هُنا ضاعت مِنّا نخوتان أو ُاصيبتا في مَقْتَل

 


 

 

رايَتان إثنتان .. وقَفَت خلفَ الأولى السيده وزيرة الخارجيه التي يَتَزيّن إسمُها بلقبٍ علمي. دعت المصريين ، وهي في صفتها الرسميه ، أن يأتوا ليتقاسموا معنا أرضنا فنحنُ قليلو عدد والأرضُ تفيضُ عن حاجتنا. كان جَدُّها الإمام قد قاد ثورةً وحّدَت كل البلاد لاول مرّه لطرد المصريين والاتراك من البلاد. ومن عَجَبٍ أنّها استمَرّت في موقعها ذاك مما قاد ، بجانبِ أسبابٍ مُبكيةٍ ومُفجِعَه أخرى ، إلى أن تُرفَع الرايةُ الثانيه فجاءت تصريحات الرجل الذي أصبح الثاني في البلاد ، الاول حقيقةً ، أن ارضنا على طول البحر الاحمر كتيره وماذا يضير أن نعطي قاعده عسكريه لمن يحتاجها .. والرجل لا يحملُ درجةً علميه خلفَ إسمِهِ.
كانَ يتحدّث في كاملِ أناقَتِهِ ووسامَتُهِ حليق الشعر يتحدّثُ كرجل دوله وهو آتٍ لِتَوِّهِ من رحلةِ عمل لا يعرف أحدٌ عنها شيئاً ككل الرحلات التي قام بها قبلاً ولا داعي لأن نعرف فهم قد قاموا بإنقلابهم لانهم يريدون مصلحتنا فهم ادرى بها منا !
استبشر البعض خيراً قبل أيام إذ تسارعت الاخبار تتحدث عن استبدال قوات الدعم السريع بقواتٍ من الجيش في بعض المواقع وظنَّ المتفائلون ان الجيش وقائده استشعرا الخطر وعادا الى صوابهما الوطني ليستثمرا في وجود قادة الجنجويد خارج السودان ليقوما بما يمليه عليهما الضمير الوطني. راهنتُ أنا ألّا ضمير وطني يُرجى من القوم. فمن يقوموا بأعطاءِ الشرعيه لوجودٍ أجنبي هو في كاملِ زيّهِ العسكري ( مُجنّدٌ قبل تجنيسه) باستخراج الاوراق الثبوتيه والأرقام الوطنيه لأفراده ، حتّى تاريخ اليوم ، وهم الذين لا يتحدّثونَ لغتنا حتّى .. ومَن خلخلوا الجيش لمصلحة هذه القوات ليس بالمَسكنه لحين التمكن بل بقوّةِ عين لا يملكُها إلّا مَن ( ماسك عليك ذِلّه ) فجاءَ تعاملها مع ضباط وأفراد الجيش مراتٍ بالإعتقال المُهين ومرّاتٍ ( بالجَلْد ) والفَصل والإحالات للمعاش... مَن صمتوا وحرائرُنا يُغتَصَبنَ أمامَ بواباتِهِم بل وربما وفّروا للمغتصبين خصوصيّةً آمِنَه حتى ( يخلصوا ) من مهمتهم المقدّسه. رأيناهُم ، قادة الجيش ، والثوره في بدايةِ نجاحِها يقفون خلف قائد المليشيا كالياور وهو ( يخاطب ) المواطنين. رأيناهُم كيف يقفونَ كالتلاميذِ في حَضرتِه عند دخوله عليهم. رأيناهُ يُخاطب المؤسسات العسكريه ، تصوروا ، كالمدرعات مثلاً ويخاطب الشرطه.
هنا ضاعت مِنّا ( نَخوتان ) أو أُصيبتا في مَقتَل وكلاهُما مُدَمِّرٌ في ادبياتِنا السودانيه. النخوةُ الأولى هيَ حالَ الرجُل السوداني وهو يُتاجرُ بأعراضِ أبنائهِ وبيتِهِ او الّذي ( سكّينو في ضراعو ) وهو يتنَبّر حين سُئل عنها أنها لليوم الأسود في نفس الوقت الذي يبحَثُ فيهِ عن ملجأٍ ليُزنَى به فيه. أمّا النخوَة الأخرى فهي نخوة العسكريه السودانيه التي عرفنا منذ نعومة اظفارنا وما خلا بيتٌ سوداني من احدِ منتسبيها.. كيف كانوا وكيف صاروا. أما الشرطه فصرنا نرى جنرالاتها يُجمَعونَ للرجل داخل الصيوانات يُهلّلونَ لهُ وأياديهم المُلطخه بدماء شعبهم تنطلقُ مرفوعةً بعلامات النصر ويا لَهُ من نصر.
في العام ١٩٨٧ وأنا بصدد مغادرة الفاشر بعد ان عملت رئيسًا لشرطتها ذهبتُ يوماً لوداع الأخ اللواء الركن مهندس تاور السنوسي الغائب قائد الفرقه السادسه مشاه حينها وكان مثالاً للقائد ( المالي قاشو ). رجلٌ مهيب متوازن مثقف مهاب. كنا قد تعاونّا سوياً جيش وشرطه لما فيه مصلحة ذلك الجزء الحبيب من الوطن. تنبأ الرجل حينها بما يحدث الان فكأنما كان يقرأُ من كتابٍ مفتوحٍ أمامهُ وختم حديثه بأن مستقبلاً ( مظلمًا ) ينتظر الوطن.
قادتنا في الشرطه ناصروا القانون وصوّتوا دوما لجانب الشعب وانحازوا لمصلحته. كانوا الهيبه تمشي على ارجلٍ.
أمّا الرجل فقد باتَ مطمئناً بعدَ أن تيقّنَ أنّهُ لا يوجَد رجال داخلَ أيّ كاكي موجود في الساحه. باعَ كل خيرات البلاد بَيْع صاحب الملك وباع الرجال بيع صاحب الملك وجنّد من الجيش ومن الشرطه ومن الأجانب ومن بقيّةِ أطيافِ الشعب من ذوي الضمائر الخَرِبَه وارتقى بقوّاتِهِ وادخل عليها التقنيات الحديثه واستولى على كل المناطق الاستراتيجيه ومقار الجيش التاريخيه. باع الذهب بيع المالك الأوحَد وباع الماشيه حيةً وميّته سافر وعاد ثم سافر وعاد وكلّهُ ثقه فيمن تركهم خلفَهُ من خرّبجي الكُلّيات العسكريه والشرطيه أنّهُم يحفظونَ لهُ مُلكَهُ بل ويتسابقون في قمعِ وتعويق وقتل ( شعبِهِم ) من أجل ان ينعموا برضائهِ وبفَتاتٍ يُلقي به إليهِم.
على مَرّ تاريخِ بلادِنا كانت الرُّتَب العسكريه مُكَمّله للشخصيه السودانيه ولم تكن الشخصيه السودانيه تنزِلُ جُزءاً من درجةٍ في ميزان العيب الدقيق والذي هو معروفٌ بحُكمِ النشأةِ والتربيه لا يؤثّرُ فيه الفقر أو الغِنى ومعروفٌ أنّ أيّ خَللٍ فيه إنّما هو حُكمٌ بالإعدام.
ذاتَ ديمقراطيّةٍ قام السيد سيد احمد الحسين وزير الداخليه بفصل إثنين من أبرَز قادة الشرطه أخلاقاً ومِهنيّةً و .. ( رجاله ). أتى الفصل مجرد مزاج لأسباب لا علاقة لها بالمهنيه. هيَ خوازيق مدنيينا وهي على قفا من يشيل فلو كان هذين القائدَين موجودَين لما قامت للإنقاذ قائمةً إبتداءً. رحم الله الفريق شرطه فيصل خليل واطال عمر الفريق محمد الحسن يوسف. فرّطنا أيضا في الفتره الانتقاليه منذ تكوين الحكومه الأولى فعاث مدنيونا ( عواسَةً ) لا علاقة لها بالوطن بقدر ما كان لها علاقه بالمصالح الشخصيه وتمكينٍ لأحزابهم وذهب الوطن وأهلهُ إلى الجحيم الذي نستعرُ في أتونِهِ اليوم.
قيّضَ الله للروس قاده عسكريين سودانيين أطلقوا يد عميلها ، المهاب في قلوبهم ، وعاونوه حتى تم تهريب ذهب السودان للروس وابو ظبي فلَحِقَ الذهب بالبترول ولم يدخُلُ فلسٌ واحدٌ منهُما الى خزينةِ الوطن. الفرق الوحيد يكمُن في ان البترول أُكِلَت أمواله في خضمّ دولة الانقاذ الأولى اما الذهب فيستمرّ تهريبه وأكل أمواله حتى اللحظه قهراً وحُمرة عَين بمؤامرةٍ سوداء تحرّكت في مساحاتٍ حدودَها من تتزيّنُ أسماؤهُم بألقابٍ علميه ومَن تَخْلو اسماؤهم منها وجيشٌ تَرَكَ سِكّينَهُ في غِمدِها إنتظاراً ليومٍ أسودٍ قطعاً لن يأتِ.. ستَظلّ الوطنيه المفقوده في دواخل البعض هي أقسى ما ينتظر هذا الوطن.

melsayigh@gmail.com

 

آراء