وارتحل الحاذق صاحب مكتبة الأمل موسي أبوزيد مختار!

 


 

 

maqamaat@hotmail.com
maqamaat.net

قال أبو الطيب المتنبي في معرض رثائه أم سيف الدولة

رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال علي النصال
وهان فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي

لكننا نبالي يا أبا الطيب بفقدان الأحبة وهي من الرزايا التي لا تبرأ جراحاتها ولا تندمل آثارها بمرور الزمن وكر السنين في زمان قل فيه الخير واستشري فيه الشر، أعز ما تظفر فيه من ظفريكن بصديق صدوق وخل وفيّ لا يعصمك من جزعك المفضي للهلاك عليه، إلا الصبر الجميل و حسن الظن بالخالق العظيم والأمل في أن يجمعك به وبغيره ممن افتقدت في مستقر رحمته اخواناً علي سرر متقابلين. تري هل انقدح في حدس فقيدنا موسي أبوزيد مختار ذلك المعني العظيم عندما أطلق اسم "لأمل" علي مكتبته العامرة في سوق ود مدني الكبير "مكتبة الأمل" ستينيات القرن العشرين، وماذا يخفف من مصائب العيش سوي فسحة الأمل؟!
وخلال الأعوام القليلة الماضية ارتحل نفر كريم ممن عرفنا من أخيار كثر جمعتنا بهم مجامع الخيروالعطاء فطويناالأسي عليهم في الضلوع والحنايا عوضا عن تحبير القراطيس في رثائهم ولمن لا يعلم فتلك مشقة تذرف عندها العبرات. منهم أهلي: أخي الأكبر وهو بمثابة الوالد منا ، أحمد هارون، وأبناء أعمام:
البروف الخضر عبدالرحيم والبروف حسن ابنعوف وتاج السر بابكر. ومنهم أصدقاء خُلص: الإعلامي الضخم الودود حسن عبد الوهاب والذي كنت أزمع زيارته في بيته في الصحافة لكن المنايا كانت أسرع من خطايا إليه ،والصديق حلو المعشر الأستاذ عبدالكريم نور الدين حسين حفيد شيخ شريف صاحب جزيرة الأشراف في لبب ، وزمر عرفهم الناس في ساحات العمل العام وعرفناهم نحن في سوانح الأنس الجميل ، دفع الله الحاج يوسف القانوني المثقف الذي يحفظ الأشعارويطربه جرس الكلمات الراقصة ، يحدثك عن محمد أحمد محجوب الذي تدرب علي المحاماة في مكتبه وسيداحمد عبدالهادي و مبارك زروق، أقران فرقت بينهم سبل السياسة ولكنها لم تفسد الود بينهم فجمعتهم الزمالة وحب الأدب والثقافة وحب السودان والاقتصادي الكبير والصحافي الموهوب ،عبدالرحيم حمدي وغيرهم قد سبقوهم. وقد شهدنا المحجوب أحد أبرز قيادات حزب الأمة في تأبين قطب الاتحادي مبارك زروق في استاد ود مدني تخنقه العبرات فلا يكمل خطابه في تأبين الرجل! كان من حقهم عليّ وفاء للصحبة أن أكتب لكن كأنني تطيرت من المراثي ، تصورت كأنها تستدعي مزيدا من الموت وفقدان الأحبة خاصة بعد أن حلت بالناس جائحة الفيروس المتوج (كوفيد ١٩)، فقد رثيت اخي جعفراً كتابة فلحقت به شقيقتي الكبري في ظرف أشهر قلائل ،فعدت إلي الرثاء المكتوب ثم أحجمت مذعناً لذلك الشعور الخفي كالذي انتاب يعقوب حين أمر أبناءه ألا يدخلوا مصر من باب واحد . مجرد حدس لا يقوم علي دليل بل هو سمة من سمات الضعف الإنساني الذي يعتري الناس بين الفينة والأخري كلما استبانوا في أنفسهم العجز التام في وجه الأقدار وقلة الحيلة. ولكن ماذا نصنع إزاء ذلك والأفاضل يغادرون في كل يوم تشرف فيه الشمس! ولقد رثي أولئك من هم أعرف بهم منا وأقدر على البيان.
كانت صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من شوال ١٤٤٢ الموافق ٤ يونيو ٢٠٢١ هي نهاية رحلة فقيدنا الأخ الحبيب والشيخ الجليل موسي أبوزيد مختارفي هذه الحياة الدنيا والتي بدأت في العام ١٩٢٩ حيث وري الثري في الحلفاية التي جاء إليها من مدينته المحببة ومسقط رأسه ود مدني السني، حيي مروجها البهية الحيا، ليكون في جوار مركز الشيخ عثمان رحمه الله لتحفيظ القرآن الكريم في شمبات.
والشيخ موسي أبوزيد هو شقيق البرفسور عوض أبوزيد عميد كلية الطب الأسبق في جامعة الجزيرة والمرحوم المستشار بديوان النائب العام الأستاذ صلاح أبوزيد. وأبناء الشيخ موسي هم طه وطارق ومصعب وكريماته هالة وهيام والدكتور مازن عوض أبوزيد هو ابن عمهم .والسيدة الفضلي زوجته هي محاسن هاشم عامر شقيقة المرحوم الأستاذ صلاح هاشم عامر من عشيرة المدنيين وكان من تجار مدينة ود مدني وهو إن صدقت الذاكرة ،من دفعة نقد ونميري وحسن الترابي في ثانوية حنتوب.
والمرحوم موسي أبوزيد كان صاحب ثالث أهم المكتبات في مدني، مكتبة الأمل وكان مقرها في السوق الكبير،منطقة الصاغةفي ذات الشارع الذي كان يضم فندق الخواض. وهي مكتبة عامة لكنها كانت مهتمة أكثر بكتابات الفكر الإسلامي الحديث والحركي ولعلي فصلت في كتابنا ( رسائل في الذكري والحنين) سيرة مكتبات ود مدني وكان أكبرها مكتبة السيد مضوي وكانت عامرة بكل صنوف الثقافة ، مكتظة علي الدوام بالمهتمين بشأن الثقافة، وكانت هناك مكتبة الفجر لعمنا سيداحمدالشايقي وكانت متخصصة في كتب الفكر الشيوعي واليساري ، تجد فيها ترجمات السوري خالد بكداش كالمانيفست لماركس وانجلز وكتاب بعنوان ( الديالكتيك) كان يعد مدخلاً للفكر الماركسي. وكتاب "رأس المال" لكارل ماركس .إلي جانب هذه المكتبات كانت هناك مكتبة ( بوكشوب) تأتيك بالمجلا
ات الانقليزية والكتب يديرها الشاب محمد يوسف الكارب وفي ذات العمارة مكتبة العم عيسي للجرايد اليومية. وهناك مكتبة عامة في الحي الذي كان يعرف بالبريطاني و مكتبةالمجلس الثقافي البريطاني علي الشارع الذي يصل المدينة برئاسة مشروع الجزيرة في بركات. هذا العدد من المكتبات في مدينة كان عدد سكانها في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين لا يتجاوز نحو مائتين وخمسين ألف نسمة. لا تعجب إذن كيف كانت مدني رافداً مهماً من روافد الثقافة والفكر والسياسة والأدب في السودان. كنا صبية متطلعين للحياة في مناخ ملؤه الآمال العراض في مدينة نابضة بالحياة قد ازدهرت بمشروع امتداد المناقل يهاجر الناس إليها من كل أركان السودان ولم يكن وقتها في الجوار القريب والبعيد ثمة مكان يغري بتركها إلي غيرها فقد كان السودان منارة في المنطقة بأسرها بل كانت مدني مهجراً لكل أبناء السودان .جاء أسلاف موسي من أقصي الشمال من قرية (سوي) شمال دنقلا كما جاء آخرون من المغرب العربي ومن شنقيط ومن مصر ومن الهوسا في الساحل الإفريقي ومن كل مكان فتصاهروا واندمجوا وكونوا بندرا متجانساً أضاف كل جميل حمله أولئك من حيث أتوا إلي جمالها ومحاسنها.
كنا نختلف إلي تلكم المكتبات جميعاً. أما موسي فقد كان يدا حانية تلقانا بالبشر والترحاب يعلو وجه الطيب الابتسام يطلب لنا الشاي ويقوم بنفسه يدلنا علي جديد ما انتجت مطابع بيروت. كانت حماسته تغرينا بالمطالعة وإقتناء جديد المطابع وتلك خدمة عظيمة لا تقدر بثمن اسداها لجيلنا .وعبره وعبر مكتبته تعرفنا علي كرام مضوا رحمهم الله وبارك في أعمار من بقوا منهم : عمر محمد الحاج وعمنا أحمد الإمام وشرف الدين جمعة وضوء البيت الأمين وعبد المنعم الدمياطي وعباس إبراهيم النور ، نصرالدين شندقاوي وعبداللطيف علي إبراهيم والسادة الأدارسة الشيخ بيومي والشيخ حسن عبدالعزيز وعمنا البلة صاحب الحلواني والشيخ الوقور مدثر البوشي وربيع حسن أحمد واحتضنت المدينة فرعاً من فروع السمانية قاده الشيخ عبد الرحمن شاطوط وفرعا للقادرية بقيادة الشيخ البخاري وضجت المدينة بالفعل السياسي في سلاسة وصلات لم تنقطع بين قياداته. لحزب الأمة الأمير محمد عبد الرحمن نقد الله وللاتحاديين عثمان محمد عبدالله وأحمد دهب المحامي وعبدالرحيم أبو عيسي وممن برزوا في ثورة أكتوبر عبدالمنعم مصطفي المحامي، ومن الجمهوريين: محمود محمد طه ،سعيد الشايب ، علي صديق وعبدالرحمن عساكر . ،من علمائها الشيخ الطيب أبو قناية أستاذنا شيخ الجيلي من آل دشين وشيخ الجيلي حسن صلاح.
واحتمل شارع سنكات حملا يبدو في ظاهره حملاً ثقيلاً مجموعات متنافرة الرؤي: مقار الحزب الجمهوري الاشتراكي والحزب الشيوعي وجبهة الميثاق الإسلامي ودار الاتحاديين ولكن مع ذلك ،بدت المدينة بندرا للتسامح السياسي يصلح لبلورة ديمقراطية حقيقية تشمل الجميع في مقبل الأيام ولذاك حديث آخر خارج هذا السياق..
واساني بعض المواساة وخفف من حزني علي الشيخ موسي أن صلتي به ام تنقطع رغم أني غادرت البلاد في ١٩٧٦، وظل مكثي بعد ذلك بين محطات الدبلوماسية حيث نمكث في الخرطوم ما شاء الله من مكث ريثما نتلبس بالأسفار مجدداً. وربما أبقي تلك الصلات حية مجاورة سكناه في حي البان لأقرباء لنا ،المرحوم عبداللطيف أحمد علوية وزميلنا ،أحد شطار ذلك الزمن ، الباشمهندس الزراعي علي الأمين الجاك وأحد الصاغة المتصوفة لعل اسمه قمر الأنبياء اشتهر بفعال الخير. ثم أعادت سنوات التدريس الخمس الأخيرة في ميدان التدريس الجامعي تلك الصلات وأحيت موات الذكريات.
قضي الشيخ موسي العقد الأخير من حياته في مشتل لاحدي كريماته كنت أزوره فيه أحيانا فيلح عليّ لنذهب إلي البيت للغداء أو الشاي ، شأن هذا الجيل الفريد ألذي تتناقص أعداده فأقنعه بأنني مستمتع بجوار الخضرة والازاهير فيوافقني ويقول لي ضاحكًا أن سبب مجيئه بشكل يومي للمشتل هو هذه الجيرة المتميزة للخضرة.
كان وفياً يسأل دوما عن أخوانه ورغم السن ووطأة الربو علي جسمه النحيل يصطحبني لزيارتهم والسؤال عن أمر معاشهم وكان يقرأويناقش ويكتب مواد يستأنس برأيي فيها.
اللهم اغفر لعبدك موسي أبوزيد وتقبله في الصالحين وجملنا بالصبر عليه واجعل البركة في عقبه. " إناء لله وإناء إليه راجعون."

 

 

آراء