هل الاتفاق الإطاري هو القشة التي قصمت ظهر البعير؟ التاريخ والادعاء

 


 

 

ahmedabushouk62@hotmail.com

(1)
بعد اندلاع المواجهة المسلحة بين قوات الشعب المسلحة (الجيش) وقوات الدعم السريع، شاهدتُ في كثيرٍ من القنوات الفضائية أن بعض المعلقين السياسيين و"الخبراء العسكريين الاستراتيجيين" يعزون اندلاع المواجهة المسلحة الدائرة الآن في السودان إلى الاصطفاف السياسي والعسكري، الذي أحدثه الاتفاق الإطاري، الذي حظي بتأييد القوى السياسية المدنية والعسكرية الموقعة عليه، وواجه معارضة طيفٍ واسعٍ من القوى السياسية المدنية وبعض المجموعات داخل المنظومة الدفاعية (الجيش، والشرطة، والأمن). لكن الادعاء بأن الاتفاق الإطاري هو السبب الرئيس وراء اندلاع المواجهات المسلحة ادعاء مقصود لذاته لتمرير بعض الأجندة السياسية، ويفتقر لاصطحاب العمق التاريخي للمشكلة، والذي يتمثل في النقاط الآتية:
أولاً، تشكلت قوات الدعم السريع من مليشيات الجنجويد التي استخدمها نظام الإنقاذ لتقاتل الحركات المسلحة في دارفور، وبلغ تعدادها آنذاك نحو 30 ألف مقاتل. وأضفى الرئيس البشير عليها نوعاً من الشرعية عندما أصدر مرسومًا رئاسيًا في 2013 بتسمية تلك المليشيات القبلية بقوات الدعم السريع، أوكل تبعيتها لجهاز الأمن والمخابرات الوطني. وفي جلسة المجلس الوطني رقم (43) التي عُقدت بتاريخ 18 يناير 2017، أُجيز قانون قوات الدعم السريع بأغلبية ساحقة، وبموجب ذلك أضحت قوات الدعم السريع قوات عسكرية قومية التكوين، تعمل تحت إمرة القائد العام، وتهدف لإعلاء قيم الولاء لله والوطن، وتتقيد بالمبادئ العامة للقوات المسلحة السودانية (حسب نص القانون). وجعل هذا القانون تبعيتها الإدارية إلى القائد الأعلى للقوات المسلَّحة (رئيس الجمهورية)، وليس إلى وزير الدفاع المنوط به الإشراف على قوات الشعب المسلحة (الجيش النظامي). وفي ظل هذه التحولات القانونية منح الرئيس البشير " المقاتل الجنجويدي" محمد حمدان دقلو (حميدتي) رتبة فريق دون أي مؤهلات عسكرية-مهنية، وعينه قائداً لقوات الدعم السريع. وخصصت حكومة الانقاذ لقوات الدعم السريع بنداً منفصلاً في موازنة 2018، التي تقرأ مفرداتها هكذا: 23 مليارًا و888 مليون جنيه لقطاع الأمن والدفاع، و4 مليارات و170 مليون جنيه لقوات الدعم السريع، و10 مليارات و705 ملايين لبند أمني مستحدث، أُطلق عليه بند النظام العام وشؤون السلامة. وفي المقابل، خصصت الموازنة مليارين و942 مليونًا لقطاع الصحة، و5 مليارات و326 مليون جنيه لقطاع التعليم. كما حصلت الحكومة الاتحادية (أو المركز) على 72 في المئة من مصروفات الموازنة العامَّة، في مقابل 28 في المئة لمصروفات الولايات. إذن بعض الذين يعارضون وجود قوات الدعم السريع اليوم لم تكن معارضتهم معارضة مبدئية، بل معارضة اقتضتها ظروف الكسب السياسي والصراع الذي أعقب إسقاط البشير في 11 أبريل 2019.
ثانياً، بعد نجاح ثورة ديسمبر 2018 واستقالة الفريق أول عوض بن عوف وتعيين الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيساً للمجلس العسكري تمَّ تعيين الفريق أول محمد حمدان دقلو نائباً لرئيس المجلس العسكري، ولاحقاً نائباً لرئيس المجلس السيادي دون وجود أي نص ٍلهذا المنصب في الوثيقة الدستورية (2019)؛ لأن البرهان كان يعتقد أن وجود حميدتي في هذا المنصب سيوفر له الحماية العسكرية، ويساعده في تمرير أجندته السياسية في مواجهة القوى الثورية المنتفضة آنذاك. والغريب في الأمر أن قوى إعلان الحرية والتغيير قد غضت الطرف عن هذا التجاوز الدستوري، وقَبِلت بوضعية حميدتي في المجلس السيادي. ويبدو أن قوى إعلان الحرية والتغيير كانت تعتقد أن وجود حميدتي في المجلس السيادي سيكون بمثابة حائط صد في مواجهة الثورة المضادة التي يقودها أنصار نظام الإنقاذ.
ثالثاً، في مفاوضات جوبا عين الرئيس البرهان الفريق أول محمد حمدان دقلو رئيساً لوفد الحكومة المفاوض مع الحركات المسلحة في مدينة جوبا. ونتيجة للتهميش الذي واجهه أعضاء تحالف الجبهة الثورية، حسب زعمهم، من قوى إعلان الحرية والتغيير (المركزية) قبلوا رئاسة الفريق حميدتي الذي كان عدوهم اللدود بالأمس القريب، مع العلم بأن الوثيقة الدستورية تنصُّ على تبعية إدارة ملف مفاوضات السلام للسلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، التي تنازلت عن إدارته بطيب خاطر يماس الغشامة. وفي ظل هذه التركيبة الثنائية اُنجز اتفاق جوبا لسلام السودان في 3 أكتوبر 2020، وبموجب ذلك أصبحت الجبهة الثورية (أو أطراف سلام جوبا) شريكاً ثالثاً في الحكومة الانتقالية، التي كانت تقوم على شراكة ثنائية بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري. وفي هذه الأثناء ضعفت قوى إعلان الحرية والتغيير، وانفض من حولها عدد من المناصرين الأوائل، وبدأ صراع خفي بينها وبين الجبهة الثورية من طرفٍ، وبينها وبين المكون العسكري من طرفٍ ثانٍ، وأخيراً أفضى هذا الصراع إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي وصفه الفريق البرهان "بتصحيح مسار الثورة"، وبموجبه عطَّل بعض بنود الوثيقة الدستورية، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد، وجمَّد أعمال لجنة إزالة التمكين وأعاد النظر في بعض قراراتها، وأقال شاغلي المناصب الدستورية، عدا الموقعين على اتفاق جوبا لسلام السودان، ووعد المواطنين السودانيين بقوله: "سنعمل جميعاً وحتى قيام الانتخابات في يوليو 2023، على تحسين معاش الناس، وتوفير الأمن والطمأنينة، وتهيئة المناخ للأحزاب للعمل للوصول لموعد الانتخابات وهي أكثر جاهزية، كما وعدهم بتشكل "حكومة كفاءات وطنية مستقلة يراعى في تشكيلها التمثيل العادل لكل أطياف السودان، وتحقيق مطلوبات العدالة والانتقال الديمقراطي". لكن إلى تاريخ اندلاع المواجهة العسكرية لم ينجز الفريق البرهان أي من الوعود التي قطعها على نفسه، بل أضحى المشهد السياسي والوضع الاقتصادي أكثر تعقيداً مما كان عليه.
رابعاً، نتيجة لانسداد الأفق السياسي شهدت الساحة السياسية العديد من الوساطات الداخلية والخارجية والمبادرات المثقلة بانتماءاتها الحزبية، وانقسم الشارع السياسي بين قوى "التغيير الجذري" التي يقودها الحزب الشيوعي السوداني وبعضاً من لجان المقاومة، وقوى "الإصلاح السياسي" بألوان طيفها المختلفة. وكان آخر المحاولات الاتفاق الإطاري، الذي وقع عليه المكون العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير (المركزية) وبعض الأحزاب المساندة لها في 5 ديسمبر 2022، فضلاً تجاوب اللجنة الرباعية والوساطة الثلاثية مع الاتفاق الإطاري. ونظمت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري سلسلة من ورش العمل التفاكرية، كان الهدف منها تحويل الاتفاق الإطاري إلى اتفاق سياسي، ثم تشكيل حكومة انتقالية مدنية، بعد خروج المكون العسكري من المعادلة السياسية.

(2)
لكن الذين عارضوا الاتفاق الإطاري انطلقت معارضتهم من خمسة مواقف سياسية تصب في أوعية مصالحهم القطاعية (الحزبية) والشخصية على حساب المصلحة العامة:
أولاً، عارضته قوى التغيير الجذري؛ لأنها رفعت شعار لا تفاوض ولا شرعية ولا مساومة مع الانقلابيين، وبناءً على ذلك شككت في جدوى التفاوض مع المكون العسكري، وفضَّلت الاحتكام إلى تدافع الشارع ضد الانقلابيين وأنصارهم، اعتقاداً منها بأن انتصار الشارع سيحقق لها كسباً سياسياً، دون التأكد من توفر الأدوات التي يمكن أن تنجز هذا الكسب المرتجى.
ثانياً، عارضته قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية من ناحية إجرائية، متعللة بأن الحرية والتغيير –المركزية التي تقف خلف الاتفاق لا تمثل صوت الشارع السوداني، وإن التوقيع على الاتفاق السياسي، المتوقع انبثاقه من الاتفاق الإطاري والدستور المصاحب له، يجب أن يطرح لنقاشٍ مفتوحٍ، يشمل كل الفاعلين السياسيين. وبعد إجازته يجب أن توقع عليه كل أطراف الحرية والتغيير –الكتلة الديمقراطية والقوى الأخرى المشاركة؛ إلا قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي) لم تتجاوب مع هذا الاقتراح، الأمر الذي جعلها تقف في مفترق طرق مع الكتلة الديمقراطية والمعارضين للاتفاق. وكانت الكتلة الديمقراطية تعتقد أن التوقيع الفردي سيرجَّح كفتها في المحاصصة السياسية التي ربما تفضي إلى تشكيل النسخة الثالثة من الحكومة الانتقالية.
ثالثاً، عارضته جبهة نداء السودان والقوى المساندة للنظام القديم من ناحية إجرائية؛ لأنها وصفت الاتفاق الإطاري بأنه "اقصائي" ومستورد من "الخارج". لكن الرفض الحقيقي غير المعلن والمحرك لرغباتها السياسية ناتج من البنود الحساسة التي شملها الاتفاق، والتي لا تصب في مصلحة أنصار النظام القديم ومستقبلهم السياسي. ونذكر منها البند الخاص بتنقية "الجيش من أي وجود سياسي حزبي"، ولا شك في أن المستهدفين بالتنقية هم الانقاذيون، الذين يسيطرون على مفاصل الأجهزة الأمنية والسيادية. وجاء البند الثاني معضداً للبند الأول؛ وناصاً على "إزالة تمكين نظام 30 يونيو 89، وتفكيك مفاصله في كافة مؤسسات الدولة، واسترداد الأموال والأصول المتحصل عليها بطرق غير مشروعة، ومراجعة القرارات التي بموجبها تمَّ إلغاء قرارات لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989."
رابعاً، عارض الاتفاق الإطاري مجموعات من المنظومة الدفاعية (الجيش والأمن)؛ لأن فيه مساس بمصالحها المكتسبة من النظام القديم، وذلك حسب نص البند الذي يحظر "مزاولة القوات النظامية للأعمال الاستثمارية والتجارية، ما عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية وفقاً للسياسة التي تضعها الحكومة الانتقالية، وتؤول لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي جميع الشركات الحكومية والمملوكة للقوات النظامية المختلفة وجهاز المخابرات، والتي تعمل في قطاعات مدنية، وتخضع بقية الشركات المملوكة للقوات والنظامية التي تعمل في قطاعات عسكرية وأمنية لإشراف وسلطة ورقابة وزارة المالية في الجوانب المالية والمحاسبية لسلطة ديوان المراجعة القومي." فضلاً عن ذلك يوجد في الاتفاق نصوص غير واضحة بشأن دمج قوات الدعم السريع في الجيش، مثل نصّ "دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وفق الجداول الزمنية المتفق عليها"، إذاً ما الفترة المتفق عليها؟ وفي موضع آخر ينص الاتفاق على تبعية قوات الدعم السريع أثناء فترة الدمج، التي لم يحدد لها سقف زمني، إلى "رأس الدولة المدني" الذي يكون قائداً أعلى لقوات الدعم السريع".
خامساً، في ضوء هذه المعطيات يبقى السؤال المحوري: لماذا ساند البرهان وحميدتي الاتفاق الإطاري؟ ساند البرهان الاتفاق الإطاري ليلعب على عنصر الزمن، الذي يمكنه من إحكام قبضته على المشهد السياسي والعسكري في خاتمة المطاف، ولذلك بدأ يروج للبند الخاص بــ "دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة"، وذكر في أكثر من لقاءٍ عامٍ بأن هذا البند هو البند الوحيد الذي يهمه في الاتفاق الإطاري. ويبدو أن حميدتي بدأ ينزعج من تصريحات البرهان وتهديداته المبطنة، ولذلك أبدى نوعاً من التقارب مع قوى إعلان الحرية التغيير (المجلس المركزي)، ظاناً أن مساندة قوى الحرية والتغيير والوسطاء الدوليين والإقليميين ستلمعه سياسياً وتمكنه من إقصاء البرهان من المشهد السياسي والعسكري وفقاً لنصوص الاتفاق الإطاري؛ لأن الاتفاق لم يحدد فترة زمنية لدمج قوات الدعم السريع، كما أنه أتبع قيادة قوات الدعم السريع إلى رأس الدولة المدني، الذي لم يتم اختياره بعد. ومن زاوية أخرى، افتكرت قوى إعلان الحرية والتغيير (المركزية) خطاءً أن مساندة الفريق حميدتي ستمكنها من تحقيق رغباتها السياسية بإبعاد الجيش من المعادلة السياسية وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989، وتشكل في الوقت نفسه ترياقاً لها ضد الثورة المضادة لأنصار النظام القديم، الذين يساندون الفريق البرهان في الخفاء والعلن، تحقيق مكاسبهم السياسية في المقام الأول.

(3)
خاتمة
يستند التحليل الموضوعي لاندلاع هذه المواجهة العسكرية في المقام الأول إلى تناقض المصالح القطاعية بين القوى السياسية والعسكرية الفاعلة في المشهد السياسي، الذي جعل الاتفاق الإطاري بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير"؛ لأن المحرك الأساس وراء هذه الأزمة في المقام الأول هو النزاع الوجودي بين القوى السياسية والعسكرية المتصارعة، والذي تغذيه بعض المصالح الشخصية بعيداً عن هموم المصلحة الوطنية، ويترتب على ذلك إثقال كاهل المواطن المسكين "محمد أحمد". إذن ما السيناريوهات المتوقعة من هذه الحرب التي تحركها المصالح الحزبية والذاتية؟ يتمثل السيناريو الأول في إضعاف قوات الدعم السريع والتخلص من قياداتها العليا، ثم دمجها ودمج قوات الكفاح المسلحة الأخرى في جيش واحدٍ، وتشكيل حكومة أمرٍ واقعٍ تحت إشراف القوات المسلحة، بمهام محدودة تتمثل في إصلاح ما دمرته الحرب وتجهيز الساحة السياسية والدعوة إلى إجراء انتخابات عامة؛ لكسب المساندة الخارجية، دون اهتمامٍ كبيرٍ بما تفرزه مثل هذه الانتخابات. وربما تدفع هذه الخطوة قوى ثورة ديسمبر إلى إعادة ترتيب تحالفاتهم السابقة مرة أخرى ومواصلة النضال ضد الحكومة التي يفرزها هذا السيناريو. ويتجسد السيناريو الثاني في كسر شوكة قوات الدعم السريع وإعادة النظر في الاتفاق الإطاري وتوسيع دائرة المشاركة لصوغ الاتفاق السياسي الذي سينتج عنه، ثم تشكيل حكومة توافقية من المناصرين للقوات المسلحة والاتفاق الإطاري، تُحصر مهامها في إجراء الانتخابات العامة. ولا جدال في أن هذا السيناريو الثاني سيواجه معارضة من دعاة التحول الديمقراطي والتغيير الجذري، وتحقيق أي من السيناريوين سيعتمد في الأساس على قوة دفع التفوق العسكري، الذي ستحرزه قوات الشعب المسلحة على قوات الدعم السريع. أما السيناريو الأخير فيتمثل في إيقاف الحرب فوراً، والدخول في تفاوض بين طرفي الصراع، فاستمرار العملية السياسية في ظل تفاوضٍ مثل هذا ربما يقتضي الأمر أبعاد الفريقين المتشاكسين (البرهان وحميدتي) من المعادلة السياسية، وإفساح المجال لانقلاب عسكري مبطنٍ لمصلحة أنصار النظام القديم، الذين أداروا هذه المعركة بالريموت كونترول (Remote Control).

 

آراء