أيدلوجيا الدين: المعرفة والفنون ومعضلة الشرك والتجسيد الإلهي

 


 

 

بقلم: د. عثمان عابدين عثمان
تمثال لوفينمخك (الرجل الأسد) المنحوت من العاج في شكل إنسان برأس لبؤة، والبالغ من العمر أربعين ألف عام، والذي وجد في كهف هولنشتاين- استاديل في المانيا، يُعتبر أقدم تجسيد عرفته البشرية حتى الآن. أما كهف تغوا- فغيغ (الأخوة الثلاثة) المتعدد الحجرات، في منطقة اريج في فرنسا، فقد احتوى مجموعة من اللوحات والنقوش من العصر الحجري عمرها ألف وأربعمائة عام من قبل الميلاد. على جدران إحدى غرف ذلك الكهف العتيق، تسمى ب-الحرم، توجد رسوم لحيوانات مختلفة منها الخيول والوعول والماموث والبيسون بجانب اثنين من الكائنات النصف- بشرية - نصف- حيوانية وصورة مركزية في شكل إنسان مركب من أعضاء حيوانات مختلفة أطلق عليه اسم الساحر أو ‘الإله ذو القرنين’ فسر على أنه نوع من الروح أو رَب للحيوانات عظيم.

في أساطير حضارة المايا القديمة وقع رجل، معدم فقير، في حب امرأة مُترفة، جميلة، هيفاء، شقراء، فأخبرته أنه إذا أراد أن يرى شعرها يتجدد، ينعم ويطول، وجب عليه أن يمسكها من شعرها ويسحبها فوق أرض محروقة حتى تنبت له محصولاً من الذرة الشامية شهِّيا، طاعما ووفيرا. لم يتردد الرجل المتيم فأضرم ناراً في حطب من عظام وجَرَّ معبودته فوق الأرض المحروقة حتى تتمكن من النهوض مجدداً من تحت الرماد وتصعد إلى السماء وتصير إمرأة- آلهة، أصغر سنًا وأكثر فتنة وخصوبة وجمال، تهبه الحياة الدنيا، وتنير له جنبات الطريق إلى حيث جنان المتعة والخلود.

كان إندرا، كبير آلهة الديانات الهندوس-فيديه، وإله السماء والعواصف والحروب، يشارك الناس حياتهم العادية ويشرب عصير نبتة سوما المسكرة والمقدسة. عندما قام ثعبان الجبل، التنين – فريترا، بتَكديس مياه الجبال ومنع الأنهار السبعة من الجريان، اندلعت الفوضى ومات الزرع وعطش الإنسان فقام إندرا بقتله وحرر الأنهار السبعة من قبضة ثعبان الجبل ليستعيد التوازن بين الطبيعة والإنسان.

افرودايتي، آلهة اليونانيين القدماء، كانت مرآة لكوكب الزهرة على الأرض وأم لكل الكائنات وإلهة للحب والخصوبة والزواج والإنجاب. تبدت افرودايتي في العديد من الأعمال الفنية من نحت ورسم في صورة امرأة في غاية الحسن والجمال والإغواء، والإغراء. في قصة ملحمة "الإلياذة" الشعرية خرجت افروديتي، آلهة اليونانيين القدماء، من البحر وسارت حافية الأقدام على طول ساحل رماله الناعمة لينبت على أثر خطاها زهور البنفسج والياسمين والأقحوان كتجسيد لقدرتها في التحكم في الطبيعة. ولأن ذات افروديتي فيها طعم ماء البحر المالح وملمس زبده الطافح، فقد كانت في بعض الأحيان تتبدى للعالمين كمخلوق ثنائي الطبيعة، نصفه الأسفل سمكة، والأعلى منه إنسان - حورية للبحر تغري للحب المقدس والحرام. أما حُبُها الجارف ل - آريس، إله الحرب، الفارس، الفارع - الوسيم، فقد أشعل أُتون نار حرب طروادة وأحكم العداء بين الآلهة المشاركة بنفسها في وطيس المعارك الحامية.

في عصور الحضارات الكوشية القديمة، كان ينظر إلى حكام النيل الكوشيين القدامى على أنهم تجليات إله السماء على الأرض. فعند بدايات الهداية كانوا يصعدون من أعماق البحار والأنهار ليعتلوا شاهق الجبال تقربا لشعاع نور الشمس ثم يستووا على هاماتها ليتَبدَّوا للإنسان في صورة إله رجل - إنسان. الإله رع، في تطوره اللاهوتي - الأسطوري نحو إله كامل القدرات، سرمدي الحضور، في البداية إكتسب قدرات للإله اتوم، إله الشمس واهبة الحياة من هواء وماء ودفء ونور ليصبح ’اتوم- رع‘ عند قائظة الظهيرة و ’خبري-رع‘ عند حمرة المغيب - المهيب. مع نظيرته الإلهة رأيت- تاوي أنجبا الإله رع - سَخْمت وبَسْتْت وحَتحْور الذين مثلوا فيه طبيعة التريث والحكمة، لكن أيضا نذق التهور والانتقام. أما مع الآلهة الأم ‘موت، فقد أنجبا خونسو، إله القمر الذي يشع نوره فيضيء للمسافرين طريقهم في سماوات الدجى الحالك.

أما الملك الكوشي ابيدَماك، إله الحرب الذي حقق الانتصارات وهزم الأعداء، فقد جُسِّد على واجهة معبده الواقع على سفح جبل النقعة على شكل ثعبان يخرج من زهرة لوتس وبجانبه الملك ناتاكاماني والكنداكة امانيتور وهما يمارسان سطوتهما على السجناء. أما على الجانب الآخر من المعبد فقد ظهر الآلهة آمون في صورة رجل برأس صقر جارحٍ - كاسر وبجانبه حورس، إله السماء و النيازك والنجوم.

الأديان الإبراهيمية، السماوية، الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، على الرغم من اختلاف رسالة أنبيائها إلا أنها توحدت حول قصة الخلق الإلهي لآدم الذي نُفِخَ فيه من روح ربه فكان أن "خلق الإنسان على صورته". ثم بعد ذلك، وفوق قمة جبل في صحراء سيناء، تبدى الله لنبييه موسى ناراً من تُقابة وكلمه تكليماً، وبعثه رسولاً يهدي شعبه المختار من اليهود إلى طريق الخلاص والصلاح. أما "عقيدة الثالوث المسيحية" فقد وحدت بين نبيها عيسى وخالقه الإله ليصبحا مع بعضهما ناسوتاٌ بعثت فيه روح من القدس ثالثة. أما في دين الإسلام تأصل التجسيد في ترقي المسلم الصالح، العارف بدينه، إلى جوار عرش ربه في أعالي السماء ليتنزل بعد ذلك ويكون ظلّاِ الله على الأرض ورسولاً له يهدي عباده المؤمنين.

وهكذا كانت للآلهة القديمة أسماء ذات مغزى وصور وأشكال ذات معنى. فقد كانت تمشي على الأرض، تشارك الناس حياتهم العادية، تتجول على شواطئ البحار وتسبح في مياه الأنهار. كانت تتقبل التضحيات، تأكل الطعام، تقع في الحب، تُغار، تغضب، تكره، تتزوج وتنجب الأطفال. كانت توصف بالحسن والجمال، وطول القوام، وتمارس الغزل والإغراء والإغواء. في أحيان كانت تتملكها بوادر الحكمة والتًّروي، وفي أحيان أخرى كان يعتريها عاطفة التهور والتشفي والانتقام. وأيضاٌ، كانت تخوض الحروب الضروس وفيها تصاب وتُجرح وتضام.

فإذا كانت الآلهة تستعصي ببعد السماء وتتخفى من وراء حجب عالم ما وراء الطبيعة، وإذا كان التاريخ في الأديان بداياته أزلية ونهايته سرمدية، فلا مفر إذاٌ من إحالات المقارنة الجسدية والإشارات الزمنية لمعرفة كنه الخالق الذي يمتلك كل أسباب الحياة والوجود والأشياء.

أرجع علماء اللاهوت معضلة التجسيم الإلهي لعجز وقصور اللغة بالإحاطة بالطبيعة المتناهية للخالق المتسامي، لذلك لجأوا للحيل اللغوية لتفادي السقوط في ارتكاب خطيئة الشرك بالله. توماس اكويناس، القديس المسيحي، قال بِتَماثُل الوصف والموضوع. بمعنى أن الوصف الذي يطلق على الإله ليس بذلك الذي يوصف به البشر - فالحلم عند الله يختلف عن الحلم عند الإنسان. أم حيلة اللاهوتي اليهودي، ميمونيدس، فكانت إسقاط الصفات السلبية على الخالق من مثل ’لله لا يفتقر للحيوية‘ حتى يمكن تفادي إسناد الصفة الإنسانية ’يحيى ‘لذاته المنزه عن الوصف والتمثيل. أما في دين الإسلام قال المعتزلة بخلق القرآن باعتبار أن كلام الله صفة محدثة من صفاته المقدسة؛ فالله متكلم وقد "كلم موسى تكليما". كذلك وحد المعتزلة بين أزلية الذات الإلهية وصفاته المحدثة حتى لا يُوحَىَ بوجود شركاء مع الله في القدم. مع كل ذلك، وعلى الرغم من مبدأ التأسيس على فقه التوحيد في الأديان الإبراهيمية، لم يتفق علماء لاهوتها على تبرير توحيد ذات الإله وصفاته لعدم مقدرة الإنسان على تصور وجود مجرد من وراء الطبيعة من دون الرجوع إلى تجربة إدراك حسي مُسبق.

نحن، نفتح أعيننا فنرى العالم من حولنا- نتعرف على العالم حرفيا. نشاهد كسوف الشمس فيعلم جمعًنا أن العام قد شهد الحدث الكوني المذهل والبديع. نسمع غناء العندليب فنسجل صوته على جهازنا المحمول وفي وقت لاحق من تلك الأمسية الرائعة نسمعه للفتاة التي تحاول إثارة إعجابها. نسير على شاطئ البحر حافيي الأقدام حيث تلامس مياهه الباردة رماله الدافئة، تماما كما فعلت الآلهة الإغريقية افرودايتي، ليس لكي نعطي معنى للحياة، لكن لمجرد الاستمتاع بذلك الشعور الندي.

هكذا نرى ما يراه الجميع بالفعل، ونسمع ما يسمعه الجميع بالفعل. نرى اكتمال القمر في ليل صفاءه أو لا نراه؛ نميز غناء العندليب من بين زققة العصافير أو لا نميزه. للتحقق من صحة معرفة حواسنا نقوم بإرجاعها لنفس الواقع الذي أتت منه - الواقع المحيط الذي يمثل المعيار لحكمنا على حقيقة معرفتنا للأشياء. فإما معرفة صحيحة، جيدة ومتناسقة مع الواقع، أو كاذبة، سيئة ومتناقضة معه. بيد أن ترجمة هذه الحواس إلى مفاهيم يعتمد على صحة مخزوننا المسبق من نوع تلك المعرفة. فعندما يرى أحدنا صورة مختلفة، أو يسمع صوتًا نشازاً، فإننا نحكم على تصوراته على أنها أوهام - تصور مشوه لواقع ماثل. أما إذا رأينا أشياء لا يراها سوانا، أو سمعنا أصواتًا لا يسمعها الآخرون، فنعتبرذلك هلوسة لقيامها من دون محفز خارجي.

وهكذا أيضاً نرى اللوحة المرسومة أو العمل المنحوتأوالمنقوش كإشارات بصرية مصدرها محفز طبيعي، حقيقي، تُتَرجم في مراكز العقل إلى نمط صوري يترسخ في ذاكرة الإنسان كمرجعية للقياس المعرفي - التصوري اللاحق. فالنص هنا هو نص معرفي - صوري - تخيلي، رسماً، أم نحتاً، أو نثراٌ كان. لذلك، إذا كنا نريد فهم النص الفني وتفسيره كانعكاس وتجسيد لمحتوى فِكْر وأيديولوجيا راسِمَهُ الفنان، أو متلقيه الفرد الإنسان، فلا مفر من إرجاعه للواقع الذي أتى منه، ولا مفر من سياق التاريخ فيه، ولا غِنى عن تماسك وتناسق المرجعية المعرفية التي تحكم على حقيقة أصله مصدره. أما إذا كان ذلك النص المعرفي - الصوري - التخيلي ليس له مرجعية في الواقع وخارج سياق زمانه، فهو ليس أكثر من وهم - تصوري لواقع غير موجود.

إذاً، في سياق هذه المقاربة المفاهيمية لمعضلة الشرك والتجسيد، يمكن اعتبار الفن أداة فعالة من أدوات التناص المعرفي التي تحرر النص المعرفي الإبداعي من قيود سياق زمنه القديم وتعيد صياغته في نص معرفي جديد بعيد عن الأحكام الجزافية، النمطية، المُبتَسرة وبذلك تمكنه من تبادل المعاني والدلالات مع مجموعات النصوص المعرفية والثقافية الأخرى.

د. عثمان عابدين عثمان
osmanabdin@gmail.com

 

آراء