نظرة جديدة لتاريخ الحكم الثنائي: السودان الإنجليزي – المصري بين 1934 و1956 .. تقديم وترجمة: بدرالدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

نظرة جديدة لتاريخ الحكم الثنائي: السودان الإنجليزي – المصري بين 1934 و1956 

The Condominium Revisited: The Anglo-Egyptian Sudan 1934 – 1956:
جبريل واربورج Gabriel Warburg

تقديم: هذه ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم البروفيسور (والخبير في الشأن السوداني) جبريل واربورج، نُشر عام 1993م في مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن في عددها السادس والخمسين.
ولد المؤلف - بحسب سيرته الذاتية المبذولة في الشبكة العنكبوتية – في برلين بألمانيا عام 1927م وهاجر مع عائلته وعمره سبع سنوات إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 - 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر جبريل واربورج الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان ” الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان Islam, Nationalism and Communism in a Traditional Society: The Case of Sudan ، وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري The Reinstatement of Islamic Law in Sudan under Numayry" ، وكتاب آخر عن الطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية، ، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين وأنصار المهدي والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات الكاتب.
المترجم
******** ********* *********
اجتذب السودان الإنجليزي – المصري في السنوات الأخيرة اهتمام الكثير من الباحثين. ويرجع الفضل في هذا، جزئيا، لسهولة الرجوع إلى المصادر الأرشيفية في إنجلترا، وفي وادي النيل لدرجة أقل. وبالإضافة لذلك، تزايد الاهتمام البحثي بالعلاقات الثنائية بين السودان ومصر، مدفوعا – بصورة جزئية - بالنظرة السياسية لدى الرئيسين السادات ونميري، وأهم من ذلك، بالتناقص الواضح في مياه النيل، خاصة في سنوات الثمانينات. وسعى الرئيسان السادات ونميري في عام 1974م لعقد ميثاق للتكامل، تم التوقيع عليه بالفعل في عام 1981م، كان هدفه هو إقامة تعاون وثيق في مختلف المجالات، يفضي في النهاية - كما كان مؤملا – لا لاتّحاد القطرين. وأخفقت تلك التوقعات عقب سقوط نظام نميري في عام 1985م، وليس من المتوقع أن يتحقق ذلك في ظل وجود الحكومة السودانية الديكتاتورية الحالية (المقصود بالطبع حكومة البشير. المترجم).
وأوضحت الدراسات الحديثة التي أجريت في وادي النيل وأوروبا لتاريخ السودان في تلك الفترة أخطاءًا سياسة عديدة أقترفها الساسة البريطانيون في القرنين التاسع عشر والعشرين، ساهمت في إحداث المصاعب الحالية التي تمر بها العلاقات بين السودان ومصر. ومن الجانب المصري، أحرز حسين ذو الفقار صبري قَصَبَ السَّبْقِ في تقديم عرض نقدي لتاريخ تلك العلاقات، في كتاب صدر (بالإنجليزية) عام 1982م (1). وكان الرجل يحمل أفكارا واقعية عن احتمالات الوحدة بين مصر والسودان إبان نقاشاته وتفاوضه مع الساسة السودانيين بين عامي 1952 و1955م. وكان هذه مدعاة لعدم شعبيته بين "الضباط الأحرار" المصريين. ثم صدر بعد ذلك كتاب مذكرات للرئيس محمد نجيب (2) وكتب أخرى، إضافة لدراسات تاريخية حديثة. وقام في السودان عدد من الكٌتاب، منهم على سبيل المثال لا الحصر، حسن أحمد إبراهيم ومحمد إبراهيم أبو سليم ومحمد عمر بشير، بإلقاء أضواء جديدة على العهد التركي – المصري بالسودان، والمهدية، والحكم الثنائي، على التتابع. وتم في القاهرة عام 1990م نشر عمل مشترك بين كتاب سودانيين ومصريين من تخصصات مختلفة شملت العسكرية والسياسية، في كتاب من 700 صفحة. ونُشرت أيضا أعمال عديدة لكتاب غربيين عن فترة الحكم الثنائي بأقلام من عملوا سابقا بالقسم السياسي لحكومة السودان مثل جي بيل، مؤلف كتاب (Shadows on the Sand)، وجي توماس مؤلف كتاب (Sudan 1950 - 1985)، ومؤرخين مثل روبرت كولنيز، مؤلف كتاب (Shadows in the Grass, 1918 - 1956)، وودوارد، مؤلف كتاب (Sudan, 1898 - 1989)، ومارتن دالي، مؤلف كتاب (Empire on the Nile). ومكنتنا تلك الكتب وما تحويه من بحوث تحليلية مفصلة لإعادة تقويم تلك الفترة. وتقودنا النتيجة العامة لتلك الدراسات إلى ضرورة إعادة النظر في تاريخ وادي النيل – بصورة نقدية أكثر توازنا، وفي بعض الأحيان مراجعة ذلك التاريخ، خاصة منذ استيلاء القوات التركية – المصرية على السودان عام 1821م.
ولا شك بأن الكتاب العمدة والأكثر شمولا وإحاطة بتاريخ الحكم الثنائي هو كتاب من جزئين بقلم مارتن دالي عنوانه "إمبراطوريه على النيل" (2). ويسرد المؤلف في الجزء الأول من كتابه تاريخ الحكم الثنائي منذ عام 1898م إلى نهاية فترة حاكم عام السودان سير جون مافي عام 1934م. ويصف ويحلل الجزء الثاني من الكتاب بقية أحداث السودان مرورا بالحرب العالمية الثانية، حتى استقلال السودان (قبل أوانه، في نظر البريطانيين) في الأول من يناير 1956م.
وأهتم دالي في الجزء الأول من كتابه بالشخصيات التي أدت أدوارا مهمة في تشكيل مصير السودان، مثل ونجت وماكمايكل ومافي. أما أهم الشخصيات التي تناولها الكتاب في الفترة ما بعد 1934م إلى 1956م فشملت نيوبولد وروبرتسون.، وهما من أشهر السكرتيرين الإداريين بحكومة السودان في تلك الفترة، وفرانسيس ريقمان، السكرتير المالي لحكومة السودان بين عامي 1934 – 1944م، حيث كان مسؤولا عن تشكيل مصير السودان الاقتصادي بـ "سياساته التقليدية وغير الخيالية". وأثبت أولئك الرجال، بحسب دالي أن "استمرار سلطة وقوة الشخصية كانت أهم من السياسة في مجالس حكومة السودان" (صفحة 10). وكان السبب في ذلك واضحا، فقد كان وضع السودان فريدا، إذ أن الحكومة كانت تستبقي الموظفين (البريطانيين) في وظائفهم لسنوات طويلة".
وكان أبرز الذين شكلوا مصير السودان هم في الأساس الإداريين في القسم السياسي بحكومة السودان، الذين وصفهم كرومر مقرظا بقوله: "إنهم صفوة خريجي مدارسنا وجامعاتنا" (صفحة 13). غير أن دالي لام موظفي القسم السياسي لخلقهم من الإدارة في ذلك القسم "صنما يُعبد ... بينما تم تجاهل الجانب الإنساني للاستعمار في التعامل (صفحة 396)". وكان معظم العاملين في القسم السياسي من خريجي خيرة المدارس العامة الراقية، ومنحتهم صفوية تشكيل ذلك القسم شعورا بالتفوق وبأنهم ضحايا. وكانوا يعدون أنفسهم من موظفي الإمبراطورية المنسيين في مواقعها النائية، رغم تفانيهم في خدمة وحماية "الأهالي" من رعاياهم. ودفع ذلك الولاء المزعوم للسودانيين بعض كبار رجال القسم السياسي لإدانة السياسة البريطانية في وادي النيل، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعدوا تلك السياسة بمثابة "خيانة" للسودانيين. وكان دالي يعتبر القسم السياسي بحكومة السودان مجموعة معزولة من الأفراد الذين تنقصهم سعة الخبرة التي اكتسبها الإداريون البريطانيون الاستعماريون في أماكن أخرى من العالم. وهذا هو سبب إصرارهم على إبقاء الأوضاع كما هي عليه، ومعارضتهم للإصلاحات بدعوى أنها "ستفسد، دون داعٍ، الدور المحدود للحكم القبلي غير المباشر الذي منحته الإمبراطورية للأهالي". ويمكن القول بأن إخلاص رجال القسم السياسي الاستحواذي كان لـ "سودانهم" الخاص، وليس لشخص أو جهة أخرى. وعندما كان عليهم الرحيل عن السودان ضد رغبتهم بين عامي 1953 و1955م، و"رغبوا في أخذ "سودانهم" معهم. إلا أن الساسة المصريين وأفندية أم درمان لم يرضوا بذلك" (صفحة 399).
وبذا يتضح لنا أن دالي كان يسعى لتحطيم خُزَعْبِلَةً رائجة وأسطورة شائعة (ومقبولة حتى الآن) مفادها أن القسم السياسي بحكومة السودان كان فيلقا صفويا متميزا بَزَّ الأقسام الاستعمارية الأخرى في عصره. ورغم أن دالي كان قد أفلح في تقديم حجج مقنعة تعضد زعمه، إلا أنه تحاشى في خلاصة قوله السؤال المهم عما إذا كان القسم السياسي بحكومة السودان إدارة جيدة بدرجة معقولة إن تم تقويمه بحسب مزاياه هو، وليس بالمقارنة مع الأقسام الاستعمارية في الدول الأخرى، التي كانت تعمل تحت ظروف مختلفة. لقد كان ذلك القسم السياسي يعد نفسه حاملا لراية استقلال السودان بسبب الطبيعة الثنائية الخاصة بحكم السودان، وكان يسعى لحماية السودانيين من مخططات المصريين التوسعية، التي كانت تؤيدها في بعض الأوقات وزارة الخارجية البريطانية "الجاهلة"، والسفارة البريطانية بالقاهرة بمخططاتها المُرَاوِغة. وبما أن القسم السياسي بحكومة السودان لم يكن جزءًا من وزارة المستعمرات (كما هو الحال في كينيا وأوغندا) فينبغي تقويم ما قام (أو لم يقم) به ذلك القسم باعتباره جسما معزولا لم يجد الفرصة للاستفادة من خبرات المخضرمين في إدارة المستعمرات. ولكن ينبغي أخذ انتقاد دالي للقسم السياسي بحكومة السودان في الاعتبار في كل الدراسات المقبلة عن ذلك القسم، إذ أن انتقاده هذا يناقض كل التقويمات السابقة لذلك القسم الصفوي.
كانت آراء دالي عن سياسة "الحكم غير المباشر" سلبية على وجه العموم، لسببين هما الفساد وقلة الكفاءة. وكانت تلك السياسة تقوم على أن "شرور التحديث" ستدمر السودان كما دمرت مصر والهند والمستعمرات الأخرى. وكان مما سهل الطريق للبريطانيين لتبني سياسة "الحكم (القبلي) غير المباشر" المزايا المالية لذلك النظام، إضافة لارتباطهم الرومانسي التقليدي بالحياة الريفية ومزاياها، خاصة حياة الترحال المستمر عند رجال القبائل". غير أن دالي ذكر – محقا – أن ذلك النوع من الحكم لم يطبق بصورة شاملة، إلا في دارفور والجنوب، بسبب أن الكثير من سكان السودان كانوا من ضمن ممن يصنفون على أنهم "منبتين قبليا". وكان سكان دارفور والجنوب أكثر المتضررين من تلك السياسة. وغدت سياسة "الحكم غير المباشر" (التي بدأت مشجعة ومتفائلة أو على الأقل واعدة) وصفة لارتباك وركود شديدين (قارن كاتب المقال هنا رأي دالي السالب عن سياسة "الحكم غير المباشر" برأي فرانسيس دينق الذي يعد تلك السياسة أفضل بكثير من البيروقراطية المركزية التي أدخلت عقب الاستقلال. المترجم). وكان المناصرون بشدة لسياسة "الحكم غير المباشر" يرفضون أي محاولة (حتى لو كانت رمزية) لإشراك المتعلمين من السودانيين في ذلك النوع من الحكم، ويحرصون على تقوية دور القوى التقليدية الطائفية أكثر فأكثر. ومع مطلع عام 1935م بدأت الحكومة في إيقاف العمل بتلك السياسة، عدا في دارفور والجنوب (التي لم تكن لهما القدرة المالية على تبني سياسة بديلة). غير أن حكومة السودان اضطرت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتعيين عدد من السودانيين في وظائف كان يقوم بها بريطانيون، وبذا فتحت المجال لكثير من الخريجين كانوا سيبقون من العَوَاطِل، وحفزت النقاش حول دور السودانيين في حكم بلادهم. وقاد سير دوقلاس نيوبولد (الذي شجع على قيام مؤتمر الخريجين في عام 1938م) السياسة الجديدة القاضية بإدخال السودانيين في الإدارة في وظائف مساعدي مفتشين ومآمير وبوظائف عليا في مكتب السكرتير الإداري. وخلافا لآراء بعض زملائه، كان نيوبولد يرى أن الحرب لا ينبغي أن تستخدم كذريعة لإيقاف مسيرة التعليم أو الحكم الذاتي، بل يجب الإسراع بالسودنة، وعدم الاستجابة لضغوط الانتليجستيا. غير أن ضغوط العمل وتوتره والمعارضة في داخل القسم السياسي أبطأت من تلك المسيرة. وذكر دالي أن ما خُطط له من سودنة في عام 1946م كان القصد منها استرضاء السودانيين، و "من أجل منع تسلل المصريين" (صفحة 253). غير أنه بنهاية عام 1952م لم يكن هنالك من السودانيين سوى 9 مفتشين (من جملة 57)، ولم يتقلد قَطّ أي سوداني وظيفة مدير أو نائب مدير مديرية. وكان هذا أقوى وأوضح اتهام يمكن توجيهه لسياسة "الحكم غير المباشر".
وانطلقت الحركة الوطنية السودانية بين عامي 1934 – 1940م على خلفية طبقة الموظفين البريطانيين الذين كانوا ينعمون بحياة منعمة – نسبيا – في وسط سكان البلاد البدائيين المعوزين. وأقتطف دالي في كتابه فقرات عديدة من مذكرات ناشئة المفتشين البريطانيين ورسائلهم الشخصية ليثبت مدى بعدهم عن حقائق السودانيين الذين عُهد إليهم بتولي مصائرهم. وبالإضافة لذلك أوضح دالي عدم ثقة أولئك المفتشين البريطانيين في صغار الأفندية السودانيين الذين كلن التعليم قد منحهم شعورا زائفا بالمساواة. ولم يكن اختلاط المسؤولين البريطانيين بالسودانيين (أو حتى الأوربيين الآخرين) أمرا مرفوضا أو غير مرحب به رسميا، بل كان الاختلاط بهؤلاء من الأمور التي لا تخطر لهم على بال أصلا. غير أن أولئك المفتشين كانوا دوما يبدون إعجابهم بسكان الأرياف البسطاء، ولكنه كان إعجابا رومانسيا لا يقيم وزنا لحقائق الحياة.
وبالإضافة إلى الفصل بين الموظفين البريطانيين والسودانيين، كانت هنالك أيضا نظرة الازدراء التي كانت واضحة عند موظفي القسم السياسي تجاه "الأفندية"، الذين كان البريطانيون يعدونهم "أشْباه متعلمين". لذا فنظرة البريطانيين المضادة للحركة الوطنية ليست مستغربة البتة. ونقل دالي عن مدير مديرية دارفور (1934- 1944م) قوله: "لقد تمكنا من قصر التعليم على أبناء زعماء وشيوخ القبائل ... ونأمل في ثقة كبيرة أن نُبقي الطبقة الحاكمة على قمة شجرة التعليم لسنوات عديدة قادمة" (صفحة 255). وكان البريطانيون "يعدون أبناء الزعماء والشيوخ مأموني الجانب بالمقارنة مع أبناء التجار الشُطّار، لذا فقد حرموا الأخيرين من التعليم" (صفحة 107). وكان ذلك التوجه هو أهم ما أُخذ على القسم السياسي لحكومة السودان وأقسامها الأخرى. وكان واضحا أن هنالك فجوة كبيرة لا يمكن ردمها بين الحكام والمحكومين، تمثلت في اختلاف اللغة والثقافة والدين، والطبقة، ولم تفلح إلا قلة قليلة – تعد على أصابع اليدين - من البريطانيين والسودانيين في النفاذ إلى دائرة الآخر. ولم تسلم تلك القلة من اللوم أو التهكم، فالبريطاني قد يصفه بني جلدته في سخرية بأنه "متشبه بالأهالي going native"، وقد يُتهم السوداني بأنه "خائن لبني وطنه العزيز".
لقد كانت للعلاقة بين حكام مصر وبريطانيا تأثير كبير على السودان في غضون سنوات الحكم الثنائي. وكانت العلاقة بين البلدين في أوجها بين أعلى مسؤولين بريطانيين في السودان ومصر، وسايمز في الخرطوم (1934 -1940م)، ولامسون بالقاهرة (1934 - 1946م) (3). وكانت وزارة الخارجية البريطانية سعيدة بترك كل شؤون السودان لـ "حكمة وحسن تقدير الحاكم العام والمفوض السامي البريطاني لمصر والسودان". ولم تكن للمفوض السامي البريطاني لمصر رغبة كبيرة في التدخل في شؤون السودان، وكان يعده "دولة مستقلة". لذا صارت إدارة السودان تحت إدارة الحاكم العام بصورة كاملة. وكان دالي شديد الاقتناع بأن السودان كان هو السبب في فشل الاتفاق بين مصر وبريطانيا قبل عام 1936م. وتم تأجيل حسم قضية ما أقترضه السودان من مصر حتى وقت آخر حتى لا تؤخر تلك المسألة توقيع تلك الاتفاقية في 26/8/1936م (4). وقد حُسم أمر تلك الديون عام 1938م بطريقة دلت على خضوع مصر لما تريده بريطانيا، إذ وافقت مصر – ببعض التأبي – على تخفيض ديونها إلى 6 مليون جنيه مصري (مما يعني تنازلها عن طلبها رد قيمة الإعانات والمساعدات التي قدمتها للسودان له قبل عام 1913م (صفحات 53 – 58). وأثارت تلك الاتفاقية الكثير من الاحتجاجات في مصر ضد بريطانيا، وعدها البعض "خيانة" من حزب الوفد.
ولم تبدأ المفاوضات بين بريطانيا ومصر لتعديل اتفاقية 1936م إلا في أكتوبر من عام 1946م، بعد اندلاع مظاهرات دموية عارمة في مصر أفضت لتغيير الحكومة. وصادف ذلك وصول حزب العمال للحكم في بريطانيا. وخشي أفراد القسم السياسي لحكومة السودان من أن تقوم بريطانيا بخيانة السودانيين و"بيعهم" من أجل الاحتفاظ بحق إدارة قناة السويس. لذا سعوا لنيل تأييد السودانيين ضد الدعاوى المصرية بالسيادة على السودان. وفي مفاوضات أكتوبر عام 1946م التزم بيفن (وزير الخارجية البريطاني) بالانسحاب من مصر، ولكنه لم يكن مستعدا للخروج من السودان، إذ كان يؤمن بأن استقلال السودان (في ذلك الوقت) ليس من مصلحة السودانيين، إذ ليس بمقدورهم البقاء مستقلين، وكان يخشى من اتحادهم مع مصر، لأن ذلك قد يضر بمصالح بريطانيا. ورغم أن الاتفاق الذي أفضت اليه مفاوضات 1946م أقر بـ "سيادة مصرية" لملك مصر على السودان، إلا أنه أثبت، لأول مرة، موافقة مصر على حق السودانيين في حكم ذاتي يقودهم لتقرير مصيرهم. وأخفق هيدليستون وروبرتسون (من وفد حكومة السودان) في محاولتهما إزالة تلك الفقرة التي تذكر الـ "سيادة مصرية" لملك مصر على السودان، بينما صرح صدقي باشا (رئيس الوفد المصري) للصحفيين المصريين بأنه أفلح في "إعادة السودان لمصر" (5). وأهاج ذلك التصريح العديدين في السودان، خاصة حزب الأمة، الذي دعا أنصاره للجهاد ضد مصر وبريطانيا (على حد سواء). وأضطر صدقي للاستقالة من رئاسة الوزارة المصرية في ديسمبر 1946م بعد رفض البرلمان المصري للاتفاقية، ولم تتم الموافقة على تلك الاتفاقية المُرْبِكة العسيرة المنال إلا بعد الثورة المصرية حيث وقع عليها أنطوني إيدن ومحمد نجيب في فبراير من عام 1953م بشروط أسوأ (من وجهة النظر البريطانية) من تلك التي وقع عليها صدقي وبيفن عام 1946م. وكان من رأي دالي أن تلك الاتفاقية تُعد معلما بارزا (في تاريخ السودان)، إذ أنها ساهمت في أن يعمل السودانيون بصورة موحدة، وفي هزيمة سياسة بريطانية امتدت لسنوات. واعتبر روبرتسون ورفقاه في القسم السياسي لحكومة السودان أن تلك الاتفاقية مثلت نهاية كل مجهوداتهم، واتهموا بيفن بخيانة السودانيين. وحاولت حكومة السودان إدخال ضمانات لجنوب السودان في تلك الاتفاقية. ووافق حكام مصر الجدد (مثلهم مثل الوفديين والملك فاروق) على إعطاء السودانيين حق تقرير المصير مفترضين أنهم سيختارون الاتحاد مع مصر. وبدا ذلك واضحا في مذكرات الرئيس نجيب (كلمتي للتاريخ)، وفيما قاله كثير من الساسة والزعماء المصريين والسودانيين. وزعم هؤلاء جميعا أن "مصر فقدت السودان" بسبب سياسة عبد الناصر الديكتاتورية. ولام كثير من السودانيين عضو مجلس قيادة الثورة المصري صلاح سالم على معاملته الاستبدادية لهم، ولاستخدامه الواسع للرشاوى لكسب أصواتهم، وأيقنوا بأن السياسة المصرية في السودان هي التي هُزمت (بأكثر من السياسة البريطانية) في عامي 1954 و1955م.
وذكر دالي – محقا - أن الطائفية ومشكلة الجنوب كانتا من أهم العوائق التي أضرت بمستقبل السودان وهو يستشرف عهد الاستقلال. وانتقد دالي في كتابه ظهور "المهدية الجديدة" وعد أن ظهورها تحت قيادة السيد عبد الرحمن المهدي، كان نتيجة للسياسات الخاطئة التي انتهجتها حكومة العهد الثنائي، وأيضا لموت "القبلية". ويرى دالي أن بزوغ نجم السيد عبد الرحمن لا يمكن أن يكون بسبب "الكاريزما" التي عُرف بها، أو بسبب أيديلوجية "المهدية الجديدة"، ولكن كان نجاحه بسبب ثروته الضخمة من جانب، وبسبب تردد وازدواجية الحكومة من جانب آخر (2). فقد تمت في عهد الحاكم العام سايمز مراجعة الحظر الحكومي الذي كان مفروضا على السيد عبد الرحمن، إذ أن ذلك الحاكم العام لم يكن يعد "المهدية الجديدة" المسالمة إلا مجرد طريقة صوفية، ولم يكن يعتبرها مهددا سياسيا للحكومة، وكان يعتقد أن بزوغ نجم السيد عبد الرحمن أمر لا مفر منه، حتى وإن كان في بزوغ نجمه نوعا من "الإحراج الإداري" للحكومة. ورغم ذلك كان سايمز يقر بأن لـ "المهدية الجديدة" طِمَاح سياسي، وأنها توفر أرضا خصبة للوطنية السودانية. وكان دالي يرى أن آراء سايمز تلك "مضللة ومتهورة وعشوائية وتعتمد على ردود الأفعال". غير أن دالي لم يفصح عن رأيه هو شخصيا في "المهدية الجديدة"، رغم أنه ينتقد الحكومة لـ "سوء فهمها لتلك الحركة" (صفحات 71 - 76) دون أن يتطرق إلى أساس الأيدلوجية المهدوية التي أبرزت السيد عبد الرحمن وأنصاره. ولو فعل لتوصل لتحليل أكثر توازنا لنجاح لك الحركة. وبان رأي دالي في "المهدية الجديدة" بصورة أوضح عندما تطرق لفشل حزب الأمة في انتخابات 1953م، وعلق على فوز حزب الوطني الاتحادي بها بالقول إن ذلك الفوز "دليل على رفض الناخبين لمفهوم ضيق لـ (الاستقلال) يعدهم به حزب الأمة، لا يهتم إلا بالمصالح الذاتية"، وكأنه بقوله هذا يزعم أن من اختاروا الحزب الوطني الاتحادي قد اختاروه على أساس أقوى وأقل ذاتية، وهو ادعاء لا يمكن له بالطبع إثباته. غير أن دالي كان محقا في زعمه أن فوز حزب الوطني الاتحادي هو في الواقع فوز لزعيم طائفة السيد علي الميرغني أكثر منه فوز للأزهري وجماعة الأشقاء العلمانيين. أي أنه كان فوزا في ساحة حرب علمانية لطائفة على طائفة أخرى، ولسيد على سيد.
وأصيبت مصر بخيبة أمل غير منتظرة لتخلي الحزب الوطني الاتحادي في عام 1954م عن خيار الاتحاد مع مصر، وتفضيل استقلال السودان، وقررت تأجيل "تقرير المصير" بأي ذريعة. وكانت مشكلة جنوب السودان (الذي كان قد بدأ في التململ والغليان بعد تجاهله في عملية السودنة ونقض الشماليين لوعودهم) هي الذريعة الملائمة. وطلبت بعض الجهات المصرية (منهم صلاح سالم) من الجنوبيين أن يضعوا ثقتهم فيها، بل ووعدوهم باتحاد فدرالي أو إدخال قوات مصرية لحفظ الأمن بالمنطقة. وزعم دالي أن تخوف الأزهري من تدخل مصر في الجنوب ومن فقدانه للأغلبية في البرلمان هو ما حفزه للقيام بمحاولات محمومة للطلب من البريطانيين الإسراع بتنفيذ حق "تقرير المصير". واستجابت بريطانيا لذلك الطلب، ليس لخوفها بالطبع على مصير الأزهري، بل لخشيتها من التدخل المصري. وكان من المفارقات العجيبة أن يجد القسم السياسي لحكومة السودان نفسه يؤيد الأزهري في سعيه المحموم لنيل حق "تقرير المصير"، وهو الذي ظل لسنوات يسعى لإطالة عمر الحكم الثنائي؛ وأن تجد مصر نفسها تحاول تأجيل إنهاء الحكم الثنائي، وهي التي كانت تؤيد الأزهري الذي كان يسعى للاتحاد معها.
ويُحمد لدالي التفاته إلى النمو الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي حدث بالسودان بين 1945 و1955م. فقد زادت إيرادات الحكومة أربعة أضعاف، من 8.3 مليونا في 1946م إلى 36.2 مليونا من الجنيهات المصرية في 1955م، بينما ارتفعت المنصرفات في نفس السنوات من 7.9 مليونا إلى 33.0 مليونا من الجنيهات المصرية. وتوسعت كذلك عقب سنوات الحرب خدمات السكة حديد والطرق والبريد والتلغراف والطيران وغيرها، والخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والبيطرة والتعليم. غير أن تلك التنمية لم تكن متوازنة، إذ تركزت فقط في المناطق النيلية الشمالية والجزيرة والعاصمة المثلثة بينما تجاهلت غرب وجنوب السودان (وكانت تلك وصفة لمشاكل في المستقبل) (صفحة 305 – 306). ولم يقم بالجنوب سوى مشروع الزاندي للغزل والنسيج على أمل أن يزرع القطن في المديرية الاستوائية، التي تم ترحيل خمسين ألف عائلة لها لهذا الغرض منذ بداية الخمسينيات. وكان العاملون بالمشروع (الذي ثبت أنه كان خاسرا) غير راضين عن القليل الذي يجنونه من عملهم، بينما كان "الخبراء الأجانب" في المشروع ينالون أجورا عالية (صفحة 311). وأسوأ من هذا، كانت الحكومة قد نشطت في تثبيط أي محاولة للتنمية الاقتصادية بالجنوب بزراعة الشاي والكاكاو والسكر والمحاصيل الأخرى التي كان من الممكن أن تكفي حاجة السودان كله. وكان السبب هو رغبة حكومة السودان في زيادة إيراداتها من الضرائب والجمارك ومن وسائل النقل (بالقطارات والبواخر) التي تفرضها على البضائع المستوردة من الخارج. وصرح الدبلوماسي البريطاني (قافتي – اسمث) إبان زيارته للجنوب في عام 1955م بأن بلجيكا أو فرنسا كانتا ستفعلان أكثر من بريطانيا لو استعمرتا أعالي النيل. ويجب علينا أن نتذكر أن حكومة السودان كانت قد دأبت على تخفيض إنفاقها في جنوب السودان بزعم أنه يستنزف اقتصاد البلاد.
لخص دالي ما حاق بالسودان من كوارث بعد عشرين عاما من نيله للاستقلال في: الحرب الأهلية والطائفية والمجاعات والإفلاس. وتسائل إن كان من الجائز عَزْو (جذور) تلك الكوارث إلى إرث عهد الحكم الثنائي، وأقر بأنه ليس هنالك من إجماع على مدى مسؤولية الحكم الثنائي فيها. وكان من رأيه الشخصي أن ذلك العهد قد زاد تلك الكوارث سوءاً، إذ كان بإمكانه أن يقود السودان على طريق يؤدي لحكومة أكثر تمثيلا (لكل مناطق السودان)، ولكنه قنع بعمل أقل ما يمكن عمله في هذا الجانب.
يستحق مارتن دالي التهنئة على إكمال كتابه الضخم (من جزئين) في وقت قياسي. فقد كان قد اِطَّلَعَ على (غالب) المصادر البريطانية الأولية والثانوية، وقرأ آلاف الرسائل الخاصة والمذكرات والوثائق الأخرى حتى وصل لخلاصات متوازنة. ويحمد له التفاته لكل شؤون الاقتصاد والزراعة والاجتماع في السودان، إضافة للسياسة الداخلية والعلاقات الداخلية إبان تلك الفترة المهمة من تاريخ السودان. ولا شك عندي في أن كتاب دالي (مع كتاب روبرت كولنز عن الجنوب) يعدان أفضل ما نُشر من أعمال بحثية لأي فترة من تاريخ السودان الحديث.
************ *********** ***********
إحالات مرجعية
1/ حسين ذو الفقار صبري (1915م - ) هو طيار سابق وممثل مصر في لجنة حاكم عام السودان، ورئيس أركان حرب القوات المصرية بالسودان (1953 – 1956م). وصدر كتابه المذكور بعنوان Sovereignty for the Sudan عام 1982م في لندن، ولعله ترجمة لكتاب بالعربية عنوانه "ثورة يوليو واتفاقية السودان". https://www.marefa.org/%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86_%D8%B0%D9%88_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%A7%D8%B1_%D8%B5%D8%A8%D8%B1%D9%8A
2/ سبق لنا ترجمة مقتطفات من كتاب (إمبراطورية على النيل) منها مقال "بزوغ نجم عبد الرحمن المهدي"
https://www.sudaress.com/sudanile/92234
3/ المقصود هو جورج استيوارت سايمز (1882 – 1962م)، حاكم عام السودان بين عامي 1934 و1940م. ولامسون (لورد كيليرن لاحقا 1880 – 1964م) هو المندوب السامي البريطاني لمصر والسودان بين عامي 1934 و1936م.
4/ للمزيد عن اتفاقية 1936م بين مصر وبريطانيا يمكن النظر في: https://sources.marefa.org/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%87%D8%AF%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D8%B9%D8%A7%D9%85_1936
5/ للمزيد عن اتفاقية 1946م بين مصر وبريطانيا يمكن النظر في:
https://www.marefa.org/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9_%D8%B5%D8%AF%D9%82%D9%8A_%D9%80_%D8%A8%D9%8A%D9%81%D9%86_%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%87%D8%AF%D8%A9_%D8%A8%D9%8A%D9%86_%D9%85%D8%B5%D8%B1_%D9%88%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء