بالعمل الاستثماري التجاري، ورد كل الأصول لوزارة المالية. في حال تمنع العسكر، يلزم الإحتكام للشعب وتمليكه الحقائق عوض عن الإستمرار في تقديم التنازلات بحجة حماية البلاد من الإنزلاق نحو الفوضى. فاستمرار الحكومة في هذا المنوال فيه انتقاص لكرامة الشعب وتنكب على مبادئ ثورته، وما يحدث الأن يعتبر خيانة بكل المعايير المهنية والأخلاقية. الأخطر، إنه لن يحل الإشكال الإقتصادي وستزدار الأمور سوءاً يوم بعد يوم حتى تقع الفوضى الحقيقية وتحدث الحرب الأهلية لا سمح الله.

سعت القيادات الأولي من الريف السوداني أمثال أحمد إبراهيم دريج ويوسف كوة والبابا فيليب غبوش تصحيح هذا الوضع من خلال المطالبات السياسية وتقديم المرافعات الأخلاقية، لكن كل ذلك لم يجد مما ألجأ القيادات التي ورثت هذا الأرث السياسي التليد الي المدافعة السياسة والعسكرية. عوض عن توظيف المال لتقويم الأوضاع المعوجة، انتهزت النخب المركزية هذه فرصة لتدمير الريف السوداني تدميراً شاملاً. ولسان حالها يقول: أهون علينا تدميركم علي إنصافكم – ما قد يزحزنا عن افضليتنا ويحرمنا من تميزنا الموروث غير المستحق!

نتيجة هذا الصلف أننا فقدنا الجنوب، وإذا لم نحذر فنحن في طريقنا لفقدان جبال النوبة ودارفور. ولعل ذلك ماتريده أو تفضله النخب المركزية التي تنتظر هذه السانحة للإلتحاق بمصر بعد أن تكون قد تخلصت من الريف الغربي كعبء معنوي ثقيل.

وإذا رفضنا هذه الفرضية، فما وسيلة العسكر لردع "الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع شمال" وقد أعيتهم حيل الخداع، وإستحالة عليهم فرص الإستقطاب أو الإختراق. نجحت هذه الحيل مع بعض الجبهات التي إستحدثت لها مسارات في مسعي لخلق نفوذ مواز للنفوذ الطائفي او رافد من راوفدها،مثلما كان يفعل بعض المزارعين الذين يفدون لمشروع الجزيرة فيشتقون أبو ستة من ابو عشرين وهم لايدرون بيباس الترعة الرئيسة قبل الفرعية.

معلوم أن العسكر يستمدون شرعيتهم من الحرب ولكن هل تراهم يجترئون علي منازلة الحركة الشعبية وهي تفرض سيطرتها علي 1400 كلم من جملة 2400 كلم هي جملة حدود السودان مع جنوبه.

بعد أن المحنا لبعض الاشارات في شأني الحربة والسلام، فإنه يلزمنا أن نتحدث عن موضوع العدالة:

بإنتهاجها أساليب الخداع فإن الحكومة متمثلة في المجلس السيادي الذي يُسَيره العسكر (ولي قصة في هذا الشأن لا أود أن أفصح عنها الأن كى لا يحبط الشعب أكثر: كيف تم تدجين أعضاء المجلس السيادي الإجلاء؟)، تفقد ما بقي من صدقية ومشروعية أخلاقية – الأمر الذي ينعكس سلباً علي مسيرة التحول الديمقراطي ويعيق أمكانية سلام مستدام.

كان من المفترض أن يلتزم العسكر أو يلزموا بالمهنية والعمل على تطوير المؤسسة العسكرية لكنهم آثروا الإشراف المباشر على كافة القضايا كي يضمنوا سلامتهم ويعملوا على توثيق صفقاتهم وتجارتهم المشبوهة. هؤلاء ليسوا عسكر، هؤلاء أثرياء حرب. والمفاضلة اليوم بين وضيع وذليل، حتماً ليس بين شريف ووضيع.

ما الذي يلجأ الحكومة أن تعلن وصولها لإتفاق مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي تعلم أنها إنما ابرمت إتفاقاً مع جهة ذات تمثيل أثيري، وليس لها تواجد علي الأرض. لا تخشي القيادة الثورية علي شي مثل خشيتها علي تأكل رصيدها الأخلاقي. ولذا فلا أخال مجموعة الحلو تقع فيما وقعت فيه المجموعات الدارفورية والتي اصبحت عبارة عن حركات صورية تتقاسم الود إذا لم نقل الفراش مع عشاق عديدين. هل يريد هؤلاء عمل إصلاحيات هيكلية وبنيوية للاقتصاد السوداني، أم يريدون فقط تقاسم السلطة مع العصابة الخرطومية التي سطت علي السلطة متسلقة علي ظهر الثوار، وسرعان ما تنكرت لمبادئهم؟

إن "العقل المركزي" سيتعامل معهم بنفس النهج الذي إتبعته جماعة المؤتمر الوطني، فماهي جيلتهم لقلب الطاولة؟ لماذا لا يتحالفون مع كافة القوي الرافضة لمشروع الهبوط الناعم، والعازمة علي تصحيح مسار الثوار والتخلص من هؤلاء الإنتهازيين؟ ما الذي تحتاجه هذه الحركات للتحول من العمل العسكري إلي العمل اسياسي المدني؟ أخشى أن يكونوا قد عقدوا أمالهم على جهات يشاركونها العاطفة وتقاسمهم – أي لا تشاركهم – الإنتماء الثقافي والوجداني أو حتى المصلحة السياسية والإقتصادية. يقولون أن الأمريكي الأسود إذا اغتني صار لونه رماديا، ممّا يسهل عليه التفكير بكيفية في شأن مصالحه الإقتصادية، والتعبير بأخرى في شأن نشاطه الإجتماعى. كذاك الغرباوى!

تحتاج معارضة الحكومة الحالية إلي فكر يعلي من مصلحة الوطن علي حساب أي مصلحة حزبية أو شخصية: يجتاج السودانيون معارضة وحكومة، لتفعيل الأرث السوداني التليد في عقد المصالحات أكثر من حوجته للإستعانة بالبند السادس- بند التفاوض الدخلي. هل سينجح البند الاسادس فيما أخفق فيه البند السابع – بند التدخل العسكري؟ مالكم كيف تحكمون؟

تحتاج القيادة إلي جسارة وفكارة (هي أخت البصارة) أكثر من حوجتها للإبتسامة العابرة التي يصرفها مسؤول الحكومة الأول بمناسبة ومن غير مناسبة. علماً بأن صفات الجسارة والفكارة لا تتوفر لموظفين أممين لم يعتادوا التفكير خارج الصندوق، بل الفوا الإمتثال لموجهات من قد يحرمهم فرصة المعاش المريح إذا ماهم خالفوا أمره أو سلكا مسلكاً غير مسلكه!

أعجب كيف قبل رئيس الوزراء حمدوك عقد تسوية شامله وكاملة خارج المحكمة مع أهالي ضحايا السفينة كول، والإجراء الجنائي بعد لم يكتمل. أي منطق هذا؟ ألم يكن من الأجدي الإنتظار حتي يكتمل الإجراء القضائي، وينظر الرئيس حينها في إستكمال كافة الإجراءات، يشمل ذلك إجراء الإستئناف حتي الوصول إلي المحكمة الدستورية؟ لا سيما أن كل الأسباب الظرفية والسببية تشير إلي براءة السودان وعدم وجود منطق يُلزمه بتحمل تبعات جرائم لم تقم في ارضه، ولم يوافق عليها ممثلين رسميين لشعبه. الأرض كانت مختطفة، والشعب كان مقهوراً تسلطت عليه عصابة ذات صلات وثيقة وتاريخية بالمخابرات الأمريكية. لم تجرؤ أمريكا على مطالبة طالبان بتعويضات لأنها تعرف أي الرجال هم، كما تعرف أنهم أصحاب قضية ولهم مقدرة على البذل والتضحية.

لقد أعطت أمريكا نفسها حق مقاضاة الدول التي ربما رعت إرهابيين سببوا في مقتل امريكيين، لكنها أغفلت النظر في شأن رؤساء أمريكين دمّروا دول أو تعدوا عليها بإرسال صواريخ تسببت في تدمير منشأت مدنية، مثل مصنع الشفا الذي دُمَّر بحجة أنه ينتج غاز الاعصاب، وقد أعترفت إدارة بوش التي عقبت حكم كلينتون، بأن ذلك كان خطأ فادحاً وتغولاً علي سيادة الأراضي السودانية. بل أنها ركزت في حملتها الإنتخابية علي تحميل إدارة كلينتون وزر إعتداءات سبتمبر 2011م. إذ بينت أن جكومة الإنقاذ قد تبرعت بتسليم بن لادن، إلا أن إدارة كلينتون لم ترغب في تحمل التبعات. لماذا إذن يتحمل الشعب السوداني تبعات التهاون، إذا لم نقل التعاون بين الإسلاميين والمخابرات الأمريكية في شأن الحملات الإرهابية؟

بعد أن المحنا لبعض السيناريوهات في شأن الحرية والسلام، فإنه يلزمنا أن نتعرض بشفافية لموضوع العدالة:

لا تعدو تصريحات المسؤولين السودانيين في شأن الجنائية أكثر من كونها فرقعات إعلامية يهدف العسكريون منها إلي تهيئة المناخ السياسي لإستقبال الرئيس برهان في أمريكا، بمعني أخر إنهم يستخدمونها وسيلة فقط لفك الحصار الذي بات يطوقهم في كل منعطف. أمّا المدنيين، قبيلة قحط خاصة، فقد قبلوا هذه التصريحات علي مضض لأنهم يعلمون أن هذا الإجراء القانوني قد بات هو الخطوة الأولى تجاه تطويقهم والعمل علي تفكيك دولتهم. فهم ليس لديهم قناعة بضرورة إنصاف المتضررين الدارفوريين، حتماً ليس بتسليم ذويهم من "الأشراف" أو "الهاشميين"!

حال إنعدام الرؤية الفكرية وفي غياب المشروع السيادي الوطني، فإننا سنستبدل العنصرية بعنصرية مضادة، وسنشهد إنشطارات وإنقسامات متتاليه حال إنتصار جهة علي أخري. علي إنه يلزمنا عدم الإنصياع لدعاوي الجاهلية والتركيز قدر الإمكان علي خلق مشتركات تساعد علي تطور منصات معدة لإنطلاقة أفكار حيوية ذات أبعاد رؤيوية.

إن الحديث عن محاكمة مجرمي الإبادة في السودان أمر غير مقبول إجرائياً، عملياً، أو أخلاقياً. فالأخلاق في هذه الحال تُعد بمثابة الدينمو أو المحرك الفعلي الذي من دونه ستبطل كل المحفزات وتنعدم كل الآليات. بموجب قرار مجلس الأمن (1593) إحالة ملف التحقيق في ملف دارفور الي المحكمة الجنائية في مارس 2005م، فإن كل الإجراءات القانونية والقضائية التي باشرتها الأجهزة السودانية تعتبر لاغية كما بين في مقالة الأستاذ عبدالعزيز سام.

إن المحكمة الجنائية تمارس إختصاصها التكميلي في حال توفر الرغبة والأهلية لدي الدولة المعنية، وذلك قبل قرار الإحالة. أمّا بعد قرار الأحالة فالمحكمة تمارس إختصاصها الإصلي. بمعني أخر، لم تعد السلطات السودانية تمتلك غير سلطة الضبط الإداري، أي الإمتثال وتسليم المتهمين. فقرار الإحالة صدر بناء علي التحقق في رغبة وأهلية وقدرة الدولة السودانية علي تتبع الجناة وإمكانية إصدار مذكرة توقيف بحق المجرمين. فالدولة ألتي إتخذت تدابيراً إدارية وسياسية لتدمير دارفور، ما كان يمكن أن تتوفر لها الرغبة في تتبع غير المصوغات التي إتخذتها لتدبير مثل هذا الفعل الشنيع، كما إن الحصانات التي تمترس خلفها المسؤولون العسكريون والأمنيون حالت دون الوصول إليهم.

يجب أن لا نغفل أن القانون الجنائي السوداني (1991م)، لا يتضمن مواداً لمحاكمة مرتكبي التطهير العرقي والإبادة الجماعية. كما يجب أن نعترف بأن القضاء السوداني قد فقد إستقلاليته، إذا لم تدخر الإنقاذ جهداً لأدلجته بعد أن فرضت الضوابط الإدارية وتخلصت من كل الكفاءات الوطنية والنزيهة. إن أقل ما يستحقه الضحايا الذين عايشوا الإستبداد وعانوا من كل أصناف الإهانة، هو الإنصاف.

ختاماً، لا يحتاج المرء لعبقرية كي يدرك من الملابسات السياسية الراهنة والخطابات الحكومية الباهتة والهزيلة التي كادت أن تذهب في كثير من الأحيان إلي درجة اختلاق مسرحيات الغرض منها خلق بطولات لمجموعة من الهوانات (جمع هَوان بلغة أهل البوادي في السودان)، التبرع بعقد تسويات وبدفع تعويضات لقضايا لم يتم فيه تحقيقات، الإنبطاح لقادة الكيان الصهيوني بدافع إرضاء البارونات، التستر على السرقات التي يمارسها الكِبارات، محاولة تمييع قضية التحقيق في فض الإعتصامات، إعادة توظيف أرباب المعاشات، وتبرير قمع المتظاهرين الذين لولاهم لم تستطع (قحط) وأخواتها تبوء هذه المواقع علي ما هي عليه من بؤس.

وإذ كنا نفتقد في فترة من الفترات أن نوازن بين مصلحتنا أو رغبتنا في الإنتماء لإحدي الفريقين (العسكر/المدنيين، المركز/الهامش، الإسلامييين/العلمانيين، الجلابة/الغرابة، الزرقة/العرب، إلي آخره)، فإننا اليوم نسير في حقل من الألغام، مطلبنا للسلامة فيه محكوم بالتقاطعات الحادثة بين النخب ومدي الإرتباطات التي أبرموها غير آبهين بمصلحة المواطن، قدر إهتمامهم بأولويات الآخرين، غير السودانيين. لابد من اصطفاف جديد يعيد الثورة الى مصاغها التاريخي والأخلاقي الإنساني: حرية، سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.

auwaab@gmail.com

 

آراء