هل حقا ان هذا الجيش هو جيش السودان؟ (1)
السنوسي أبو الوليد
1 March, 2023
1 March, 2023
sanous@yahoo.com
21 فبراير 2023
1- المقدمة ومشاهد تذهب العقل
هنالك بعض من احداث وتجارب الحياة تبقي بذاكرة الانسان لمدة طويلة وقد تصل معه الى نهاية حياته، ان لم يصب بمرض فقدان الذاكرة او مرض الزهايمر قبل ذلك. فكلما كان الحدث اكثر اثرا على جسد او نفس او وجدان الانسان، كلما بقى ذلك الحدث حيا في ذاكرة من الم به او شاهدة. انا شاهدت حادثا عام 1982م لن انساه ابدا ، ما حييت ، وبدل في نفسي ما اراه في بعض شرائح الشعب السوداني وتسبب في تكويني لرؤيا خاصة بي فيما يتعلق بالصراعات العسكرية و السياسية في السودان. نهاية العام 1982م كنت طالبا ببداية السنة الثانية بالجامعة وكنت في إجازة ما وسافرت من الخرطوم الى بلدتي في غرب مدينة نيالا بجنوب دارفور وهممت بالعودة الى الخرطوم. السفر من نيالا الى الخرطوم ، او عكس ذلك ، كان يتم بالقطار وكانت الجامعة تمنحنا تصاريح سفر من الدرجة الثانية الممتازة و يمكن للراغب و المستطيع دفع الفرق والركوب بالدرجة الاولي. مدة الرحلة من نيالا الى الخرطوم او من الخرطوم الى نيالا عادة ما تستغرق ثلاثة أيام. هذه المدة تزيد الى أسبوع او أسبوعين ، واحيانا شهرا كاملا ، اذا ما كان وقت السفر خريفا و حدثت قطوعات للسكك الحديدية و بالتحديد في شرق دارفور و إقليم كردفان وقتها ، كلما طالت مدة الرحلة ، و كلما كثرت المشاكل بين ركاب القطار انفسهم و حوادث الموت و النشل و ما في حكمها. تحركنا من مدينة نيالا وكان عدد المقطورات من حاملات او عربات الركاب وعربات البضائع كبيرا . كنت كالعادة بالدرجة الثانية و كنا حوالي 12 راكبا بالقمرة التي صممت لثمانية ركاب فقط. كانت عربتا ملتحمة بعربة اخري للدرجة الاولي و التي لم تكن مزدحمة ، و قطار نيالا كالعادة ، 50% من الركاب فقط من بداخله و الباقي هم على سطحه . تلصصت وعرفت سبب قلة الركاب في الدرجة الاولي ، الملاصقة لعربتنا . الدرجة الاولي كان بها ضابط جيش كبير جدا بمعايير ذلك الزمان ، ورتبة ذلك الضابط عميد. العميد كان معه حوالي 3 جنود لخدمته وركب في نفس العربة ضابطا برتبة رائد في الجيش و كان كلما وقف القطار في محطة كان ينزل الرائد مهرولا الى شباك العميد و يصرف تعليمات للجنود بخدمة العميد. بسبب هذا العميد تم وضع عسكري على احد بوابات العربة و منع على أي راكب الصعود على العربة او النزول منها بذلك الباب او الباب المقابل . العساكر خصصت لهم قمرة بالقرب من العميد ولا اعرف اين ركب الرائد ومعه ضابط اخر اصغر منه. المهم وصلنا محطة مدينة بابنوسة. سكك الحديد التي تصل مدينة واو بالجنوب كانت تلتقي مع السكك الحديدة التي تصل الى مدينة نيالا ، في مدينة بابنوسة هذه بكرفان ولذلك كانت دائما يركب منها مزيدا من الركاب من إخواننا اهل الجنوب ولكن على السطح مما يسبب زحمة فيه نسبة لان القطار أصلا يكون سحطه مزدحما من محطة مدينة نيالا. في تلك المحطة نزل العميد نفسه من العربة ، واظنه بغرض تنشيط رجليه وجسمه بسبب الاعياء من الجلوس الطويل في القمرة و لذلك عند نزوله ذهب ووقف مقابل شباك القمرة التي يسافر عليها بعربة الدرجة الاولى. انا نزلت و كان بيني وبين العميد و احد العساكر المرافقين له حوالي 4 امتار لا اكثر. ومن دون انتباه قام الناس الذين على سطح عربة الدرجة الاولي برمي كمية كبيرة جدا من الاوساخ و بواقي القصب الذى مضغوه ومخلفات أخرى ، دون ان ينتبهوا للواقفين على الأرض. الاوساخ و مخلفات وقشر القصب و الزبالة كلها نزلت على طاقية العميد العسكرية وأكتافه وجسمه. هنا وكأن ماء النار صب على وجه العميد... اغتاظ العميد و امر العسكري الذى يرافقه بهذه الجملة العجيبة ( يا عسكري اضرب الناس دي).. العسكري كان يحمل بندقية جيم ثلاثة او جيم ثري.. ولحظة تعميره و تجهيزه للبندقية وصل الرائد. الرائد مسك البندقية ووجه فوهتها للأعلى عكس اتجاه الركاب و بدأ بمناشدة العميد وطالبا الصفح والعفو عن الراكبين بالسطح وانه سوف يحل المشكلة ويأمر بطردهم من سطح العربة. كل هذا الوقت كان ركاب السطح فى جدالهم ومناجاتهم بعض ولم يدروا بالشر الذي على مقربة منهم.... في هذه اللحظة بدا الرائد بالصياح، يا شرطة ، يا شرطة ، يا شرطة . اتى اثنين او ثلاثة من افراد الشرطة وامرهم الرائد بإنزال كل الناس الذين على سطح القطار وادخالهم السجن، بالرغم من انهم بالألوف.. بدأت الشرطة بنظافة الاوساخ من على العميد وضربوا مزاميرهم وطلبوا من الناس النزول وبعد عدة دقائق وصل شرطيين اخرين وبدأوا بضرب الناس الذين بالسطح وحصل هرج ومرج.. العميد قال للرائد (طيب حل الاشكال ده وتعال شوف حل لنظافة اللبس بتاعي ومش عاوز زول يركب في السطح هذا لحدي ما اصل الخرطوم)
انا تسمرت في مكاني وكأنى الشخص الذى صدر الامر بضربه. انا لم اتخيل ان ضابطا بهذه الرتبة يأمر بضرب مسافرين مدنيين فقراء وجلهم من الاميين بسبب انهم رموا اوساخا عليه. في اول الامر قلت ان سبب تسمري وعدم تصديقي للأمر يرجع لخلفيتي الاجتماعية. فهنالك في اريافنا لنا قادة للجيوش الشعبية وهم ما يعرفوا بعقد الخيل. فعقيد الخيل وعلى مدى التاريخ هو ومن معه من عقد الخيل الاخرين مسئولين عن امن المنطقة و الدفاع عنها ، ارضا وعرضا ومالا وشرفا . عقد الخيل هو و من معه من المقاتلين الاهليين هم أناس متطوعون و لا يكسبون مثقال ذرة من المال. عقد الخيل هو من يمثل كامل شرف العشيرة او المنطقة ولذلك يجد الاحترام من الكبير و الصغير وينظر اليه بانه قدوة وفارس وابن فرسان ولن تمر مناسبة للأفراح والا سمع الناس النساء يتغنين بمجد ونخوة وبطولة عقيد او عدد من عقداء الخيل ، سواء ان كانوا احياء او اموات. انا سالت نفسى ، فاذا وجودي بالجامعة ما هو الا وجها لتطور المجتمع من التعليم الأهلي البدائي الى التعليم النظامي ، أوليس الرتبة العسكرية الكبيرة التي يحملها هذا الضابط هي أيضا وجها لتطور المجتمع من نظام الدفاع الأهلي وعقيد الخيل الى نظام الدفاع عن الأرض والعرض و المال و شرف الدولة كلها. نفيت المقارنة تماما. فهذا الضابط معد لعكس الدفاع عن الدولة وارضها وعرضها وشرفها.. تركت الامر هنالك.
مر عام كامل وانا في الخرطوم وسمعت حدثا اخر . قبل ذاك ان الجموع الخرطومية بدأت تهمس ان هنالك ضابطا برتبة عقيد قد ارتكب جريمة كبرى . هذا الضابط كان او أسرته كانت تملك دكانا في مكان ما في الخرطوم ووقع نزاع بينه وبين شباب استأجروا الدكان واداروه للاسترزاق منه. الامر وصل المحاكم. وبعد ان حكمت المحاكم لصالح المستأجرين ، تربص الضابط الكبير بالشباب حتى غدر بهم. وقيل ان يوما تجمع الضحايا لتناول وجبة الإفطار ، فأتي الضابط بحاوية بنزين او كيروسين ورشها عليهم وأحرقهم جميعا حتى الموت. الموضع كان همسا وتداوله الناس في كل لمة من ملماتهم.. الصحافة كانت صامتة ، بالرغم ان الحدث قد يكون قد وقع قبل سنتين او ثلاثة . لكن من بعد ان طفح الكيل ولم تجد حكومة النميري الاخر سبيلا لتبديد الخبر ، قامت الصحافة بالكتابة عن الخبر وشرح تفاصيله. نهاية الخبر قيل ان الضابط رفعت الحصانة عنه وحوكم مدنيا و تم الحكم عليه بالإعدام ونفذ عليه . نفس الشارع السوداني عاد من بعد فترة وقال ان الضابط تم تهريبه و لم ينفذ فيه أي حكم. اظن ان العقيد اسمه بكار او مكار او اسم مقارب لذلك.
الواقعان ، الأولى و الثانية تسببا في رفضي لأي وجه مقارنة بين عقد الخيل الأهلي الذى يدافع عن الأرض و العرض والشرف و بين هؤلاء الذى يتخذون من الشعب أعداء و يسترخصون ارواحهم ويقتلوهم بدم بارم وكأنهم حشرات. بل ان عقيد الخيل الأهلي . عقيد الخيل الاهلي موجود في كل بقعة من بقاع السودان ، بغض النظر عن راحلته ، خيل هي ام حمير او يمشي على رجليه . من بعد رفضي للمقارنة ، دار براسي سؤال اخرا وهو ، اذا كان هذا الضابط الرسمي لا يدافع عن اى ارض او عرض او شرف للشعب ، اذا ، ما هو هذا المتجبر المخالف للقيم والمخالف للعرف و المعروف و لماذا تم تكوينه و لماذا الانفاق عليه وما هي مهامه الرسمية ولماذا يقتل الناس ويسترخص ارواحهم ؟
للإجابة على الأسئلة بنهاية الفقرة أعلاه، حولت الاستعادة بعدة سبل. السبيل الأول هو قراءة كل ما كتب عن الجيش السوداني حتى ذلك الوقت. هذا السبيل شابه عدم وجود مصادر معرفة وكافية و ذات مصداقية . ففي بلد أصلا يحكمها عسكري ، لا يمكن ان تجد اى كلاما مكتوبا لا يدلس و يوافق ان الله خلق الجند أولا و من ثم الشعب ليخدمهم . السبيل الثاني ، وهو افضل من السبيل الأول ، يتمثل في محاولة معرفة عقلية العسكري السوداني الذى يلبس الكاكي. هذا السبيل اصطدم بعدة عقبات. أولها انى لم أكن اعرف أكثر من 5 ضباط في كل الجيش السوداني معرفة شخصية. ثلاثة من هؤلاء الخمسة هم دفعتي في الثانوية العليا و ضباط حديثي التخرج ، وبذلك لا فائدة منهم في معرفة اى شيء و الاثنان احدهما ضابط في الكلية الحربية من منطقتنا وقابلته مرة احدة فقط في مناسبة و الخامس ضابط من الاهل يعمل في الجنوب وقابلته مرة واحدة مع مجموعة في نيالا. اما الجنود ، فحدث ولا حرج . فلا ابالغ ان قلت انى لا اعرف ما يزيد عن 2% من كل الجنود في ذلك الجيش من رقيب وادنى ، على مستوي السودان. فخمسون في المائة من الشباب من هم بسني وقتها و من مناطقنا ذهب للعمل بالجيش. فهم والامتداد المناطقي و العشائري و الإقليمي يشكلون نسبة كبيرة من الجيش. السبيل الثالث هو محاولة التحدث مع ذوى الاهتمام بالشأن السوداني عامة ، عن رايهم في الجيش بحكم قراءتهم و تجاربهم و المعلومات الخاصة التي جمعوها. الخ. خلاصة ما وجدته يتلخص في الاتي:
الكتيبات اللاحقة هي عن الجيش الموجود في السودان بصورة غالبة وبالتحديد شريحة القيادة وهم الضباط. الامر الاخر ان ما يكتب لا ينطبق على كل ضابط في الجيش ولكن هنالك مجموعة مستثناه و هي بالكاد تصل الى 10% منه.
نواصل
21 فبراير 2023
1- المقدمة ومشاهد تذهب العقل
هنالك بعض من احداث وتجارب الحياة تبقي بذاكرة الانسان لمدة طويلة وقد تصل معه الى نهاية حياته، ان لم يصب بمرض فقدان الذاكرة او مرض الزهايمر قبل ذلك. فكلما كان الحدث اكثر اثرا على جسد او نفس او وجدان الانسان، كلما بقى ذلك الحدث حيا في ذاكرة من الم به او شاهدة. انا شاهدت حادثا عام 1982م لن انساه ابدا ، ما حييت ، وبدل في نفسي ما اراه في بعض شرائح الشعب السوداني وتسبب في تكويني لرؤيا خاصة بي فيما يتعلق بالصراعات العسكرية و السياسية في السودان. نهاية العام 1982م كنت طالبا ببداية السنة الثانية بالجامعة وكنت في إجازة ما وسافرت من الخرطوم الى بلدتي في غرب مدينة نيالا بجنوب دارفور وهممت بالعودة الى الخرطوم. السفر من نيالا الى الخرطوم ، او عكس ذلك ، كان يتم بالقطار وكانت الجامعة تمنحنا تصاريح سفر من الدرجة الثانية الممتازة و يمكن للراغب و المستطيع دفع الفرق والركوب بالدرجة الاولي. مدة الرحلة من نيالا الى الخرطوم او من الخرطوم الى نيالا عادة ما تستغرق ثلاثة أيام. هذه المدة تزيد الى أسبوع او أسبوعين ، واحيانا شهرا كاملا ، اذا ما كان وقت السفر خريفا و حدثت قطوعات للسكك الحديدية و بالتحديد في شرق دارفور و إقليم كردفان وقتها ، كلما طالت مدة الرحلة ، و كلما كثرت المشاكل بين ركاب القطار انفسهم و حوادث الموت و النشل و ما في حكمها. تحركنا من مدينة نيالا وكان عدد المقطورات من حاملات او عربات الركاب وعربات البضائع كبيرا . كنت كالعادة بالدرجة الثانية و كنا حوالي 12 راكبا بالقمرة التي صممت لثمانية ركاب فقط. كانت عربتا ملتحمة بعربة اخري للدرجة الاولي و التي لم تكن مزدحمة ، و قطار نيالا كالعادة ، 50% من الركاب فقط من بداخله و الباقي هم على سطحه . تلصصت وعرفت سبب قلة الركاب في الدرجة الاولي ، الملاصقة لعربتنا . الدرجة الاولي كان بها ضابط جيش كبير جدا بمعايير ذلك الزمان ، ورتبة ذلك الضابط عميد. العميد كان معه حوالي 3 جنود لخدمته وركب في نفس العربة ضابطا برتبة رائد في الجيش و كان كلما وقف القطار في محطة كان ينزل الرائد مهرولا الى شباك العميد و يصرف تعليمات للجنود بخدمة العميد. بسبب هذا العميد تم وضع عسكري على احد بوابات العربة و منع على أي راكب الصعود على العربة او النزول منها بذلك الباب او الباب المقابل . العساكر خصصت لهم قمرة بالقرب من العميد ولا اعرف اين ركب الرائد ومعه ضابط اخر اصغر منه. المهم وصلنا محطة مدينة بابنوسة. سكك الحديد التي تصل مدينة واو بالجنوب كانت تلتقي مع السكك الحديدة التي تصل الى مدينة نيالا ، في مدينة بابنوسة هذه بكرفان ولذلك كانت دائما يركب منها مزيدا من الركاب من إخواننا اهل الجنوب ولكن على السطح مما يسبب زحمة فيه نسبة لان القطار أصلا يكون سحطه مزدحما من محطة مدينة نيالا. في تلك المحطة نزل العميد نفسه من العربة ، واظنه بغرض تنشيط رجليه وجسمه بسبب الاعياء من الجلوس الطويل في القمرة و لذلك عند نزوله ذهب ووقف مقابل شباك القمرة التي يسافر عليها بعربة الدرجة الاولى. انا نزلت و كان بيني وبين العميد و احد العساكر المرافقين له حوالي 4 امتار لا اكثر. ومن دون انتباه قام الناس الذين على سطح عربة الدرجة الاولي برمي كمية كبيرة جدا من الاوساخ و بواقي القصب الذى مضغوه ومخلفات أخرى ، دون ان ينتبهوا للواقفين على الأرض. الاوساخ و مخلفات وقشر القصب و الزبالة كلها نزلت على طاقية العميد العسكرية وأكتافه وجسمه. هنا وكأن ماء النار صب على وجه العميد... اغتاظ العميد و امر العسكري الذى يرافقه بهذه الجملة العجيبة ( يا عسكري اضرب الناس دي).. العسكري كان يحمل بندقية جيم ثلاثة او جيم ثري.. ولحظة تعميره و تجهيزه للبندقية وصل الرائد. الرائد مسك البندقية ووجه فوهتها للأعلى عكس اتجاه الركاب و بدأ بمناشدة العميد وطالبا الصفح والعفو عن الراكبين بالسطح وانه سوف يحل المشكلة ويأمر بطردهم من سطح العربة. كل هذا الوقت كان ركاب السطح فى جدالهم ومناجاتهم بعض ولم يدروا بالشر الذي على مقربة منهم.... في هذه اللحظة بدا الرائد بالصياح، يا شرطة ، يا شرطة ، يا شرطة . اتى اثنين او ثلاثة من افراد الشرطة وامرهم الرائد بإنزال كل الناس الذين على سطح القطار وادخالهم السجن، بالرغم من انهم بالألوف.. بدأت الشرطة بنظافة الاوساخ من على العميد وضربوا مزاميرهم وطلبوا من الناس النزول وبعد عدة دقائق وصل شرطيين اخرين وبدأوا بضرب الناس الذين بالسطح وحصل هرج ومرج.. العميد قال للرائد (طيب حل الاشكال ده وتعال شوف حل لنظافة اللبس بتاعي ومش عاوز زول يركب في السطح هذا لحدي ما اصل الخرطوم)
انا تسمرت في مكاني وكأنى الشخص الذى صدر الامر بضربه. انا لم اتخيل ان ضابطا بهذه الرتبة يأمر بضرب مسافرين مدنيين فقراء وجلهم من الاميين بسبب انهم رموا اوساخا عليه. في اول الامر قلت ان سبب تسمري وعدم تصديقي للأمر يرجع لخلفيتي الاجتماعية. فهنالك في اريافنا لنا قادة للجيوش الشعبية وهم ما يعرفوا بعقد الخيل. فعقيد الخيل وعلى مدى التاريخ هو ومن معه من عقد الخيل الاخرين مسئولين عن امن المنطقة و الدفاع عنها ، ارضا وعرضا ومالا وشرفا . عقد الخيل هو و من معه من المقاتلين الاهليين هم أناس متطوعون و لا يكسبون مثقال ذرة من المال. عقد الخيل هو من يمثل كامل شرف العشيرة او المنطقة ولذلك يجد الاحترام من الكبير و الصغير وينظر اليه بانه قدوة وفارس وابن فرسان ولن تمر مناسبة للأفراح والا سمع الناس النساء يتغنين بمجد ونخوة وبطولة عقيد او عدد من عقداء الخيل ، سواء ان كانوا احياء او اموات. انا سالت نفسى ، فاذا وجودي بالجامعة ما هو الا وجها لتطور المجتمع من التعليم الأهلي البدائي الى التعليم النظامي ، أوليس الرتبة العسكرية الكبيرة التي يحملها هذا الضابط هي أيضا وجها لتطور المجتمع من نظام الدفاع الأهلي وعقيد الخيل الى نظام الدفاع عن الأرض والعرض و المال و شرف الدولة كلها. نفيت المقارنة تماما. فهذا الضابط معد لعكس الدفاع عن الدولة وارضها وعرضها وشرفها.. تركت الامر هنالك.
مر عام كامل وانا في الخرطوم وسمعت حدثا اخر . قبل ذاك ان الجموع الخرطومية بدأت تهمس ان هنالك ضابطا برتبة عقيد قد ارتكب جريمة كبرى . هذا الضابط كان او أسرته كانت تملك دكانا في مكان ما في الخرطوم ووقع نزاع بينه وبين شباب استأجروا الدكان واداروه للاسترزاق منه. الامر وصل المحاكم. وبعد ان حكمت المحاكم لصالح المستأجرين ، تربص الضابط الكبير بالشباب حتى غدر بهم. وقيل ان يوما تجمع الضحايا لتناول وجبة الإفطار ، فأتي الضابط بحاوية بنزين او كيروسين ورشها عليهم وأحرقهم جميعا حتى الموت. الموضع كان همسا وتداوله الناس في كل لمة من ملماتهم.. الصحافة كانت صامتة ، بالرغم ان الحدث قد يكون قد وقع قبل سنتين او ثلاثة . لكن من بعد ان طفح الكيل ولم تجد حكومة النميري الاخر سبيلا لتبديد الخبر ، قامت الصحافة بالكتابة عن الخبر وشرح تفاصيله. نهاية الخبر قيل ان الضابط رفعت الحصانة عنه وحوكم مدنيا و تم الحكم عليه بالإعدام ونفذ عليه . نفس الشارع السوداني عاد من بعد فترة وقال ان الضابط تم تهريبه و لم ينفذ فيه أي حكم. اظن ان العقيد اسمه بكار او مكار او اسم مقارب لذلك.
الواقعان ، الأولى و الثانية تسببا في رفضي لأي وجه مقارنة بين عقد الخيل الأهلي الذى يدافع عن الأرض و العرض والشرف و بين هؤلاء الذى يتخذون من الشعب أعداء و يسترخصون ارواحهم ويقتلوهم بدم بارم وكأنهم حشرات. بل ان عقيد الخيل الأهلي . عقيد الخيل الاهلي موجود في كل بقعة من بقاع السودان ، بغض النظر عن راحلته ، خيل هي ام حمير او يمشي على رجليه . من بعد رفضي للمقارنة ، دار براسي سؤال اخرا وهو ، اذا كان هذا الضابط الرسمي لا يدافع عن اى ارض او عرض او شرف للشعب ، اذا ، ما هو هذا المتجبر المخالف للقيم والمخالف للعرف و المعروف و لماذا تم تكوينه و لماذا الانفاق عليه وما هي مهامه الرسمية ولماذا يقتل الناس ويسترخص ارواحهم ؟
للإجابة على الأسئلة بنهاية الفقرة أعلاه، حولت الاستعادة بعدة سبل. السبيل الأول هو قراءة كل ما كتب عن الجيش السوداني حتى ذلك الوقت. هذا السبيل شابه عدم وجود مصادر معرفة وكافية و ذات مصداقية . ففي بلد أصلا يحكمها عسكري ، لا يمكن ان تجد اى كلاما مكتوبا لا يدلس و يوافق ان الله خلق الجند أولا و من ثم الشعب ليخدمهم . السبيل الثاني ، وهو افضل من السبيل الأول ، يتمثل في محاولة معرفة عقلية العسكري السوداني الذى يلبس الكاكي. هذا السبيل اصطدم بعدة عقبات. أولها انى لم أكن اعرف أكثر من 5 ضباط في كل الجيش السوداني معرفة شخصية. ثلاثة من هؤلاء الخمسة هم دفعتي في الثانوية العليا و ضباط حديثي التخرج ، وبذلك لا فائدة منهم في معرفة اى شيء و الاثنان احدهما ضابط في الكلية الحربية من منطقتنا وقابلته مرة احدة فقط في مناسبة و الخامس ضابط من الاهل يعمل في الجنوب وقابلته مرة واحدة مع مجموعة في نيالا. اما الجنود ، فحدث ولا حرج . فلا ابالغ ان قلت انى لا اعرف ما يزيد عن 2% من كل الجنود في ذلك الجيش من رقيب وادنى ، على مستوي السودان. فخمسون في المائة من الشباب من هم بسني وقتها و من مناطقنا ذهب للعمل بالجيش. فهم والامتداد المناطقي و العشائري و الإقليمي يشكلون نسبة كبيرة من الجيش. السبيل الثالث هو محاولة التحدث مع ذوى الاهتمام بالشأن السوداني عامة ، عن رايهم في الجيش بحكم قراءتهم و تجاربهم و المعلومات الخاصة التي جمعوها. الخ. خلاصة ما وجدته يتلخص في الاتي:
الكتيبات اللاحقة هي عن الجيش الموجود في السودان بصورة غالبة وبالتحديد شريحة القيادة وهم الضباط. الامر الاخر ان ما يكتب لا ينطبق على كل ضابط في الجيش ولكن هنالك مجموعة مستثناه و هي بالكاد تصل الى 10% منه.
نواصل