نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة (5-7): لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل .. بقلم د. عبد الله الفكي البشير

 


 

 

(البحث عن النسب الفكري والسياسي)
(5-7)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com

تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياسة السودانية. وتزعم الورقة بأن هذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".
تناولنا في الحلقة الماضية، وهي الرابعة من هذه السلسلة، دور لجان المقاومة في استكمال الاستقلال من خلال النقد العملي للإرث الاستعماري في العقول والبنى الذهنية، وعبر النضال الجماعي في سبيل تحرير السودان بقيم البناء الجماعي للوطن، فتعرضنا إلى تجليات المعرفة الاستعمارية في الإرث السياسي، فوقفنا عند صفوية المزاج، وكذلك الانقسامات والثنائية الموروثة والثأرات السياسية. واليوم نستكمل.
أشار البروفيسور أحمد أبوشوك في عرضه وتحليله لكتاب الدكتورة عفاف عبد الماجد أبو حسبو، الموسوم بـ: النزاعات الانقسامية في الحركة الوطنية السُّودانية، 1918-1948م، وهو كتاب مهم، إلى تلك الثنائية مشيراً إلى آثارها الخطيرة والسيئة في الإرث السياسي. وفي تقديري أن إشارة أبوشوك كانت مهمة وضرورية للكشف عن أهمية الكتاب، من جهة، ولتسليط الضوء على موضوع الثنائية، من جهة أخرى. كذلك ذكر أبو شوك بأن الدكتور التجاني عبد القادر وصف تلك الثنائية بـ "الثنائية المدمرة". وقال أبو شوك: حسب المؤلفة إن الثنائية التي تجلت في صراع الشوقية - الفيلية (الشوقية نسبة إلى محمد علي شوقي، المؤيد للاستقلال والمدعوم من طائفة الأنصار، بينما ترجع نسبة الفيلية إلى السيد أحمد الفيل، الموالي لمصر والمدعوم من طائفة الختمية)، قد أُعيد تشكيلها في إطار النزاع الختمي- الأنصاري من طرفٍ، والصراع البريطاني-المصري من طرفٍ آخر. وأضاف أبوشوك بأن المؤلفة نظرت بعد ذلك بعين فاحصة لتطور هذه النزاعات الانقسامية أثناء إضراب طلبة كلية غردون التذكارية عام 1931م، وداخل أروقة نادي الخريجين، وفي استجابات الخريجين الموجبة والسالبة لتأسيس المجلس الاستشاري لشمال السُّودان عام 1944، والجمعية التشريعية عام 1948، وكيف انتقلت هذه الثنائية إلى شعارات الأحزاب وأجندتها السياسية. ولا جدال في أن هذا الوضع برمته قد أفرز رؤيةً وطنيةً ضامرةً في مواجهة التحدي الاستعماري، الأمر، كما بيَّن أبوشوك، الذي دفع عفاف أبوحسبو إلى القول في خاتمة دراستها: "ربما كان المرء يتوقع أن تنشأ الانقسامية بعد نيل الاستقلال، عندما يكون حدوث الانقسام شيئاً مرجحاً خلال عملية اتخاذ القرار حول الأولويات؛ لكن ليس قبل ذلك عندما يتوجب أن تكون المنصَّة الشاملة لنيل الاستقلال عاملاً موحداً". ولهذا، فإن المؤلفة، كما ذكر أبوشوك، ترفض "القول بأن السياسة الحزبية كانت إرثاً استعمارياً دون تسليط الضوء على عناصر النزاع الانقسامي التي كانت سلفاً مجسدة" في التركيبة البنيوية للدولة والمجتمع في السُّودان. والدليل على أن النزاعات الانقسامية اللاحقة التي أدت إلى انفصال جنوب السُّودان عام 2011م، والتشظي الذي أصاب الأحزاب السياسية التي تجاوز عددها ثلاثة وثمانين حزباً، فضلاً عن غياب الرؤية الاستراتيجية لحل مشكلات السُّودان الآنية. ولذلك أطلق التيجاني عبد القادر حامد على الثنائيات الماثلة الآن في الساحة السياسية، وتحديداً صراع اليسار (الشيوعيين) واليمين (الإخوان المسلمين)، صفة/ وسم الثنائيات المدمرة.
لا جدال في أن الثنائية ظلت ماثلة في تاريخ وواقع السودان السياسي. وتعود أسبابها وجذورها، في تقديري، إلى المعرفة الاستعمارية والسياسات الاستعمارية، فهي إرث استعماري بامتياز، لم يجد الاهتمام والعمل من أجل التحرر منه، واليوم يخضع هذا الإرث الاستعماري للنقد العملي من خلال الأداء الثوري للجان المقاومة. وما يؤكد أن ثقافة الثنائية ترجع إلى المعرفة الاستعمارية، وهي سياسة غرسها الاستعمار، الكثير من الشواهد والبراهين التي نجدها في إرث السودان السياسي، وفي مذكرات قادة الحقبة الاستعمارية، ومذكرات القادة السودانيين. ومن أنصع البراهين، على سبيل المثال، لا الحصر، ذلك الاعتراف الذي قدمه جيمس روبرتسون (1899- 1989)، آخر سكرتير إداري في السودان، وكان قد بدأ عمله في السودان عام 1922، ثم عمل في العام 1944 في وظيفة السكرتير الإداري حتى مغادرته السودان عام 1953 ليكون حاكماً عاماً في نيجيريا. قال روبرتسون في مذكراته، التي أعدها الأكاديمي البريطاني بيتر ودوارد وقد جاءت بعنوان: التحول في إفريقيا: من الحكم المباشر إلى الاستقلال، ثم استل منها الأستاذ مصطفى عابدين الخانجي الجزء المتعلق بالسودان وترجمه ونشره عام 1996 تحت عنوان: السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال، قال روبرتسون إنهم كحكام: "... شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما، وهي سياسة يعترف بآثارها ال سلبية على السياسة السودانية". وقد أشار إلى أن آثار سياسة التنافس التي غرسوها بين الطائفتين ظلت باقية في الممارسة السياسية حتى تاريخ اليوم، وكان يتحدث في العام 1989. وقد أشار إلى اعتراف روبرتسون هذا، أيضاً عبد الرحمن عبد الله، في كتابه: السودان: الوحدة أم التمزق، (2002). إن حديث روبرتسون هذا، مقرونا بالطبع مع معطيات أخرى، يعين على تفسير الثنائية التي اتسمت بها السياسية السودانية. غير أن هذه السياسة، سياسة الثنائية، التي غرسها الاستعمار تجد اليوم نقدها العملي من لجان المقاومة، وعلى مدى أربع سنوات، وهي تقود ثورة ديسمبر المجيدة. ولأول مرة، في تقديري، يشهد السودا ن العمل النضالي الجماعي من أجل الوطن، ولا ريب عندي في أنه سيتحول إلى عمل في البناء الجماعي للوطن.
إن ما تقوم به لجان المقاومة من خلال العمل الجماعي اليوم يمثل نقداً عملياً لإرث الثنائية في الممارسة السياسية، وتجاوزاً للثأرات السياسية. كما أن العمل الجماعي من أجل الوطن يحرر السوح والعقول من الرؤى المنحازة، والتي كانت واحدة من أهم أسباب فشل السياسة السودانية. إن أسباب الفشل لا تعود "لعدم القدرة على تتبع الأسباب، وإنما ترجع إلى التشبث برؤية منحازة بوعي وبدون وعي". ولا سبيل للتحرير من الرؤى المنحازة، إلا عبر ثقافة البناء الجماعي للوطن، والوعي بوحدة المصير المشترك. وعلينا أن ندرك بأن هذا ما ظلت تقدمه لجان المقاومة بصورة عملية ويومية، وهي تعبر عن حالة وعي شامل تعيشها شعوب السودان، وليست هي جسم أو لافتة تغري للتفاوض والمساومات والمحاصصة. نحن أمام واقع جديد، وعلينا التأمل فيه والعمل على استيعاب هذا الواقع الجديد.

3-4. النقد العملي لسير السودان في وجهة العروبية

كان من بين تجليات استكمال الاستقلال، والنقد العملي للمسار السياسي والإرث الاستعماري، الذي قدمته لجان المقاومة، هو تحرير شعارات الثورة من الانتماءات الإقليمية، لا سيما الانتماء العروبي
غني عن القول بأن فهم واقع السودان ومعطيات راهنه، وتشخيص حالة الفشل المستمرة للدولة السودانية منذ الاستقلال عام 1956، وما خلفته تلك الحالة من أوضاع تهميش وإقصاء وقمع وكبت لبعض الثقافات والجماعات والمجموعات، يتطلب دراسة مرحلة تأسيس الدولة الوطنية في السودان خلال فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. ولعل من بين أهم معطيات تلك المرحلة التأسيسية التي تحتاج للدراسة هي فكر ورؤية القادة والمثقفين ومواقفهم من هوية السودان "يبدأ فساد السمك من رأسه". ومن الملاحظ أن معظم السياسيين والقادة الذين حكموا السودان تحمسوا لعروبة السودان، وظلوا ينشطون داخلياً وخارجياً من أجل التأكيد والتسويق لعروبته، دون اعتبار للمكونات غير العربية. نتج عن ذلك النشاط، إلى جانب عوامل أخرى، الانحياز للمكون العروبي، سواء في رسم السياسات أو وضع التشريعات، ومن ثم تكييف الرأى العام والمسار السياسي للسودان في الوجهة العروبية، الأمر الذي أدى لتهميش الشعوب والثقافات الأصيلة في السودان. تبع ذلك أن ظل السودان يسير في وجهة تناقض إرثه الحضاري، وتصادم آركيو ليوجيته الثقافية، وتناطح تركيبة شعوبه الوجدانية. فأفضى ذلك المسار، إلى جانب عوامل أخرى بالطبع، لانفصال جنوب السودان 2011، وتفجير الانتماءات الإثنية والجهوية، واشتعال الحروب، وتفشي مناخ التشظي في سمائه. وللتدليل على ما ذهبنا إليه، يمكن تقديم ثلاثة نماذج من القادة والسياسيين، على سبيل المثال، لا الحصر، وهم: الشيخ علي عبدالرحمن الأمين (1906- 1983)، الذي كان رئيساً لحزب الشعب الديمقراطي، وعمل نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً، وخضر حمد (1910- 1970)، الذي عمل عضواً بمجلس السيادة، وقبل ذلك وزيراً، وبابكر كرار (1930-1981)، الأمين العام للحزب الاشتراكي الإسلامي.
هذه النماذج تعبر بجلاء عن طبيعة نشاط قطاع كبير من القادة والساسة المتحمسين لعروبة السودان ولفكرة القومية العربية، والساعين لإلحاق السودان بركبها. أوضح الشيخ علي عبد الرحمن بأن السودان في مذكراته: الديمقراطية والاشتراكية في السودان، (1970)، بأن الاتجاه العروبي قد سيطر على كل نشاطاته وتصرفاته في الحركة الوطنية منذ قيام مؤتمر الخريجين. وأنه ظل يعمل على ترسيخ الاتجاه العروبي للسودان، فقد كتب في مذكراته، قائلاً: "عمدنا أنا وكثير من زملائي على تجسيد هذين المبدأين: الاتجاه العربي المتحرر والنظام الاشتراكي". وقد بيَّن في مذكراته رؤيته تجاه عروبة السودان، قائلاً: "السودان يدخل كله في نطاق القومية العربية على اختلاف عناصرهم وعلى اختلاف أديانهم"، وحسم مسألة هوية السودان، قائلاً: "السودان يدخل كله في نطاق القومية العربية سواء في ذلك النوبة والبجة والفور والعرب والحاميون والزنوج وسواء في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون". بل ذهب الشيخ على عبد الرحمن إلى أبعد من ذلك، فقد أعلن، قائلاً: السودان جزء لا يتجزأ من العالم العربي.. وكل من يحيد عن وجهة النظر هذه عليه أن يغادر البلد". يحمل هذا الإعلان تعبير فصيح عن الاستعلاء، وإصرار بلا حق على الإقصاء والتهميش، إلى جانب الهضم لحقوق أصحاب الحق والرفض لمبدأ الشراكة معهم في الوطن.
نلتقي مع الحلقة السادسة.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk

 

 

آراء