هزال الأحزاب وفشلها في كتاب أحمد خير المحامي (1) … بقلم: محمّد خير عوض الله

 


 

 

Mohkhair765@hotmail.com

 

  أستاذ الجيل الجليل أحمد خير المحامي ، شخص عرف بعصاميّته واستقامته على مبادئه ، مهما كلّفه ذلك من ثمن ، فقد سجنه الإنجليز مرّات عديدة ، في إحداها حبس ثمانية عشر شهرا بين الجدران الضيّقة ، ولكنّه العصامي ، تخرّج في كليّة غردون مترجماً في عام 1925م ثمّ تخرّج محامياً في عام 1944م كان شعلةً متقدةً من الهمّة والنشاط ، عرف بين زملائه بذكائه المتقد وقدراته الذهنيّة العالية ، إلى جانب مشاركته العمليّة في بناء الحركة الوطنيّة وحماسته وحرارة عاطفته في مقاومة الإنجليز ، كما وصفه الدكتور مدثر عبد الرحيم الطيّب في مقدّمته لكتاب (كفاح جيل) والتي استقاها من صديق الأستاذ وصفيّه مولانا محمّد أحمد أبورنات أول رئيس للقضاء في الحكم الوطني ، والذي لازم أحمد خير وألمّ بتفاصيل حياته .. أستاذنا الراحل كتب في شهادته على العصر ، في كتابه المشار إليه ، قصّة كفاح جيل ، صنع الحركة الوطنيّة التي انتزعت الاستقلال ، وكان له الفضل الأكبر في ذلك الكفاح ، ولكنّه يعف تماماً عن ذكر الأسماء والأشخاص ، ولا ينسب لنفسه شيئاً من تلك البطولات ، بل ويخفي ماهو معلوم من التاريخ بالضرورة ، فهو الذي نادى بمؤتمر جامع لكل الخريجين ، هو صاحب الفكرة وساقي بذرتها ، ولكنّه نسبها للكم الكبير من تداخلات تلك التضحيات جميعاً ، وقدّم لذلك فقرات عديدة ينتقد فيها تعظيم البطل وخطورة ربط الأعمال بشخص ما ، وضرب بذلك مثلاً فقال : " فثورة 1919م في مصر ، والثورة النازيّة في ألمانيا، مثلاً ، كل منهما اجتماعيّة لازمة لتطوّر الجماعة التي حدثت فيها ، وكان وقوعها واقعاً حتماً لو لم يوجد سعد زغلول في مصر ، أو هتلر في ألمانيا . ومع أنّ الذي لا نزاع فيه أنّ لكل من الرجلين ، كما لأعوانهما الأقربين ، أثراً بعيداً في تكييف حركتهم ، وتوجيهها إلى ما انتهت عليه من نجاح أو فشل ، غير أنّ تأثيرهما وتأثير أعوانهما لا يعدو مساهمة الأفراد في نتاج الجماعة ، شأنهم شأن القائد في المعركة ، يديرها ويوجهها بمقدار مايجده من التعاون والإخلاص من جنوده ." هكذا تهرّب أستاذنا من ذكر الفضل لنفسه ، وهو فضلٌ ودينٌ في رقابنا ورقاب الأجيال السابقة واللاحقة ، لأنّه كان دينمو الحركة الوطنيّة الحديثة بلا ريب ، فهو الشعلة المتقدة في الجمعيّة الأدبيّة بود مدني ، أشهر جمعيّة أدبيّة في ذلك العهد ، حيث كانت الجمعيات الأدبيّة تغذي بالحبل السري الحركة الوطنيّة ، فلم تكن ترفاً يعيشه الخريجون . كما أنّه أيضاً ملهم كثير من الأفكار والأعمال التي غذّت الحركة الوطنيّة ، فليس في تاريخ تلك الحقبة من عمل سياسي ذكي وجريء وشجاع  كقيام مؤتمر الخريجين ، الذي بقيت الحياة السياسيّة عالةٌ عليه منذ تكوينه وحتى اليوم ، فقد التقى فيه الخريجون من أقاليم وقرى السودان المختلفة ، من حوالي خمسة آلاف خريج في الدورة الأولى ، إلى حوالي عشرين ألف خريج في دوراته اللاحقة ، وهو المؤتمر الذي أحدث هزّة في تعاطي الإنجليز مع القضيّة السودانيّة ، حيث كانوا يرمون لتحنيط الشعب في القبيلة ، وتمزيقه بقانون المناطق المقفولة ، وتخديره بتوظيف بعض المنتفعين وتسليطهم كزعامات عليه ، كل ذلك ، والمخدّر الأكبر عبر البيوتات المعروفة التي تهيمن على الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، فجاء مؤتمر الخريجين ليكون الساحة التي يلتقي فيها الروّاد والمثقفين ، والبرلمان الذي يعالج قضايا الاستقلال والحريّة بكفاح سياسي مدرّب حذق وشجاع .. وصاحب الفكرة هو أستاذنا الكبير عليه رحمة الله ، وهو صاحب فكرة يوم التعليم ، الذي تفاجأ الإنجليز به ، حيث انخرط الشعب في تبرعات سخيّة تدفقت في خزينة مؤتمر الخريجين لتدر المال للحكومة الشعبيّة الجديدة ، ولينخرط الخريجون في نشر العلم بين الأهالي ، وحدثت المعجزات حيث أنشئت المدارس من تلك التبرعات ، وقد تغنى به وله الشاعر الكبير محمّد سعيد العباسي في قصيدته المشهورة ( مالي وللخمر رقّ الكأس أو راقا * وللصبابة تصلي القلب إحراقا ) والتي قال فيها (فعلموا النشء علماً يستبين به سبل الحياة * وقبل العلم أخلاقا ).. وغير ذلك  ، للأستاذ الراحل أفكاراً وأعمالاً كبيرة في عمليّة بناء الاستقلال وتشييد صرحه ، وقد لفت انتباهي ، وأنا أعيد قراءة كتابه (كفاح جيل) في طبعته الثانية التي قدّم لها دكتور مدثر عبد الرحيم وصدرت في مطلع السبعينيات ، أنّ ملكة أحمد خير الفكريّة كانت طاغية بشكل كبير من خلال ثقافته ومن خلال أسلوبه في التأليف ، وهو إلى حد كبير ً يشابه أسلوب دكتور حسن الترابي ، من حيث كثافة الفكرة وتلاطم أمواجها  ، والكتابة بالأسلوب المتجرّد (الموضوعي) سوى أنّ الأخير في تقديري متفوّق بمراحل بعيدة ، كما هو معروف عنه ، وهي ملكات وهبها الله له .. وفي تقديري لو أنّ أستاذ الجيل عكف على التأليف لفعل شيئاً عجبا ، وقد كان لكتابه (كفاح جيل) دوي هائل إذ نفدت طبعته الأولى الصادرة عن مطبعة دار الشرق بالقاهرة عام 1948م ، فقد كان الكتاب رائجاً بين الدارسين المتخصصين يستشهدون به في دراساتهم وبحوثهم ، كما كان مشهوراً بين العامة ، يتناقلونه في مجالسهم برغم ندرته حيث نفد  في وقتٍ مبكّر بعد نزوله للأسواق .. وبرغم ذلك ، فالكتاب في تقديري يحتاج لتحقيق وشرح ، فالراحل كان عفيفاً لا يذكر الأسماء خوفاً من أن تنسحب المواقف المخزية على بعضهم أو تشملهم الرؤى النقديّة الكثيفة التي تنتشر في سطور الكتاب ، كما فعل المؤلف أيضاً مع الآخرين الذين قاموا ببطولات أو صنعوا مواقف شجاعة مشرّفة ، وقف من الجميع بمسافة واحدة ، غير ذلك ، فأسلوبه المتجرّد زاد عليه صياغته الإجماليّة ، فكثير من المواقف التي يحتويها الكتاب ، أتت مجملة ، لا يعطيها المؤلف دفقة من عاطفة النص ، أو ما يسمى ب(حميميّة النص) ، التي تتأتى دائماً مع التصوير والتفصيل ، وإن كان المؤلف يستخدم التصوير أحياناً كثيرة ، ولكن يأتي دائماً تبعاً لتعميماته ، لا لمزيد من الشرح ، غير ذلك ، هناك السرد المتماسك ، وهو أسلوب جميل متبوع في ذلك العصر الذهبي ، غير أنّنا هنا ، في مقام تدوين التاريخ ، نحتاج لذكر الشواهد مفصّلة ولذكر الأحداث مفصّلة ، وذلك باستخدام أدوات الترقيم ، وبرغم أنّ أستاذنا كتبت كتابه في فصول ، ولكن كأنّه مقالة واحدة متماسكة.. غير هذا أيضاً ، فإنّ الكتاب يكاد يخلو من الهوامش والتزييل ، إلا قليلا ، وهي مسألة متصلة بسابقتها ، مسألة (الإجمال) فالهوامش والتزييل تعطي المؤلف فرصة ليشرح خارج السياق المتماسك للنص ، وأن يحيل القارىء لتفاصيل يرفضها البناء المجمل للنص ، ولكن أستاذنا ـ مثله دكتور الترابي ـ لم يفعل ذلك ، وكل هذا ـ في تقديري ـ أوصلنا الكتاب ناقصاً ، فالأفكار والمواقف التي احتشدت فيه ، تملأ مجلدين أو ثلاثة ، والتفاصيل التي غابت عنّا ، لا غنى لنا ولا للتاريخ عنها ، وليسمح لي المقام بترشيح أستاذين جليلين للقيام بهذه المهمّة (الشرح والتحقيق) هما الدكتور قاسم عثمان نور والدكتور عبد الله حمدنا الله ، فكلاهما مطّلع على خفايا تلك الحقبة وكلاهما أداته في التحقيق بارعة ، وكلاهما أمين تخلو ساحته الأكاديميّة من الغرض ، وأتمنى أن ينجزا هذا العمل المهم ، وأرجو ممّن يقرأ هذا المقال الآن ، وله صلة بأحدهما ، أن يعطيه نسخة منه ، عسى ألا يكون استنجادي بهما نفخة في قرب مثقوب. أمّا بعد ، فإنّ قضيّة هزال الأحزاب وضعفها ـ وفشلها تبعاً لذلك ـ قد أخذت مني وقتاً طويلاً ، فكتبت فيها ربما ما يفوق الأربعين مقالاً ، وهي قضيّة تستحق ، لأنّ حياتنا السياسيّة مبنيّة على أحزاب ضعيفة هزيلة ، وفي معظمها نجد قوامها الفكري مهزوز وباهت ، بل غير موجود أصلاً ، ومنهجها (الشوري) (الديمقراطي) معطوب ، وأسلوبها الكيدي قديم متجذّر ، وهذا ما دعاني لمعاودة كتاب كفاح جيل ، لأرى جذور هذه العلل ، وإن كان الكتاب في معظمه يتحدّث عن أجواء ما قبل وما بعد مؤتمر الخريجين ، وشيء يسير من تفاصيل تلك البيئة وأحداثها ، إلا أنّه أوقفنا لنشاهد ونلمس جذور الفشل السياسي التي لازمت البلاد كل هذه الحقب ، ويكفيك بيت العباسي في القصيدة المشار إليها قبل قليل ، فقد كره الأحزاب وهي لمّا تزال وليدة !! فقال في العشرينيات من القرن الماضي !! ( إنّ التحزب سمُ  فاجعلوا أبداً يا قومي لهذا السم ترياقا )   . ونواصل

 

آراء