هل الأخلاق قبل كل شيء؟ (1-2) .. لماذا قلما تتوافق القيم والمصالح الوطنية؟

 


 

 

ميشائيل لودرز Michael Lüders
تقديم وعرض حامد فضل الله \ برلين

صدر عن دار فيلهم قولدمان الألمانية للنشر هذا العام ــ 2023 ــ كتاب بالعنوان أعلاه للكاتب والباحث الدكتور ميشائيل لودرز. والكتاب من الحجم المتوسط ويضم 254 صفحة ــ ويحتوي بجانب المقدمة والهوامش على ثمانية فصول.
تسبق المقدمة استِشهادات تُدعم آراء وتحليلات الكاتب في المتن نذكر منها:
ــ. عندما يبدأ السياسي بالتبجح بالقيم، بدلا من أن يفصح علنا عن مصالحه، يكون قد حان الوقت لمغادرة القاعة.
إيجون بار(Egon Bahr)(2015 ــ 1922) أحد قادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وأحد مهندسي ما عرف في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بسياسة الشرق، (Ostpolitik ).
ــ كان نجاحي الخاص هو مساهمتي بإمكانية ذكر وبنفس واحد، اسم بلدنا ومفهوم السلام مرة أخرى.
فيلي براندت، 1988 ــ المستشار الألماني الأسبق
ــ تقول السياسة: كونوا أذكياءً مثل الأفاعي وأما الأخلاق فتزيد بالقول ولكن مثل الحمام مستقيماً".
الفيلسوف الألماني، إيمانويل كًنْت
يقول الكاتب في المقدمة، " الأخلاق هي سيف اللاعقلانية، التي تقسم العالم إلى خير وشر. ــ وهذا الكتاب لا يدور بشكل مباشر حول الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك فأنها تمتد مثل وشيجة أساس عبر جميع الفصول تقريباً ــ ويرجع ذلك أساساً ، إلى تداعيات العقوبات الغربية ضد روسيا، والتي لا تلحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد في ألمانيا فحسب، بل تجلب لهذا البلد خسارة للازدهار لم تشهدها منذ عام 1949، مصحوبة بتراجع سريع للتصنيع، ويكشف علاوة على ذلك، عن الخطوط العريضة الأولى لنظام عالمي جديد ، لم تعد تتحكم به الولايات المتحدة أو الغرب بصورة عامة لوحده. فالرابح الأول لـ "زمن التحول" الذي افترضه، كجيوسياسية، المستشار الألماني شولتز بعد بدء الحرب، هي الصين.

ويواصل "لقد فُرضت العقوبات الغربية على موسكو، مباشرة بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا. فهذا من ناحية، أمر مفهوم – فأن الاخذ علما بالهجوم فقط، الذي انتهك القانون الدولي، ما كان يمكن أن يكون البديل. لكن ما الذي كانت تحاول العقوبات تحقيقه بالضبط؟ وبحسب قول وزيرة الخارجية بربوك، كان الهدف "تدمير روسيا"، كما تسعى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين "إلى هدم القاعدة الصناعية لروسيا تدريجياً"، وتحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن عن "تحطيم الاقتصاد الروسي".
كلمات عظيمة، تصل إلى ما هو أبعد من أوكرانيا، ويشعر بعواقبها منذ زمن طويل كل فرد. والأكثر وضوحاً في شكل تضخم مرتفع ومستمر، الى جانب تفشي الدين العام وهشاشة إمدادات الطاقة.
يجب على الذي يسعى إلى معاقبة روسيا بشكل دائم، أن يطرح سؤالاً بديهياً: هل يمكن أن تركع اقتصادياً أكبر دولة في العالم، وأحد أهم موردي الطاقة ؟ الجواب الموضوعي هو: لا. ليس فقط لأن الجنوب العالمي، باستثناء عدد قليل من الدول الموالية للغرب، لا يشارك في العقوبات، لهذا ليس من المستغرب أن تصيب عواقب إجراءات المقاطعة ألمانيا أكثر من أي دولة غربية أخرى، وكما يبدو، أكثر من روسيا نفسها"
ويواصل "الكل مرتبط ببعضه البعض، وبالتالي، يمتد هذا الكتاب عبر قوس واسع جغرافيا من المانيا إلى تايوان. ويطرح أسئلة ما يتم تجاهلها غالباً: لماذا لا يشارك الجنوب العالمي في العقوبات المفروضة على روسيا؟ وما هي الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة في أوكرانيا نحو روسيا؟ وهل سيستقر العالم في المستقبل، أم أن الصراع الرئيس التالي يلوح في الأفق بالفعل، بين واشنطن وبكين"؟
"وعطفا على كل من يكتسب انطباعاً أثناء القراءة، بأن هناك فجوة كبيرة بين التصوير السياسي ـ الإعلامي للأحداث العالمية وما يحدث بالفعل ــ وغالباً خلف الكواليس ــ فهو ليس مخطئاً".
جاءت كلمة الأخلاق في عنوان الكتاب، والأطروحة الرئيسية للكتاب هي أن الدول الغربية تستخدم الأخلاق كمبدأ للسياسة وكمبرر للقرارات السياسية، وكهدف لشيطنة العدو. ويعود بنا الكاتب في هذه النقطة إلى التاريخ، بقوله:
"كانت السياسة قبل عصر الحداثة، مرتبطة بالدين والأخلاق. ولكن مع بداية العصر الحديث، الذي أسسته الرأسمالية المبكرة، واكتشاف كولومبوس لأمريكا، حدث الفصل التدريجي للسياسة عن الأخلاق في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكان هذا بدوره شرطاً أساسياً لبناء الدولة الحديثة، التي بدأت في تحرير نفسها من الدين، ونبذت الخير والشر، ووضعت بدلاً من ذلك مصلحة الدولة فوق الفضيلة".
وباعث هذا الفكر الجديد السياسي والفيلسوف (1469-1527). Niccolò Machiavelli
ويصف ميكيافلي في كتابه الموسوم "الأمير" الصادر عام 1513 ، وهو أول عمل للفلسفة السياسية في التاريخ، القواعد الأساسية لسياسة الدولة، الخالية من الأفكار الأخلاقية والدينية. ….
ويقدم لودرز بدوره نقداً، للأخلاقيات السائدة اليوم في اتخاذ القرارات السياسية. ويشير إلى التناقضات والمخاطر التي تنطوي على ما يسمى بالسياسة الخارجية القائمة على القيم ويدعو إلى العودة إلى الواقعية السياسية والاِدراك الذاتي للمصالح الوطنية ، مضيفاً، "من وجهة نظر ميكيافلي"، فإن الرد الغربي على "الحرب العدوانية التي تقودها روسيا في أوكرانيا" لن يكون أكثر من مجرد حماقة غير مسؤولة، لأنه يلحق الضرر بأسس الدولة والمصالح العامة.
ويكتب لودرز في هذا السياق:
"نميل نحن في ألمانيا، إلى الاِنبهار ببلاغتنا الذاتية. نحن الأخيار، وننقذ العالم، وننقذ المناخ، وننقذ أوكرانيا. ونقف إلى جانب الولايات المتحدة من أجل حرية تايوان. يستطيع المرء أن يفعل كل شيء. ولكن بدأ الآن الاقتصاد في التراجع. و تسارعت وتيرة تراجع التصنيع، ولا تبدو التوقعات بالنسبة للاقتصاد الألماني في السنوات القليلة المقبلة جيدة."
ويشير الكاتب في هذا السياق إلى الأغنية، في المسرحية الشهيرة "اوبرا البنسات الثلاثة" لبرتولد برشت،
:" يأتي الطعام أولاً ثم الأخلاق". Bertolt Brecht
وعن دور الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية:
"تسعى الولايات المتحدة لتحقيق ثلاثة أهداف في أوكرانيا. 1 ــ إضعاف روسيا اقتصادياً وعسكرياً وجيوستراتيجياً وبشكل شامل ودائم. 2 ــ تأسيس نظام، لحاكم موثوق به في العاصمة الأوكرانية "كييف" يتبع وينفذ التصورات الأمريكية. 3 ــ ربط أوروبا ربطاً وثيقاً، اقتصادياً، من خلال إمدادات الطاقة، وعسكرياً، من خلال الناتو، لتعميق التبعية الحالية وكسب الاتحاد الأوروبي - بالأخص في الصراع المقبل مع الصين. ونشير في هذا الصدد إلى الفقرة التالية من الكتاب، المتعلقة بغزو روسيا لأوكرانيا وعن أهمية شبه جزيرة القرم لموسكو:
"من الناحية الجيوستراتيجية، فإن أوكرانيا، التي مرت عبر أراضيها قوات نابليون وقوات هتلر، ذات أهمية قصوى بسبب موقعِها الحساس. وإذا أصبحت جزءاً من حلف شمال الأطلسي، فإن الغرب سيحكم السيطرة عليها، وبهذا تقع الحدود الجنوبية الغربية لروسيا، التي يبلغ طولها حوالي 2000 كيلومتر تحت رحمة الولايات المتحدة، وعند اذن سيكون من الصعوبة على موسكو الدفاع عنها، وستتاح الفرصة للدول الغربية لاستخدام القواعد العسكرية المتقدمة لتحجيم النفوذ الروسي في منطقة البحر الأسود حتى آسيا الوسطى، لهذا تمثل الأهمية الاستراتيجية لشبه جزيرة القرم، الدافع الحقيقي لاحتلالها من قبل موسكو، والتي كانت هذه حتى عام 1954 تابعة لروسيا. ويتمركز في شبه جزيرة القرم، في Sewastopol ، أسطول البحر الأسود الروسي، على أساس اتفاق خاص أبرم مع أوكرانيا في عام 1997، والذي كان سوف ينتهى في عام 2017، ومن المؤكد تقريباً أنه ما كان سيتم تمديده من قبل أي حكومة موالية للغرب في كييف. فأن من يسيطر على شبه جزيرة القرم يسيطر على البحر الأسود ويسيطر بشكل غير مباشر على مداخل البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور".
"إن الحرب التي تخوضها روسيا منذ فبراير/ شباط 2022 تضع سيادة أوكرانيا موضع شك. تم احتلال أو ضم الأجزاء الشرقية من البلاد، وفرار الملايين من الأوكرانيين. لقد اتحدت قطاعات كبيرة من السكان، وليس فقط في ألمانيا، في إدانتها لهذه الإمبريالية الروسية الجديدة. لقد وجد أكثر من مليون لاجئ أوكراني ملجأ في هذا البلد، والتضامن الذي أظهروه كان ولا يزال كبيراً".
فكيف نتعامل مع هذه الاستباحة من جانب موسكو، التي تنتهك القانون الدولي؟ جاء الجواب في العواصم الغربية بأغلبية ساحقة: الانفصال الكامل عن روسيا على جميع المستويات، السياسية والاقتصادية والثقافية أيضاً.
دفعت القناعات الأخلاقية إلى جانب سياسات القوة، واشنطن وبروكسل وكذلك برلين، إلى فرض عقوبات شاملة على روسيا، كما هو مذكور سابقاً، وتزويد أوكرانيا بالمزيد والمزيد من أسلحة الدفاع لاستعادة الأراضي المحتلة أو التي تم ضمها. قد تكون هناك أسباب وجيهة لذلك، ولكن هناك فرق بين التضامن وتدمير الذات. أن العقوبات المفروضة على روسيا تهدد بدون "إنهاء الحرب"، الازدهار، ليس فقط في أوروبا. ولن يغير من ذلك إمداد الأسلحة الثقيلة، طالما أنها ليست مصحوبة بوقف إطلاق النار أو مفاوضات السلام، وأيضاً من عدم الدعوة بصوت عالٍ لتغيير النظام في موسكو.
"إن غزو أوكرانيا ليس غير واقعي ومثير للشكوك فحسب، بل إنه مثقل بالرمزية أيضاً. يسعى الخير المطلق، الذي يجسده الغرب، إلى تحرير نفسه من الشر المطلق: أولاً من روسيا، ثم من الصين".
"يسير لسوء الحظ، في معظم الحالات، تعظيم الذات الأخلاقية جنباً إلى جنب مع إنكار الواقع والنفاق، وانتقائية مفرطة للعدالة، وهذا ما تؤكده الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا.
وهذا هو بالضبط السبب الذي يجعل تسيس الأخلاق وإضفاء الطابع الأخلاقي على السياسة موضع شك كبير".
"ومع ذلك، يجب على أي شخص يدعو إلى فرض عقوبات على روسيا أن يسأل نفسه بصدق لماذا لم يتم فرض إجراءات مقاطعة مماثلة على الولايات المتحدة. وكان من الممكن أن يكون ذلك منطقياً، على سبيل المثال في حرب فيتنام أو العراق. ولم يكن كلاهما اكثر شرعية و أقل انعدام ضمير من الوضع الحالي في أوكرانيا. وهناك بطبيعة الحال، العديد من الأسباب الوجيهة لإدانة الرئيس الروسي. ولكن لماذا تنطبق عليه معايير مختلفة عن تلك التي تنطبق على الممثلين الغربيين؟ لماذا يسعى صناع القرار في الغرب إلى توجيه الاتهام إلى فلاديمير بوتن أمام محكمة جنائية دولية، ولكن ليس جورج دبليو بوش أو توني بلير، العقلين المدبرين وراء حرب العراق، التي قامت على الأكاذيب والتلاعب"؟

hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء