هنري كسنجر…قرن من العمر والدبلوماسية

 


 

 

غيب الموت مطلع هذا الشهر بعد أن بلغ الدبلوماسي ومنظر السياسات الخارجية الأميركية والاستراتيجية الأشهر هنري كسنجر عامه المائة 1923-2023 قضى ثلثها متربعاً على عرش الدبلوماسية والقضايا الدولية وأزماتها العالمية الممتدة عبر قارات العالم. وقد احتفل الدوائر ذات الاهتمام في العالم قبل مدة بمئوية ساحر الدبلوماسية على نطاق واسع خاصة وأن هنري كسنجر لم يتوقف عن لعب الدور المرجعي لكافة الإدارات الرئاسة الأميركية منذ دخوله شاباً إلى دائرة الأمن القومي ومن ثم قيادة دفة الدبلوماسية الأميركية في إدارتي فورد ونيكسون ومستشاراً في إدارة ملفات ولجان سياسية داخلية إلى عهد ريغان وجورج بوش الأبن. وظل حضوره وفاعلاً في المشهد الدولي منذ منتصف القرن العشرين. ولم يكن هنري كسنجر موظفاً دبلوماسيا تقليدياً، فمن خلال موقعه المرموق كمفكر بارز وسياسي مثقف غطت مؤلفاته العديدة الكثير من القضايا السياسية وتاريخ الدبلوماسية والأسلحة النووية والذكاء الصناعي بالإضافة إلى تعليقاته حول قضايا العالم بدون توقف حتى اصدار آخر كتبه وهو في عقده العاشر فقد صدر له مؤخراً كتابه (القيادة، ست دراسات في الاستراتيجية العالمية) وأخيراً رأيه المثير حول الحرب الروسية الأوكرانية مؤخراً في قمة دافوس 2022م حين اقترح للخروج من الأزمة الروسية الأوكرانية بتنازل الأخيرة عن جزء من أراضيها.
وكانت حياة الدبلوماسي المئوي الراحل الذي ينحدر من عائلة يهودية ألمانية فرت من جحيم النازية في الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة التي عمل في جيشها جندياً في جيشها أقل إثارة من دوره في تأجيج والتحكم في حروب العالم وصراعاته؛ وصكه لمصطلحات رافقت مرحلة الحرب الباردة من حرب محدودة التوتر إلى الدبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط. وقبلها بالطبع سياسات الاحتواء والردع النووي في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق. ولم تكن الصين القوة الصاعدة في مواجهة الولايات المتحدة بعيدة عن تفكير الرجل وهو من كسر جدار العزلة بترتيب زيارة الرئيس الأميركي نيكسون للصين منتصف السبعينات مدشناً سياسة انفتاح جديدة بل وخصّها بكتاب يحمل اسم ها (الصين).
فقد كانت لحياته وما مرّ به من تجربة تحولات عميقة التي حدثت في حياته الجديدة في اميركا وصعوده اللامع وتقاطع معتقداته الدينية كيهودي اوربي يحمل اسم هاينريش تحول لاحقاً إلى هنري وحصوله على الجنسية الأميركية بعد انتهاء الحرب والتحاقه بجامعة هارفرد المرموقة؛ كلها اثرت في تكوين شخصية هذا الغول الدبلوماسي. ويكاد هوسه بالتاريخ وتاريخ الدبلوماسية ملازماً لكل كتاباته منذ أن قدَّم أطروحتيه في الماجستير والدكتوراه (معنى التاريخ، تأملات في شبلنغر وتونيبي، وكانت)، و (عالم تمت استعادته، ‬مترنيخ وكاستليرج ومشكلات السلام) وقد اعيد طبع الثاني بعد سبعين عاماً من صدوره بالإضافة إلى عدد من المؤلفات والمذكرات. فكان مدار التاريخ واحداثه مدخله إلى تفسير الوقائع وسياسية الدبلوماسية ورؤية تشكل نظم العالم على ضوء المؤثرات التاريخية التي صاغت خارطة التوازنات الاستراتيجية. وتبقى القوة نقطة محورية في تصورات كسنجر للسلام والحرب معًا، وهي بالتفسير السياسي -برأيه- السياسية الواقعية Realpolitik وهي ربما جعلت تركيزه على قوة توازن النظام العالمي منذ حروب أوربا في مرحلة ما بعد الدولة القومية إلى انهاء حرب فيتنام التي قاد مفاوضاتها ومنح جائزة نوبل للسلام. وطالما مزج بين رؤيته للتاريخ وممارسته وتصوراته فيما بعد لحلول التفاوض والدبلوماسية من خلال مؤلفاته في الدبلوماسية والقوة النووية ومباحثات السلام والاستراتيجية.
ولعل الذاكرة السياسية العربية تسترجع دوره في المنطقة في صلب أزمة القضية الفلسطينية حين ظهر هنري كسنجر على مسرح الأحداث في حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل والمفاوضات التي عرفت فيما بسياسة فك الاشتباك De-engagement أي وقف إطلاق النار بين مصر (العرب) وإسرائيل وهو ما قاد في نهاية المطاف إلى ما عرف باتفاقية سلام كامب ديفيد والاعتراف بدولة إسرائيل. واتبع كسنجر دبلوماسية عرفت بالمكوكية بين القاهرة، والرياض وتل ابيب محاولاً اقناع الأطراف بالتوصل إلى سلام دائم يضمن أمن إسرائيل؛ ويضمن أيضا امداد النفط العربي بعد حظر النفط الشهير الذي هدد الاقتصاديات الغربية. تدخل اميركا في سياسات الشرق الأوسط أدى الى خروج الاتحاد السوفيتي من المنطقة وأصبح الفضاء اميركياً بالكامل في سياق السياسات الأميركية الخارجية وعلاقتها بإسرائيل، وهذا ما عدَّ انجازاً لوزير الخارجية الأميركي البارز. فقد تأثرت إدارته لملف الصراع العربي الإسرائيلي بخلفياته اليهودية، وانحياز سياسات الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل مما عزّز ما دعم أميركي غربي مفتوح لإسرائيل للممارسة سياساتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتسريع وتيرة التطبيع مع الدول العربية بإسناد أميركي.
واجهت سياساته الخارجية التي عكست المصالح الأميركية كأولوية قصوى اثناء توليه لمنصبه وزيراً للخارجية ومستشارا لأمن القومي الأميركي وبعد أن غادره هجوماً شرساً لم يخل بوصفه مجرم حرب تجب محاكمته بحسب خصومه وخاصة دوره في انقلابات اميركا اللاتينية في سبعينات القرن الماضي بذريعة محاربة التمدد الشيوعي، دور المؤامرات التي نفذتها المخابرات الأميركية. وكما يقول عنه المؤلف البريطاني الأميركي كرستوفر هيتشنز صاحب كتاب (محاكمة كسنجر). وهو يرى أن كسنجر لا يختلف عن الديكتاتورين ومرتكبي جرائم ضد الإنسانية تجب محاكمته. وظل شبح هذه الاتهامات يطارد عجوز الدبلوماسية الأميركية في حياته، ولكن من دون أن تطاله العدالة كما رغب خصومه.
إن مسار حياة الراحل هنري كسنجر في الحياة الدبلوماسية والسياسة الدولية تستدعي التوقف خاصة وأن الرجل عاش احداثها على مدى السنوات التي أطلق عليها سنوات الفوران، وبكل ما لعب فيه وأثر بشكل أو اخر في صراعاتها وأزماتها مختلف بؤر العالم الملتهبة. ولم تعد سيرته بعد عامه المئة تعكس جديداً بعد أن تناولها الكثيرون وما كتب عنه من المؤلفات العامة والأكاديمية ككاتب السير الذاتية الأميركي والتر ايزاكسون بقدر دوره الذي لعبه خلال سياسيات القرن العشرين. ومنذ أن غادر منصبه لعقود خلت لم تغادره الأضواء كمنظر ومؤرخ للسياسات الدولية والتطورات الإنسانية الأخرى كالعولمة وغيرها من ظواهر عالمية. ومهما يكن من أمر التناقضات التي أثارها الرجل في حياته الممتدة يبقى أحد أهم دبلوماسي ومهندسي سياسات القرن العشرين وأزماته.

nassyid@gmail.com

 

آراء