ورقتي في لقاء نيروبي: علمانية الدولة أم دينيتها؟ …”1″ محاولة لمؤالفة المفهومين

 


 

 

 

 

مقدمة
عبارة "تحكيم شرع الله"، ظلت، لعقود طويلة، هي العبارة السحرية، التي استطاعت تيارات الإسلام السياسي أن تحشد بها، سياسيًا، قطاعًا عريضًا من الجمهور المسلم، وتحصره بها في جيب التبسيط. وهكذا، نشأ التصور، بأن ما دُرج على تسميته، تاريخيًا، "الشريعة الإسلامية"، هو الوصفة السحرية الوحيدة، الكفيلة بحل قضايا الفكر، والسياسة، والاجتماع، في واقع المسلمين الحديث، المأزوم، المتسم بالتركيب والتنوع، والتعقيد.
هذه الدعوة التي بدأت ارهاصاتها في ما يُطلق عليه، "عصر النهضة العربية"، ثم علا صيتها في النصف الأول من القرن العشرين، خاصةً، في مصر وباكستان، دعوة مأزومة، أفرزتها الصفعة الحضارية المجلجلة، التي نتجت عن التقاء الشرق الإسلامي، وجهًا لوجه، مع الحضارة الغربية، إبّان الحقبة الاستعمارية. حينها، أدركت النخب المسلمة، عن يقينٍ، مقدار تخلف واقعها. ولكن، بدلاً من أن تتجه عقول هؤلاء الدعاة، من حملة شعار "الدستور الإسلامي"، و"أسلمة الدولة"، إلى مناقشة سبل الخروج من ربقة التخلف، بدراسة التجربة الغربية، ومعرفة الكيفية التي انطلقت بها أوروبا من سيطرة الكنيسة، والإقطاع، وقبضة الحق المقدس للأباطرة والملوك، في الحكم، اختاروا الانكفاء على الجوانب غير المشرقة، في تاريخهم الديني، والعودة إلى متون النصوص الدينية، وتأويلاتها القاصرة عن شأو العصر، لدى الكتاب المدفوعين بالعاطفة الدينية، وحدها، محاولين كبس واقع بالغ السعة، والتعقيد، والحيوية، في أضابير نصوص الفقه القديمة، بالغة الضيق.
بدلا من تقديم أدبياتٍ نقديةٍ وفكرٍ إصلاحي، جنح هؤلاء الدعاة للمزايدة، والاستعلاء. فامتطوا ظهر حصان التفوق الأخلاقي المتوهم، فوصف بعضهم؛ مثال محمد قطب، الحالة الكوكبية المتوثبة، حينها، المحتشدة من أجل تحقيق قفزاتٍ أكبر في التقنية والتنمية، وفي الديمقراطية، وحقوق الإنسان، بـ "جاهلية القرن العشرين". أدى ذلك التبسيط إلى انحصار قطاعٍ كبيرٍ جدًا، من العقول العربية والإسلامية، خاصة عقول الشباب، والطلاب، على امتداد العالم الإسلامي، في هذا الجيب المتحوصل، غير المنتج. وهكذا، أضاع رد الفعل المأزوم، تجاه تقدم الغرب، على الشعوب الإسلامية، ما يقارب القرن من الزمان، أُنفق معظمه في العنف السياسي، والتجارب الاعتباطية. لكن، كما رأينا، فقد دعت، حركة النهضة التونسية، مؤخرًا جدًا، وهي أول الخارجين من تلك الغيبوبة الطويلة، إلى ضرورة فصل الدّعَوِي عن السياسي. وجاء ذلك، بصورةٍ مفاجئة، وبلا تسبيبٍ منهجيِّ كاف. وهو أمرٌ يوحي، أن ضغوط الواقع السياسي، وحساباتِ الربح والخسارة، كان لها الدور الأكبر في إحداث تلك النقلة. ومع ذلك، يُحمد لحركة النهضة ذلك الإعلان، لأن فيه اعترافًا عمليًا بالأزمة، ودعوة للتفكير على نحوٍ جديدٍ، مغاير.
من الناحية الأخرى، نشأ من صدمة الاحتكاك بالغرب، عن كثبٍ، تيارٌ آخرٌ، مأزوم، تمثل في الماركسيين، والعروبيين؛ من ناصريين، وبعثيين. أدار هؤلاء ظهرهم لتراثهم، وواقعهم الثقافي، والاجتماعي، لتنشأ على أيديهم ما يمكن أن نصفها بحكومات الصفوة المغتربة عن واقعها، المنبهرة بالعلمانية، ولكن، على النمط الشيوعي، الاستبدادي، الذي يعتمد نظام الحزب الواحد، والدولة الأمنية. عطلت هذه النخب العلمانية العروبية، حراك الوعي، وحراك الثقافة الحرة، والتنمية، وحراك تجديد الخطاب الديني، وقعدت بالأوطان، عقودًا من الزمان. وحين تساقطت هذه الأنظمة، مؤخرًا، في ثورات الربيع العربي، أسفر التحول المعلول، الناقص، الذي جرى، عن خرابٍ، ودمارٍ، وهجراتٍ جماعية ملحميةٍ، واضطرابٍ في العلاقات الدولية، وانبهامٌ للسبلِ، وحيرةٍ، مطبقةٍ. وكما رأينا في مصر، فقد أعادت النخب الكارهة للإسلام السياسي الديكتاتورية العسكرية، من جديد، بعيارٍ أقل، وكفاءةٍ أقل، وأحوال مصرية عامةٍ أسوأ. وتقول الشواهد، الآن، إن الأزمة المزمنة، قد أخذت تعيد إنتاج نفسها، على نحوٍ جديد. ولقد مثل السودان، الذي هو موضوع هذا الملتقى، المختبر الذي جرت فيه تجربة الإسلام السياسي، التي قدمت أبلغ دليل على أن "أسلمة الدولة" تعني، بالضرورة، تقسيمها، وشرذمتها، واجهاض طاقة دفعها، وتعطيل كل قواها الحية.
جدلية الديني والعلماني :
مالت النخب الحداثية السودانية، في معسكري العَلمانية، والدين، في ممارستهما السياسية، في الواقع السوداني، إلى نهج القفز على الواقع، والتغيير من أعلى إلى أسفل. فاتبعت نهج الانقلابات العسكرية، بدلا من العمل الوئيد من القواعد، صُعدًا إلى أعلى، طلبًا للتغيير. انتهت الانقلابات العسكرية، التي قام بها كلٌّ من العلمانيين، والإسلاميين السودانيين، إلى فشلٍ مدوٍّ. فالنخب التي قادت هذه المسيرة الطويلة، التي اتسمت بالإخفاق الشديد، لم تكن تملك إدراكًا عميقًا، لا للعلمانية، ولا للدين. وقف وراء تجارب الحكم العربية الإسلامية الطويلة المتعثرة، تصوران قاصران. فلا العلمانية، كوعاء للحريات، وللديمقراطية، وفصل السلطات، ولشفافية الحكم، ولحراسة الحقوق، كانت مفهومةً، ومطبقةً، كما ينبغي. ولا الدين، في بعده الروحاني، الذي يربط المجتمعات بمرجعيته الأخلاقية، وقواعد تربيته، خاصة تربية النشء، وبوصفه؛ أي الدين، رافعةً ساندةً لثقافتها التكافلية، التراحمية، كان، هو الآخر، مفهومًا، على نحوٍ صحيحٍ. فيسارنا العلماني، ديكتاتوري إقصائي، وإسلاميونا، ديكتاتوريون إقصائيون، بل، ورأسماليون أقحاح، كما بينت تجربة الانقاذ في السودان. فهم يرفعون الشعار الإسلامي، ويديرون البلاد بمنهج الرأسمالية المتوحشة، فيطحنون مجتمعاتهم، ومنظومة قيمها، طحنًا ذريعًا.
هناك عداء أعمي للفظة "ديني"، وسط قطاع ٍعريضٍ من العلمانيين. وهناك عداء أعمى للفظة "علماني"، وسط قطاعٍ كبيرٍ من المتدينين. وعليه، نشأت حالةٌ من الاستقطاب والانقسام المجتمعي، تتسم بالسير في خطين متوازيين، وبعدم الاستعداد، بل، وعدم القدرة على توليف المفاهيم، ومزاوجتها. رغم أن "علمانية الدولة"، من جهة، و"روح الدين"، من الجهة الأخرى، لا يقفان، في حقيقة الأمر، على طرفيْ نقيض. فالذين يرون ضرورة أن تكون الدولة، بوصفها جهازًا إداريًا مُنسِّقًا لجهود الأمة، دولةً علمانية؛ أي محايدةً تجاه الأديان المختلفة، لا ينبغي أن يكونوا، بالضرورة، في نظر خصومهم، رافضين للدين، أو معارضين للتدين، ولقيمه الرفيعة. كما أن مفهوم التدين، لدى غلاة العلمانيين، الذين يرون في الدين ممارسة من مخلفات الماضي، وأن دوره في الحياة لا يتعدى تعطيل طاقات الشعوب، وحراسة التخلف، مفهوم أوشك، هو الآخر، على الانقراض. فحالة العداء المطلق للدين وللتدين، التي أذكتها التصورات الماركسية، اللينينية، الاستالينينة، الماوية، وبلغت حدَّ تجريمه، تبخّرت، هي الأخرى، تمامًا، مع انهيار المنظومة الشيوعية. ووضح أن غالبية البشر يظلون متدينين، بطريقةٍ أو بأخرى. بل، لقد كانت الكنيسة البولندية، ذراعًا، قويًا، داعمًا لحركة "تضامن"، التي فككت النظام الشيوعي، وأعادت الحريات والديمقراطية في بولندا. كما أن تيار لاهوت التحرر، في أمريكا اللاتينية مثل ذراعًا ساندةً للتحول الديمقراطي,
بقي التدين، كما هو واضح من كل مسيرة التاريخ الإنساني، ظاهرةً مرتبطةً عضويًا بالتكوين النفساني للفرد البشري، وللجماعات البشرية، أينما وجدت. بل أثبت علم الاجتماع الدور التاريخي للدين في حياة المجتمعات. لكن، كما يرى هبرماس، فإن من اللازم على الوعي الديني، أن ينجح في اجتراح صيرورةٍ اندماجيةٍ في المجتمع الحديث. فعلى الرغم من أن الدين يمثل في الأصل، "تصورًا للعالم"، أو "فهمًا قائمًا على عقيدة"، يرى أن من حقه الوصول إلى السلطة، ليبني شكلاً من أشكال الحياة، في إطارٍ كليٍّ، فإن عليه الآن أن يعرف كيف يستغني عن هذا الحق. بعبارةٍ أخرى، على المتدينين أن يستغنوا عن الحق في احتكار التأويل، والتنظيم الشامل للحياة، نزولا عند شروط علمانية العلم، وضرورة أن تكون سلطة الدولة سلطةً محايدة، تتيح المجال العام للحريات الشاملة، وألا تتصرف وكأنها تمثل الحق المطلق . ومن الناحية الأخرى، لا يحق للمواطن العلماني، طالما ارتضى أن يقدم نفسه كمواطن، أن ينكر إمكانية صحة التصورات الدينية المتعلقة بحقيقة العالم. ولا ينبغي من ثم، أن ينكر على المواطن المتدين حقه في التعبير عما يراه، بلغةٍ دينية، وحقه في طرح مواضيع للمناقشة العمومية، من منظورٍ ديني. أكثر من ذلك، ينبغي على الثقافة العلمانية الليبرالية أن تطالب المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة، إلى لغة عمومية، واضحةٍ بالنسبة للجميع .
يرى كمال عبد اللطيف، على سبيل المثال، أن هناك ضرورة مستمرة، لتجديد النظر السياسي وتطويره. ويعني هذا ألا يرتبط استخدام مفهوم العلمانية، في الجدل السياسي، في السياق العربي الإسلامي، الراهن، بدلالاتٍ متحجرةٍ، مغلقةٍ، ونهائية. بل ينبغي أن يتحول استخدامه، في هذا السياق، إلى مناسبة لإعادة انتاجه، وإعادة تعريفه في السياق السياسي المحلي، بدلالاتٍ، جديدةٍ، قادرةٍ، على أن تستوعب متغيراتِ المجال السياسي، في أبعاده المختلفة. يرى عبد اللطيف، أن علاقة السياسي بالديني ليست علاقةً رياضيةً، ومن ثم، لا يمكن تحويلها إلى عمليةٍ حسابيةٍ مغلقة. فهي في حقيقتها، مجالٌ قابلٌ للتفجير، وللتشظية .
أصبحت "علمانية الدولة"، بمعنى وقوف مؤسسة الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وحراسة مبدأ كفالة حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرمة الضمير، شرطًا لازمًا، ليقوم التدين لدى الأفراد على الاقتناع، لا على الخوف. ويرى، عبد الله النعيم، على سبيل المثال، أن علمانية الدولة، التي يفرق النعيم بينها وبين علمانية المجتمع، ضرورية للغاية، لكي يمارس المتدين دينه بطريقةٍ أصيلة، صادقةٍ، لا نفاق فيها. يقول النعيم:
لكي أكون مسلمًا عن اقتناعٍ، وإرادةٍ حرة، وهي الطريقة الوحيدة لكي يصبح المرء مسلمًا حقيقيًا، فإنني أحتاج دولةً علمانية. وأعني بالدولة العلمانية تلك الدولة المحايدة تجاه الأديان المختلفة، وهي الدولة التي لا تدّعي، أو تقوم فعلاً، بفرض الشريعة؛ أي، القوانين الدينية للإسلام. فالشريعة الإسلامية، ببساطة شديدة، لا يمكن فرضها عن طريق القهر والخوف من مؤسسات الدولة ... هذا ما أعنيه بالعلمانية، في هذا الكتاب؛ وهو، تحديدًا، وجود دولة علمانية، تيسِّر إمكانية نشوء التقوى، وسط الأفراد، انطلاقًا من اقتناعٍ صادق .
منح الرأي سلطة المقدس :
لا يزال أهل التصور الديني الجامد، يرون أن السماء، قد شرّعت للبشر، مرةً واحدةً وإلى الأبد، وذلك، منذ نزول القرآن. ويرون أن ذلك التشريع سيبقى على ما هو عليه، حتى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبسبب ذلك المفهوم لا ننفك نسمع أن "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان". غير أن الفقهاء الذين روجوا لهذا المفهوم، لم يلتزموا به. فقد اضطرتهم تغيرات المجتمعات، واختلاف حاجاتها، بل، واختلاف الزوايا التي يرى منها الفقهاء، أنفسهم، الأمور، إلى أن يلحقوا آراءهم هم بالشريعة؛ أي بالمقدس، أو ما ظنوه مقدسًا، لا تجوز مناقشته، أو تعديله. وهكذا أصبحت آراء الفقهاء جزءًا من ذلك المقدس، رغم مجافات كثير منها لروح الدين، بل وللفطرة السليمة .
جرى ادغام آراء الفقهاء في بنية المقدس، على الرغم من أن آراءهم، في حقيقتها، آراء يمكن أن نصفها بأنها "علمانية". فهي، في حقيقتها، استجابة عقلية، لما لم تغطه النصوص المقدسة. ولذلك، فإن آراء الفقهاءـ ليست مقدسة، وليست نهائية. فهي اجتهادات عقول بشريةٍ، محكومةٍ بإطارٍ ظرفيٍّ وسياقٍ تاريخي، بعينه. ولكن لتكريس الاستبداد باسم الدين، وقفل الباب على أي مجتهدين جدد، أُعلن، في التاريخ الإسلامي عن، "قفل باب الاجتهاد". وهكذا تحول الفقه الإسلامي المدرسي، هو الآخر، إلى كهنوتٍ جديدٍ، لا يختلف عن الكهنوت الكنسي، الذي ثارت عليه أوروبا قبل قرون. فحالة الخنق التي عانت منها أوروبا في العصور الوسطى، هي ذاتها، ما تعاني منها المجتمعات الإسلامية اليوم.
على ذات هذه الأرضية الفقهية، ومنهاجها غير المتسق، وغير المنسجم مع ذاته، نشأت، في ما بعد، حركة الإسلام السياسي، في تجلياتها المختلفة، لتمزج الاستبداد الفقهي، الذي منح آراء الفقهاء قوة المقدس، بالاستبداد السياسي، الذي وجد أن أفضل سبيلٍ لحماية استبداده الأرضي، هي نسبة آراء البشر العاديين، بل، وحتى القاصرين معرفيًا، إلى سدة المقدس. وهكذا، أصبح وكأنّ الجهة التي تشرع، وتحكم، وتقتل، وتعذب، وتمارس الظلم، وتسلب الحقوق، وتقوم بكل التجاوزات، هي السماء.
لقد نشأت العلمانية، في السياق الإسلامي، مع نشوء الحاجة للفقه، منذ القرون الأولى للدعوة الاسلامية. كل ما في الأمر، أن التسويغ الذي نشأت به، وقد كان تسويغًا صحيحًا، انتهى إلى حصر حق ممارسته، إلى حدٍ كبيرٍ، في أئمة المذاهب. فرغم أن الحياة قد تغيّرت في القرون الأخيرة، بصورةٍ لا سبيل إلى مقارنتها بالأحوال اتي كانت سائدةً، في زمان أئمة المذاهب، فقد بقي الناس يظنون أن حل أي معضلة فقهية، لا يزال متوفرًا في المتون التي خطها أئمة تلك المذاهب، رغم قِدم أحكامها، وعدم مناسبة كثيرٍ مما قالت به، لزماننا الراهن. وليس أدل على هذا الاستبداد بالرأي، والاصرار على خنق العقول، الذي أدغم آراء بشرٍ عاديين، تتسم أحيانًا بالقصور البيِّن، بقداسة، وإرادة السماء. وليس أدل على ذلك، من حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين، لمجرد أنه جاء بآراء من داخل بنية الفكرة الإسلامية، اختلفت عما يراه الفقهاء، في الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، وجامعة أمدرمان الإسلامية، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف السودانية، والحركة الاسلامية السودانية.
تحمل الحاجة العملية التي أوجبت نشوء الفقه، أقوى الدلالات على أن الديني لا يمكن يستغني عن العلماني. بعبارة أخرى، لا يوجد تشريع سماوي يتضمن من التفاصيل ما يستوعب قضايا الحياة المتجددة، التي يخطئها العد، والتي لا يمكن مقارنة سياقها وتعقيداتها الراهنة، بأي مما كان عليه حال المجتمعات في الماضي. فلا بد من أن يقوم العقل، ودعنا نسمه هنا، "الرأي البشري"، أو "الرأي العلماني"، بالمزاوجة بين روح الدين ومراده، وبين تفاصيل حاجات الناس المتغيرة دومًا. وعمومًا فإن قصة تكاملية الديني والعلماني، ليست جديدة.
فما يتصوره البعض، تضادًا، وتوازيا ثابتًا، بين الدين والعلمانية، تراه التيارات الفكرية الأحدث، في الفكر المعاصر، مجالاً متداخلاً له طرفان يسهمان بحوارهما، ونقدهما لبعض، في انتاج سيرورة كلية واحدة. وعلى سبيل المثال، يرى روبرت كولز، أن العلمانية، بوصفها نزوعًا للعقلنة، انبثقت من داخل بنية الدين نفسها، كما في حالة الكاثوليكية، التي أنجبت البروتستانتية . وكما لم يستغن المقدس عن العقلي، "العلماني"، كذلك لن يستغني العقلي، "العلماني" عن المقدس. فالتصور العلماني، برغم الديمقراطية، وانفتاح المجال العام، إلا أنه لم يستطع أن يغل يد الرأسمال، فأعيد انتاج المظالم القديمة، في إطار جديد. كما جرى تجفيف الحياة من المعنى، وجرت "تشيئة" الإنسان؛ أي جعله شيئًا، أو كيانًا بلا روح، عن طريق الإعلاء المستمر لقيم الاستهلاك، وعبادة المظهر المادي، ونشر التسطيح العقلي، والتصحر الوجداني. باختصارٍ شديد، ما كان من الممكن للدين أن يستمر في حياة الناس، لولا الحوار الذي لم ينقطع بينه، وبين ما هو "علماني". وما كان من الممكن للعلمانية، أن تستغني كليًا عن قيم الدين. فلقد نشأت المجتمعات البشرية، أول ما نشأت، على التصورات الدينية. ولا يزال الدين يؤطر وعي وخيارات أغلبية البشر.
..........................................................
1/ يورغن هبرماس، وجوزيف راتسنغز، جدلية العلمنة والعقل والدين، (تعريب: حميد لشهب)، جداول للنشر والتوزيع، الكويت، 2013، ص 60
2/ المصدر السابق ، ص ص 62 -63
3/ كمال عبد اللطيف، التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ج م ع، 2007، ص 12.
4\ Abdullahi A. An-Na’im, Islam and the Secular State, Harvard University Press, Cambridge, MA, USA & London, UK, 2009, p. 1.
5/ يرى بعض الفقهاء ليس على الزوج تحمل تكاليف علاج زوجته، إن هي مرضت. فأهلها هم الذين يحب أن يتحملوا تكاليف علاجها. كما اختلفوا في أجر القابلة؛ هل هو على الزوج، أم على الزوجة.
6/ في حوار لروبرت كولز، عالم النفس الأمريكي، المشتغل بقضايا الروحانية، مع دوروثي داي، قالت دوروثي داي، لكولز: أنت تقلل من شأن الشك كجزء ثابت في بنية الإيمان نفسها، وتلك حالة تنطبق على كل قرن من القرون. أنت ترد السبب في نشوء العلمانية، بشكل رئيس، إلى العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. أنا لا أنكر أن للعلوم الطبيعية سلطة تدعم العلمانية اليوم. لكن، بحق السماء، لقد كان العالم العلماني موجودًا على الدوام، هنا، أو هناك. تلك هي القصة الكبيرة للعهد الجديد مع العهد القديم، وتلك، أيضًا، هي قصة البروتستانتية مع الكاثوليكية. أنت تنظر إلى جاليليو ونيوتن وأينشتاين وفرويد بوصفهم المدافع الكبيرة التي ظلت تدك معاقل الإيمان الديني، وتقضي على الروابط الدينية بين بني البشر. في نظري أن هؤلاء الناس ليسوا سوى جزء من قصة طويلة جدًا. راجع:
Robert Coles, The secular mind, Princeton University Press, Princeton, NJ, USA, (1999), p 40.


elnourh@gmail.com

 

آراء