والله الديمقراطية حلوة

 


 

 



melmekki@aol.com



خرجت من بلاد يحكمها النميري  بالحديد والنار الى بلد يحكمها الجنرال ضياء الحق بنفس الفكرة ولكن بطريقة أبوية تذكر الانسان بالرئيس ابراهيم عبود الذي لم يكن يسجن أو يعذب وكان فعلا يعمل من أجل الوطن وخيره وسعادته فأقام المشاريع العظام انطلاقا من مبدأ أحكموا علينا بأعمالنا،إلا أنه نسي شيئا واحدا هو أن سعادة البشر لا تكتمل إلا بالحرية وان الانسان من دونها حشرة من حشرات الأرض وهوامها لايهمه مشروع الجنيد ولا طريق الخرطوم – مدني ولا كرتون أروما الذي طرشق بأعلى ضوضاء ممكنة.
من بلاد الجنرال ضياء الحق توجهت الى بلاد التشيك الجميلة وكان يحكمها آنذاك السيد هوساك وهو شيوعي مخضرم ينحدر من أصول سلوفاكية ويعيش في  النصف الحلو من الجمهورية وهو الجزء الذي أخذ عزاله بعد انهيار الشيوعية وأصبح دولة مستقلة . وبطبيعة الحال كان نظامه شموليا ورغم تقدم بلاده ورفاهيتها  المادية التي لا تقبل المقارنة  مع السودان أو باكستان  إلا أن شعبه لم يكن سعيدا. ونظرا لكونه شعبا ذكيا مثقفا  فقد كانت هوايته القومية هي التنكيت على حكومته ورجالاتها الأبرار.
وهي  نكات تعد بالألوف وتملأ المجلدات ولكنني سأروي واحدة منها   فقط على سبيل العينة.
تقول النكتة أن هوساك أسلم الروح وأعلنت الدولة وفاته على شعبه المحب إلا أن مكان دفنه كان مشكلة سياسية كبرى فقد قال التشيك: -انه من سلوفاكيا ويجب دفنه هناك.
وقال السلوفاك
- لقد قضى عمره كله في الاراضي التشيكية مناضلا في الحزب ورئيسا للجمهورية ومن باب أولى دفنه في البلاد التي عاش فيها وخدمها طيلة حياته.
وأصر كل جانب على رأيه: التشيك لا يريدونه والسلوفاك ايضا لا يريدونه.وعند ذلك نط يهودي تشيكي وقال:
- انا عندي الحل ..نأخذه وندفنه عندنا في اسرائيل ونكون حلينا الاشكال. عند ذلك اعترض الجانبان وصاحوا: انتم اليهود لا تحسنون الدفن..لقد دفنتم  السيد المسيح فقام بعد ثلاثة  أيام. ونحن لا نستطيع أن نجازف
-                 بعد خروجي من باكستان اودت مؤامرة غادرة بحياة الجنرال ضياء الحق فقد كان من عاداته اذا عاد من سفر أن يأتي محملا بالهدايا للوزراء وأعضاء السلك الدبلوماسي،وكثيرا ما تمتعنا باليوسفي الهجين الذي كان يبعثه الى مساكننا في أوائل الموسم وبالمانجو السندي المعتبر الذي كان يتحفنا به في كل موسم، وفي رحلة نظمها لنا  الى كشمير الباكستانية "خلع علينا" كما يقولون في الاثار القديمة فقد أعطى كل واحد منا جبة الصوف التقليدية التي يلبسها اهالي كشمير في بردها الشديد. وبعد عودتنا الى اسلام اباد راحت  زوجات السفراء يبحثن عن الحائكات القديرات ليحولن جبة الصوف الى جوبات واسكيرتات لهن

-          يقولون ان الرئيس الراحل أمر بتحميل الفاكهة في طائرته الخاصة ليهادي بها  الوزراء والسفراء ولكن يدا غادرة امتدت في الخفاء ووضعت مع الفاكهة الشهية قنبلة قاتلة تفجرت والطائرة في السماء فتوزع حطامها على مئات الاميال المربعة ولم يعد ممكنا فرز الاجساد البشرية من الحقائب والفاكهة والحطام،وهكذا مضى رجل باكستان  القوي دون لحد أو ضريح
-          لا تقل "يستاهل"..حرام عليك يار جل وحرام عليك ياست فالمرحوم رغم أخطائه أحسن الى بلاده كثيرا وأحسن الى جارته الافعانية وعلى رأس تلك الأخطاء استغلاله للدين لتبرير حكمه الدكتاتوري.وقد كان من فضائل الجماعة الاسلامية في باكستان انها رفضت التعاون معه ودخول تشكيلاته الوزارية.وقالت له الجماعة :ان الشعار الاسلامي شعارنا نحن ونحن نتولى تطبيقه متى جئنا الى السلطة  ولن نترك امر تطبيقه لجنرال من الجيش مهما بلغ إخلاصه وحماسه.

الله يرحمنا جميعا .


وهكذا يرى سيدي القارئ وسيدتي القارئة أنني قضيت تلك السنوات الطوال بين النميري (لا جاز لا فحم) وضياء الحق وهوساك ولا شك انني في غضون ذلك نسيت شكل الدمقراطية وطعمها ورائحتها ولم يبق لي منها سوى ذكريات الشباب الاول مع اولئك العظماء:الازهري،عبد الله خليل،شيخ على عبد الرحمن،مبارك زروق،الامام الصديق وذلك الجندي المجهول: المحلاوي نائب عطبرة الذي كان الوحيد بين ابناء عصره    والاول في الحديث عن ثروات السودان البترولية والمعدنية.


عدت من  تلك السياحات عام  1988لأجد في  السودان ضالتي المفقودة فقد كانت تحكمه الديمقراطية وكان رئيس وزرائه دولة الصادق المهدي (اشطب اذا كان ممنوعا ذكره حتى في السياق التاريخي)كان يخاطبنا من الاذاعة والتلفزيون قائلا:بنو وطني الحبيب.
يا سلام،يا سلام.وكمان شهدت أول ليلة سياسية بعد عقود من الحرمان..وشفت مظاهرات ومواكب يحرسها البوليس ولا يطلق عليها ذلك الغاز البذيء..شفت ندوات وقرأت كتابات تنضح كلها بالرغبة في تحرير الوطن من فقره وتخلفه
وتحويله الى جنة لأجيال السودانيين. ورأيت المجتمع المدني ينهض في فورة عارمة ليأخذ دوره الضائع في بناء الوطن.
قلت"فورة عارمة" فبعد حبس امتد 16 عاما كنا مليئين بالاحلام الممكنة والمستحيلة وكنا سعداء واحرار.. صحيح ان الكهرباء (الكهرباء وحدها وليس الماء والكهرباء) كانت تنقطع عن بيوتنا وكنا نصطف لوقود سياراتنا ورغيف اولادنا ولكنا كنا سعداء وممتلئين بحب الوطن والناس الذين يحيطوننا فقد كنا  جميعا "بنو  وطني"وكان جنيهنا(نعم كانت هنالك عملة بذلك الاسم)  كان   يرغي ويزبد غاضبا لأن الدولار الواحد صار يساوي خمسة عشر من فلذات اكباده وهو كاره لذلك ومستكثر له.
من ندوة عن البيئة الى ندوة عن الحدائق والبساتين..من اجتماعات تأسيسية لمنظمة جديدة من منظمات المجتمع المدني الى ندوة لمبتوري النميري(لا جاز لا فحم)..من حلم الى حلم كان الوطن يغلي في اعماقنا ويبشر بالمستقبل السعيد  وكنت افتتح خطاباتي لصديقي الشاعر المبدع سيد احمد الحردلو بهذه الابيات:
أيها الناس من مات مات
ومن لم يمت فليجئ  معنا
اننا ذاهبون الى جنة عرضها الوطن العربي الكبير في تلك الايام التي تدير الرأس كنت مزهوا ببلادي وشعبها وفي الطريق العام كثيرا ما كنت اقول لنفسي:انظر يا ولد..انك رجل يسعى في بلاد الانتفاضة..رجل له ظل يتبعه وله ارادة واحترام ولا يستطيع احد ان يبهدله دون مقاومة وعراك .والى كل ذلك كنت مليئا بالعطف المتساوي على كل تيارات السياسة السودانية فقد كان بوهمي انهم جميعا يسعون في خير البلاد مهما اختلفت مناهجهم واساليبهم.

لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسور وفوق الجسور..تغيرت الدنيا وذلك من طبعها اللئيم ولكن شيئا واحدا ظل على حاله هو الحلم بالعيش في بلد ديموقراطي يكفل الحرية ويسمح لنا بأن نقول آرائنا في سياسة السودان لأن السودان هو البلد الوحيد الذي اختاره الله ارضا لميلادنا من بين قرابة مائتي بلد ينتمون كلهم الى الامم المتحدة.واذا تحدثنا في شئونه فان ذلك ليس تدخلا في الشئون الداخلية لتنجانيقا او جمهورية فولفو العليا- انه وطننا وقد جئنا بأرض آبائنا وقبلنا بتذويبها في اطاره العريض ولا يحق لأي كانن ان يجعلنا نندم على ذلك القرار ويضطرنا لحمل البندقية لنطالب (ضمن اشياء اخرى) بجمهورية أم قريقيرة الديمقراطية
/////////

 

آراء