نهاية التاريخ أم نهاية الحتميات؟

 


 

الخضر هارون
3 November, 2022

 

maqamaat@hotmail.com

تميز الفكر الغربي منذ الثورة الصناعية باعتناق الحتميات المتفائلة بنهايات سعيدة للحياة على المعمورة. ولعل تتابع المخترعات: الكهرباء، الديزل، البخار، الطائرات. والتخاطب عبر الأثير. (بالخيوط وبدونها) والانطلاقة من بيئة متزمتة تعاف الثروة والادخار و وتمنع التمتع بمباهج الحياة والتجاوب مع الفنون وجماليات المادة والروح، في فضاء يتحكم فيه رجال الكنيسة دونما سلطان من الله، قد أصاب الناس بالدهشة فالانبهار ثم الغرور حتي زعم أحد فلاسفتهم أن الخالق العظيم قد مات ودانت الدنيا لهذا المخلوق الضعيف المسكين! ولو وقف الأمر عند حد التفاؤل الحسن والتغلب علي الخيبات به، لتستمر الحياة علي الأرض وتترسب التجارب عبر النجاحات والفشل، لكان ذلك من الحِكم البالغة والضرورية. فالتفاؤل رديف بقاء العمران واستمراره. واستقراء التاريخ لاستنتاج النظريات والسنن الكونية مفيد بلا جدال على ألا يبلغ حد المبالغة فيه واعتبار كل باحث لنتائج بحثه أنها تبلغ حد اليقين فتصبح حتماً لابد أن يقع. ذاك شطط كشفت الأيام عدم صحته. والحتميات لا تحيط بكل العوامل الطبيعية واللا-طبيعية التي تحكم قوانين الحياة علي الأرض لأنها تصدر عن ذات علمت شيئا وغابت عنها أشياء فهي بتلك الصفة ذاتية يعتريها النقص. والتعويل عليها كحقائق مطلقة تصاغ في ركابها القوانين وتوضع في إثرها السياسات والمخططات قد يفضي بالناس لنتائج كارثية.
ظل الأمر يؤرق كاتب هذه السطور لأزمنة عديدة فيجد علي شكوكه في صدقية تلك الحتميات شواهد مبعثرة هنا و هناك، شذرات وقطع لا تكتمل بها الصورة ولعلها لن تكتمل بالشكل المفضي لليقين التام.
وقفت أخيراً علي كتاب وقعت حوافره علي حوافري في بعض طروحاته علي الأقل ،فقلت أشرككم في أهم ما جاء فيه:
والكتاب بعنوان " تاريخ مختصر للقوة" للدكتور سايمون هيفار والرجل يحمل دكتوراه في التاريخ من جامعة كمبردج ببريطانيا وهو صحافي يكتب في الديلي ميل والديلي تلغراف وهو محافظ في القضايا الاجتماعية ويري أهمية الديانة المسيحية كقاعدة تشكل الأساس الأخلاقي للمجتمع وللحياة العامة رغم أنه ملحد علي مستوي الاعتقاد الشخصي. ويريد بالقصير في عنوان الكتاب ، المختصر في سياق الكراسات الموجزة والمفيدة التي تصدرها " نوتنغهيل" و "كمبردج" في أقل من مائتي صفحة لكل كراسة. ويريد بالقوة شارحاً ما اقتبسه من تعريف لها أورده السياسي الألماني (لودويق فون روشو) صاحب كتاب (ريال بوليتيك):" أن تحكم تعني أن تستخدم القوة والقوة يستخدمها فقط من يملكها . والصلة المباشرة بين القوة والحكم هي الحقيقة الأساسية التي تنبني عليها كل أنماط السياسة و هي المفتاح لكل التاريخ."
ويشرح الناشر خلاصة المراد من القوة في غلاف الكتاب بما يلي:
" منذ ماكولي في القرن التاسع عشر ( توماس بابينغتون ماكولي مؤرخ بريطاني يؤمن بتفوق الجنس الأبيض) وحتي فوكاياما في القرن العشرين ظل المؤرخون تحت خدر فكرة بأن الأمور تتحسن مع مرور الزمن لا محالة .لكن تلك الفكرة ( التي تمعن في التفاؤل في خيرية حركة التاريخ )تغفل سبباً وحيدا يفسر العلاقات الدولية ووقائع التاريخ وهو الرغبة في الحصول علي القوة والسطوة وعزم الحكام علي استخدامها لتكريس قبضتهم علي السلطة أو حمايتها من أن تتسرب من بين أيديهم. لو تأملت حركة التاريخ منذ المؤرخ اليوناني القديم سيوسيديدز ، الذي ،سجل أحداث الحرب بين اسبرطه وأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وحتي اليوم ستلاحظ أن سايمون هيفر قد حلل الدوافع القوية للاستحواذ علي السلطة التي توضح بجلاء أن التأريخ بالقطع يعيد نفسه وفقاً لذلك المسعي.
والكتيب مكتوب بطريقة المقالة البحثية essay التي تصوب الهدف بنقل وجهة نظر الكاتب في موضوع بعينه يعتقده ويراه. ولهذا قسم مكونات بحثه إلي الجزيئات التي تبدو للوهلة الأولي بلا رابط يربط بين أجزائها ولكنها تحقق في نهاية المطاف مسعي الساعي في تحقيق القوة والسيطرة وإذعان الآخرين وهي :١- الاستحواذ علي الأرض وضمها، ٢-- فرض دين، ٣-فرض ايدولوجية، ٤-تحقيق الثروة و الثراء للمعتدي .و اعتبر كل أولئك وسائل تتخفي وراءها الرغبة في تحقيق القوة والسيطرة علي الآخر وختمها بحديث عن المستقبل كيف يكون و قدم لها في البداية بمقدمة توضيحية.
في المقدمة بسط الفكرة الأساسية التي يؤمن بها وهي أن حركة التاريخ كلها حركة دافعها بالأساس هو امتلاك القوة للسيطرة علي الآخر المختلف عبر ضم أراض جديدة أو الاستحواذ علي ثروة ، أو فرض دين في القديم أو أيديولوجية في العصور اللاحقة وعبرها جميعاً يتحقق المبتغى وهو فرض القوة والسيطرة علي الآخرين.
بدأ بتفنيد ما قاله الأمريكي فرانسيس فوكاياما في مقالته الأشهر التي نشرت في العام ١٩٩٨ ثم أصبحت كتاباً عام ١٩٩٢،"نهاية التاريخ "والحرب الباردة تترنح يومئذ والاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية تتهاوي والغرب وعلي رأسه الولايات المتحدة يوشك علي تسلم ريادة العالم منفرداً “.
يورد المؤلف تعريف فوكاياما لما عناه بنهاية التاريخ : (ربما يكون الذي نشاهده ليس مجرد نهاية للحرب الباردة أو زوال حقبة تاريخية والولوج إلي عالم ما بعد الحرب ولكننا نشهد في الحقيقة نهاية التاريخ كما عهدناه: إنها نقطة الوصول إلي النقطة الأخيرة في تطور التاريخ الإنساني متمثلة في صيرورة الديمقراطية الليبرالية وصفة عالمية وإيديولوجية نهائية لنظام الحكم البشري.)
وقد ظل هذا الأكاديمي المرموق حبيس تلك النبوءة المتعجلة يواليها بالشروحات وبالاستدراكات حتي يوم الناس هذا فقد نشرت له مجلة (زا أتلانتيك) في أكتوبر ٢٠٢٢ مقالة جديدة بعنوان "دليل آخر بحقيقة نهاية التأريخ" لم تزد علي شروحاته واستدراكاته السابقة شيئاً يذكر!
والحتميات لم يفترعها فرانسيس فوكاياما بل سار في دروبها في إثر فلاسفة العصر الحديث إذ بدأها الفيلسوف هيغل متأثرا بانتصار الثورة الفرنسية وقيام النظام الجمهوري وبذات العنوان " نهاية التاريخ". وترسم خطاه كارل ماركس بطريقته في أن نهاية التاريخ ستتم بقيام وانتصار الشيوعية.
يعلق الدكتور سايمون هيفر علي ذلك بالقول: إن مضي عقدين من الزمان علي تلك المقولة (يعني مقولة فوكاياما) تؤكد انتكاسة ما ذهب إليه فوكاياما حيث أن القيم الديمقراطية غدت في حالة تراجع منذ ذلك الوقت بما أحال نظريته إلي مجرد تهويمة مثالية،(يتوبيا )،تحول دون تحقيقها عوامل أبدية.
يدلل علي ذلك بظهور الإسلامية المتطرفة متمثلة في تنظيم القاعدة في الثمانينيات من القرن العشرين ، ويقول ليس لمجرد ظهورها ولكن لحقيقة أن الدول الإسلامية لم تدينها بل ولم تقم بأي إصلاحات في نظمها الحاكمة تقترب من الديمقراطية كرد فعل علي ظهورها. ويضيف كما أن رد الفعل الأمريكي إزاءها كان مخالفاً لقيم الديمقراطية الليبرالية نفسها .( يشير هنا لمعتقلات قوانتانمو وأخري سرية في أماكن من العالم وتسليم بعض المشتبه فيهم لنظم قمعية...). ويشير كذلك لارتداد بعض دول أوروبا الشرقية عن الديمقراطية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ويصف ديمقراطية روسيا بأنها مجرد ديكتاتورية متسلطة في لبوس ديمقراطي. والصين يقول إنها تتجه في اقتصادها نحو الرأسمالية لكنها تكرس في ذات الوقت الديكتاتورية في مجال السياسة. أما في شأن الشرق الأوسط وإفريقيا فيقول: دول الشرق الأوسط وإفريقيا ذات نظم تندرج تحت لافتات متعددة للاستبداد وكذلك أمريكا الجنوبية عدا البرازيل أما المكسيك ففي حالة فوضي عارمة. يختم هذه النقطة بالقول إن الرغبة في التسلط والسيادة و الهيمنة والسيطرة هي أساس يضمن علي الدوام وجود القهر والديكتاتورية تنبضان بالحياة. إن دولاً هامة مثل أمريكا وروسيا والصين تمزج الوسائل الاقتصادية مع العسكرية لتحقيق تلك الرغائب فعلتها أمريكا في العراق وأفغانستان وروسيا في جورجيا عام ٢٠٠٨ وما فعلته الصين ضد بعض الأقليات لديها أبلغ دليل علي ذلك. تجدد وقوع هذه الصور من العدوان في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين يؤكد أن مسيرة التاريخ ليست ببساطة تسير إلي التقدم والرقي: النزاعات والخلافات سيبقي حلها بالقوة تماماً مثلما حدث في عهد المؤرخ سيوسيديز قبل آلاف السنين. وفي ذات السياق يقول إن المقولة التي عمرها أكثر من مائة وسبعين عاماً بأن التاريخ ليس سوي سيراً ذاتية لأفراد أسهموا في صنعه ليست صحيحة بل والأصح أن الرغبة في تحقيق ما أشار إليه آنفاً من التسلط هي التي صنعت وتصنع التاريخ علي الدوام.
وحول الدين وقد جعل عنوان هذه الجزئية، الله. مستعرضاً مواقف الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام من الحرب مشيرا إلي عدم أهمية النصوص في المنع والإباحة وأن الحرب قد وقعت وتقع بذرائع لحماية الدين أو الخوف عليه وذلك يؤدي لاحتلال أراض وضمها إلي حيث يسود الدين المعين . هناك أيضا الرغبة في الثروة وضرب لها مثلاً بتمدد الامبراطورية الرومانية قديماً بالاستحواذ علي أراض الغير من أجل الثروة وكذلك شعب الفايكن الذين اجتاحوا بين القرنين التاسع والحادي عشر أجزاء واسعة من أوروبا انطلاقاً من شمال أوروبا وإسكندنافيا لذات الغرض. وكذلك الصراع لاحقاً بين الدول الأوروبية في العالم الجديد اسبانيا والبرتغال ثم بريطانيا وفرنسا وهولندا كان صراعاً دوافعه الحصول علي الثروة والاستقواء بها في أوروبا وكذلك حركة الاستعمار في افريقيا وآسيا. أشار هنا إلي الاستشراق والذي برره مثقفو الدول الأوروبية الاستعمارية وشجعوا عليه بذريعة تفوق الغرب الثقافي علي بلاد الشرق وهنا أورد تعريف إدوارد سعيد للاستشراق بقوله " إن قناعتي هي أن الاستشراق في الأصل عقيدة سياسية سببها أن الشرق أكثر ضعفاً من الغرب وقد غيّب الغرب في شعوره بذلك الضعف ما يستبطن نحوه (الشرق) من دونية. " أي للنيل منه والسيطرة عليه وأن ضعف الشرق الذي شجع علي السيطرة عليه يستبطن أيضاً شعورا بدونيته (ربما عرقياً وثقافياً في اعتقادهم). وأضاف الكاتب أن أوروبا في القرن السادس عشر وجدت نفسها أقوي من بلاد المسلمين بحيث يمكنها توسيع سلطانها فيه وسيطرتها عليه بملاحين حذاق وبحارة مهرة.
وأفرد حيزاً للأيديولوجيا جعل عنوانه: العقول: وهو السعي نحو السيطرة باستخدام الايدولوجية التي حلت محل الدين في العصر الحديث فأصبحت مطية للتوسع منذ القرن الثامن عشر مروراً بالماركسية في القرن العشرين ثم الفاشية والنازية، توسع يروم التمدد في أراضي الغير والسيطرة بالقوة علي شعوبها بحجة نشر الايدلوجية الصحيحة وكذلك فعلت الديمقراطيات الغربية ، (عبء الرجل الأبيض).
اختتم حديثه بالتذكير بأن التمدد للاستحواذ علي الأرض أو للحصول علي الثروات ونشر الدين في الماضي أو نشر الايدولوجية العلمانية في العصور الحديثة ومسعاها جميعاً هو السطوة والسيطرة علي الآخرين، وذلك المسعي هو المحرك الرئيس لحركة التاريخ وأن مظاهر التقارب والتحالف الحضاري الذي تحدث عنه صامويل هانتيغتون في صراع الحضارات: الإسلام والصين والهندوسية والبوذية من جهة في مواجهة الغرب ،ستضع الليبرالية الغربية في خانة الدفاع. والخطوة المثلي للدفاع عن الديمقراطية تكمن في الاعتراف بأن رغبة الآخرين في تحقيق مسعاهم في القوة والسيطرة بما فيه منافع لهم متجذرة كرغباتنا نحن تماماً وإننا باستخدامنا حرياتنا نحن و الاعتراف بها وحدها للإبقاء عليها ،ودون اعتبار لرغائب الآخرين، فإننا عندئذ سنقوض نظامنا القيمي وسنفقد جميع تلك الحريات.
وتلك دعوة فيما أري لاحترام الآخرين ومراعاة خصوصياتهم والنأي عن السعي للسيطرة عليهم بواحد من المسائل التي فصلها الرجل في سياق هذا الكتاب.
والخلاصة في ظني أنه ليست هناك حتميات تحكم حركة التاريخ ولا ديمومة لأنظمة التسلط ولا للنظم الديمقراطية إلا بإرادة الإنسان وسعيه ومثابرته علي الإبقاء علي الخير والعدل والسلام .وأغلب الظن أن مسيرة الإنسانية ستشهد تداولاً بين أنظمة قمعية تتجدد وأنظمة أكثر رحابة وتسامحاً ، سمها ما شئت ،تتداول علي الناس وفق منطق القوة. ولو أن الناس تتعلم من التجارب وتبني عليها لما تكرر وقوع الحروب وسفك الدماء وللزم التصديق بأن المدينة الفاضلة ستتحقق في نهاية المطاف. هل تلوح لكم أنوارها البهية الساطعات الآن؟ أم أن العالم كله يحبس أنفاسه خوفاً من حرب تقع هذه المرة فلا تبقي ولا تذر؟!

 

آراء