هل ستغرق مواردنا في الدماء؟

 


 

د. حسن بشير
13 December, 2010

 


    تمخض اجتماع نائبي رؤساء السودان بدولته القائمة والمرتقبة عن اتفاق لتأمين حقول النفط الواقعة علي حدود ملتهبة تهدد بإغراق أهم الموارد التي يعتمد عليها الاقتصاد السوداني، في الحاضر والمستقبل، في بركة من دم. أصبح من المعروف للخاصة والعامة الدور الذي يلعبه النفط في استقرار الأوضاع الاقتصادية، السياسية والأمنية في السودان لدرجة ان البترول يوفر أكثر من 90% من عائدات النقد الأجنبي ويساهم بذلك بشكل حاسم في بناء الاحتياطي اللازم للقدرة المالية للدولة ولتوفير عوامل الاستقرار النقدي والمالي وضخ السيولة الضرورية للأداء الاقتصادي وتأمين سعر صرف الجنيه السوداني. لهذه الأسباب أثارت أخبار استقالة عدد من العاملين بحقول النفط في الجنوب الذعر حتي وسط الدوائر الحكومية التي لا تتوقف عن التهديد وادعاء القوة والاستعداد لكل ما يأتي مهما كانت خطورته. لكن، والحمد لله، أن هذا الأمر قد حدث في وقت مناسب ليدق ناقوس الخطر بشكل يهدد امتيازات حكام الدولتين السودانيتين وينبههم الي خطورة التصعيد الذي قد يؤدي الي حرب طاحنة تجعل منهما دولتين فاشلتين بامتياز وتجعل من الحكام أشخاص عاديين لا يتعب احد بحصر ثرواتهم او تجميدها او الحاجة الي إصدار قرارات دولية بالعقوبات او الحصار الاقتصادي.
لكن الموارد المهددة بالضياع لا تتوقف علي عائدات البترول فقط وإنما تمتد الي عدد كبير من الموارد منها علي سبيل المثال المياه وحصصها التي أصبحت تشكل ملفا ساخنا. مشكلة المياه لا تكمن في ندرتها او توقف جريانها وإنما الخطورة تأتي، وهذا مهم جدا، من ضعف الدولتين الناتجتين عن الانفصال والغارقتين في لجة صراع لا يؤهل أي منهما للدفاع عن مصالحها الإستراتيجية ويجعلها لقمة سائغة للافتراس لكل من أراد ذلك، بل إغراء جهات اخري بالحصول علي قطعة من كيكة ما كان يعرف بالسودان. الخطورة في ان الخلافات يمكن ان تقود الي الضغط من الطامعين للحصول علي اعلي امتيازات تاريخية ممكنة في هذا الظرف الذي لا يعوض. يؤدي ذلك الي تهميش السودان في ملف المياه المتوتر الان وستنتهز العديد من دول حوض النيل هذه السانحة التاريخية لتحسن من وضعها من حيث قسمة المياه علي حساب السودان بشماله وجنوبه.
 المياه ضرورية في الحاضر والمستقبل ، هي ضرورية للأمن الغذائي وللتنمية الزراعية والصناعية، هي مهمة للتوليد الكهربائي ولتنمية موارد أخري عديدة منها الثروة الحيوانية، السمكية، الغابية وللحفاظ علي التنوع البيئي وصيانة الأصول البيئية خاصة التربة من الضياع بسبب الجفاف، الزحف الصحراوي والتأثير سلبيا علي التنوع الإحيائي الطبيعي.
  الأمر كذلك لا يتوقف علي ما ذكرنا رغم خطورته وإنما يشمل جميع أنواع النشاط الاقتصادي والتمويل الوطني والأجنبي وجميع أنواع الاستثمار والانفتاح علي العالم الخارجي، دولا ومؤسسات وأسواق. فلنأخذ المعادن كمثال، فهي، إذا أراد السودان الاستثمار فيها وفقا للمعايير الاقتصادية، فلا يمكن ان تعتمد علي التنقيب العشوائي او حتي الخاص بمفهومه الضيق. إذن الاستثمار في المعادن يحتاج لاستثمارات ضخمة بأموال كبيرة وتكنولوجيا حديثة كما يحتاج لأسواق. إضافة لذلك فان المعادن من الموارد الناضبة وسرعان ما ستتوقف حمي التنقيب (الشعبي) بعد ان يصبح الحصول علي الذهب مهمة أكثر تعقيدا من الحصول علي جهاز للاستشعار او ذئبق للحصول علي حفنة من الذهب وكمية من المرض.
   إذا اتجهنا نحو الجنوب سنجد ان المخاطر التي تهدد الدولة الوليدة لا تعد ولا تحصي. المسألة ليست وقفا علي الجنوب فقط وإنما يهدد ذلك أي دولة تنشأ في ظرف مشابه لحالة الجنوب، ناتجة عن صراع، وتعاني من مخاطر داخلية كبري يمكن ان تؤدي بأي دولة الي الفشل.لا يمكن للجنوب ان يراهن علي الدعم الأمريكي – الغربي او حتي الإسرائيلي ويجب هنا إدراك ان إسرائيل تعاني من مشاكل وتزداد عزلتها الدولية، بل هي حتي لم تستطع السيطرة علي حرائق غابات هددت أهم مناطقها وأجملها وأكثرها جذبا للسياحة الي ان هب العالم الي نجدتها، فكيف اذن تكون مستعدة لإطفاء حرائق يمكن ان تشتعل في الجنوب. أوردنا إسرائيل كمثال بحكم أهمية الموقع لها من الناحية الإستراتيجية لكن تلك الأهمية لا يمكن ان تكون في لجة من الصراع. نفس الوضع ينطبق وبشكل اكبر علي الدول التي تريد الاستثمار في الأوضاع الطبيعية التي تمكن من توظيف الاستثمارات في الموارد المادية والبشرية، هذا جانب اخر من المصالح الدولية ذات التبادل والاعتماد المشترك.
   كل ما اشرنا إليه يتم داخل إطار تطور مفهوم "الدولة الفاشلة"Failed State  الذي أصبح من المصطلحات المتداولة والمنتشرة على نطاق واسع أكاديميًا وسياسيًّا، بعد أن أصبح التداخل بين الخارج والداخل أمرًا حتميًّا، وأصبح أداء النظم الحاكمة وما يحدث داخل الدولة وثيق الصلة ومرتبط بشكل مباشر بالتهديدات التي يواجهها كلٌ من المجتمع الدولي والوسط الإقليمي، وما إشارة رئيس الوزراء الإثيوبي الي "يوم القيامة" الا دليلا علي ذلك. اتسع التعريف بأخطار الدولة الفاشلة ليشمل أخطار الدول التي لا تستطيع التحكم في حدودها والسيطرة على أراضيها أو لا تستطيع الوفاء بالاحتياجات الأساسية لشعبها، ومثل هذه الدول لا تمثل مشكلة سياسية – اقتصادية – أمنية فقط، وإنما أصبحت، وحسب تصريح للرئيس الأمريكي باراك اوباما، "معضلة أخلاقية أمام الولايات المتحدة بل هي تحدٍ أمني يجب مواجهته"، مما جعلها تحظي بأهمية كبيرة في سلم أولوياته، وهذا هو ما يجعل من الشأن السوداني معلما واضحا للاهتمام الأمريكي هذه الأيام.
أصبح الاهتمام منصبا الان علي المنهج التنموي، الاقتصادي والاجتماعي في التعامل مع الدول الفاشلة على خلاف منهج تغيير الأنظمة الذي كان متبعا من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. في نفس الوقت لا يمكن لأي عاقل ان يفكر في ان المجتمع الدولي والإقليمي يمكنه ان يهمل ولو للحظة واحدة التداخل بين الجانبين الأمني والتنموي، مع الوضع في الاعتبار ما تضيفه مشاكل اخري عالية الأهمية مثل الإرهاب الدولي والأزمة المالية العالمية من تحديات.
في الإطار أعلاه نقرأ ما تم التوصل إليه من اتفاق بين نائبي الرئيسين والذي تم تتويجه بتوقيع قيادة الجيشين السواني والشعبي لتأمين حقول النفط. لكن هذا الاتفاق لا يكفي اذ ان الضمانة تكون سياسية وليست عسكرية فقط، كما انها من المفترض ان تكون شاملة لجميع الملفات، اذ لا يمكن من الناحية الإستراتيجية عزل ملف البترول عن الملفات الاخري، كما لا يمكن تأمين مورد واحد بينما تبقي بقية الموارد مهددة بالضياع. إذن الأمر يحتاج لاتفاق شامل يؤمن جميع موارد البلاد بشمالها وجنوبها ويجنبها خطورة الغرق في الدماء.

(hassanbashier141@hotmail.com)

 

آراء