ورقتي في لقاء نيروبي: علمانية الدولة أم دينيتها؟ محاولة لمؤالفة المفهومين (2)

 


 

 

 

 

الدين والعلمانية وما بعد الحداثة :-

لقد تنبه علماء الاجتماع، وعلى رأسهم ماكس ڤيبر، منذ القرن التاسع عشر، إلى دور الدين العضوي في المتشكل الاجتماعي البشري. يقول عزمي بشارة، إن ماكس ڤيبر لم يخالف ماركس، في التأكيد على أهمية الاقتصاد، في التحكم بحياة الناس. غير أن دراسة ڤيبر للظروف الاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة في أوروبا، وأمريكا الشمالية، في الفترة ما بين القرن السادس عشر، والقرن الثامن عشر، جعلته يضيف، أن المصالح، التي يسعى الناس لتحقيقها في المجتمع، لا تنحصر في المصالح الاقتصادية، وحدها. فهناك مصالح أخرى تتعلق بالقوة، والسيطرة، والمنزلة. كما أن اعتناق دينٍ معيّنٍ، والانتماء إلى جماعةٍ معينةٍ، قد يعينان على فهم الناس وصوغهم لمصالحهم. يضاف إلى ذلك، أن المنظومة الدينية الثقافية لجماعةٍ معينة، قد يكون لها أثرٌ في أخلاقية الجماعة، بحيث يُسهِّل هذا الأمر، أو يُصعِّب، التكيف مع منظومات اقتصادية بعينها . وبناءً عليه، يمكنني أن أضيف هنا، أن أخلاقية الجماعات السودانية، المستندة على القيم التكافلية، التراحمية، لجوهر الإسلام، وللتصوف، يجعل من الصعب عليها، أن تقبل، أو تستسيغ الرأسمالية المتوحشة، التي أتي بها اسلاميو السودان، وفرضوها على البلاد بالاستبداد، المستند على دعاوى دينية. فالدين، في بعض تجلياته، يمكن أن يمثل، وقد مثل بالفعل، في بعض منعطفات التاريخ، قوةً جماهيريةً رافضة للظلم، وساندة للعدل والمساواة. كما أنه يمثل أقوى آلية للتعبئة والحشد. وتأتي خطورته، أن طاقته هذه يمكن أن تستخدم للثورة ولتحقيق الحرية والعدالة، أو للعكس. فإذا لم يستخدم هذه الطاقة المستنيرون، سقطت في يد الجهلاء من القادة الشعبويين الاستبداديين.
لربما أمكن القول، إن فكر حقبة الحداثة، ظل منحصرًا، بصورةٍ عامة، وإلى حدٍّ كبير، في منطقة "المنولوج". فمن ناحيةٍ، أدار النصوصيون الدينيون، منولوجًا طويلاً مع أنفسهم، أيأس الناس من الدين، ومن إمكانية تحقق الحرية، والعدالة، والمساواة الاجتماعية، والاستنارة، والاشباع النفسي والروحي، والجمالي، في إطار المنظومة الدينية. وهو ما فتح الطريق للفكر العلماني العقلاني لكي يسود، بل ولتتطرف بعض جدائله، فتصم الدين، في جملته، بالمرحلية.
أما الفكر العلماني، الذي أمسك بالدفة، منذ عصر الأنوار، فإنه، أدار، كما فعل دعاة الدين، منولوجًا، جديدًا، مع نفسه، ولكن في الاتجاه المعاكس. قادت "ثورة العقل" الحداثية، إلى تشكيل صورة للوجود وللحياة ظن العلمانيون الأقحاح أنها صورة "تقدمية" progressive. غير أن هذه الصورة، رغم إعلاء أهلها لها، وجدها القطاع الأعرض من الناس، من الناحية العلمية، متسمةً بالبؤس، والفقر المعنوي. فرغم دعاوى التحرر والتقدمية، التي جاءت بها، فإن الإطار العقلاني، الجاف، الذي صنعته الوضعية، لم يتعد في تعريفه للإنسان، من الناحية العملية الواقعية، أكثر من كونه كائنًا منتجًا ومستهلكًا. ويمكن القول، بصورة عمومية، إن المحاولة، اليوم، إنما تنحصر في الحفر والتنقيب في المنطقة الواقعة بين هذين النقيضين . أي؛ توظيف العاطفة الدينية لتحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة، وتوظيف العقل في الوقوف الصلب ضد الاستبداد والكهنوت والإرهاب الديني، وفرض الطهرانية المظهرية الكاذبة.
ما من شك، أن هناك اتجاهًا متناميًا، لتسييل المفاهيم، ومنها مفهوم "ديني" و"علماني"، بعد فترةٍ جمودٍ، اكتنفت دلالاتهما، وحصرتهما في خانة التعارض المطلق، خاصةً، في الاستخدامات الفكرية والسياسية، في الواقع العربي المعاصر. فقد أخذت تنشأ، على النطاق الكوكبي، تياراتٌ جديدةٌ، تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة. وأخذت، هذه التيارات، تتناول إشكالية "العلمانية" و"الدين"، بعيدًا عن أطر الثنائيات القديمة، المتعارضة، التي طالما حبست كثيرًا من رؤى حقبة الحداثة، في قمقم الجمود.
لم تعد التيارات الأجد في الفكر الغربي، تقبل فكرة الأضدادdichotomies ، التي تسير في خطوطٍ متوازيةٍ، لا تلتقي؛ أو قل لا تتداخل، أو تتعايش، وإنما تتعاقب فقط. تتجذر فكرة التعارض الدائم هذه، في ثنائية الأطر المعرفية، لفكر الحداثة. يقول هيوستن سميث: "منذ أن اختار ديكارت أن يمخر بعيدًا عن الذات، أو النفس المؤسطرة؛ أي، عندما اختار أن يبتعد بتلك النفس عن بقية العالم، انغرست الثنائية في تراب الأبستمولوجيا الحديثة، وهكذا بقيت في مكانها ذاك. فقصة الفلسفة الغربية برمتها، في مرحلتها الحداثية، يمكننا أن نرويها، اليوم، بوصفها بحثًا، مستمرًا، عن جسر يربط بين العقل، وبيئته المحيطة، وبين الذات والموضوع، وهي ذات النطاقات، التي سبق أن باعد بينها ديكارت" .
أما في إطار الفكر التجديدي، في الدين الإسلامي، فقد أخذ مفهوم المزاوجة بين العَلمانية، والدين في التبلور. فالعلمانية التي تعني، التركيز على تحسين حياة الإنسان في هذا العالم، الذي نعيش فيه، بناء على التراكم المعرفي والخبرات التي أنجزتها البشرية، والابتعاد عن إدارة شؤون الناس بالنصوص المقدسة، وحدها، ودون موضعةٍ لدلالاتها في سياق الراهن، أخذت تلقى اعتبارها الموضوعي بين أهل التفكير الديني، الذين يرون أن الدين لا يمكن أن ينفصل عن حياة الناس، ولكن عليه أن يفهم حاجاتهم المتجددة، ويستجيب لها.
فالواقع الذي، يمكن أن نقول، من منظور سوسيولوجي، إنه يجسد "العلمانية"، يعمل من خلال انبثاق، واندياح طاقاته، وحاجاته المتجددة، في الواقع الاجتماعي، في مختلف الثقافات، على دفع الدين من أفق أدنى، إلى أفق أعلى. والعكس، بالعكس؛ فإن ما يقوم به الدين، حين تتدنى تأويلاته، ويزداد ضيقه بحيوية الواقع، يصبح مدفوعًا بقوة، بتحديات هذا الواقع إلى مواجهة خياريْ: إما أن يتسع، أو أن يخرج كليّةً من الصورة، وهو ما يضطره لطرح نفسه في صورة جديدة.
عبر هذه الجدلية، حدثت الثورة على الكنيسة، في أوروبا. كما حدثت الثورة على المَلَكية، بوصفها مبنيةً على حقٍّ إلهي مقدس، للأسر الحاكمة، في الحكم. وعبر هذه الجدلية، خرجت البروتستانتية من رحم المسيحية؛ الكاثوليكية، كما أشار روبرت كولز. وهكذا خرجت الثورة الفرنسية، ووُلدت الجمهورية. فحين تضيق أنماط التدين على جسد الحياة النامي، يتمزق ثوب التدين، ويبتعد عن مركز السيطرة، والتوجيه المباشر، وينزوي في الخلفية. ويضطر هذا الوضع نمط التدين السائد، إلى توسيع ثوبه، وتجديده، والعودة، من جديد، لمواجهة الواقع، ولكن، في صورةٍ جديدة.
لم نكن نحن في السودان بعيدين عن الحد القاطع للفكر البشري، وهو يستشرف مجال المزاوجة الذكية بين بنيتي الدين والعلمانية. فقد كتب الأستاذ محمود محمد طه، منذ نصف قرن، عن جدلية الواقع والدين، من منظورٍ متسقٍ مع علم الاجتماع، ومع ما استجد لاحقًا في تيارات ما بعد الحداثة. جاء في أحد نصوص الأستاذ محمود محمد طه عن "فكرة الدين"، ما يلي:
هذه الفكرة الواحدة، نبتت في الأرض، كما نبتت الحياة بين الماء والطين، وظلت متجاذبة بين أسباب السماء وأسباب الأرض. وكلما ألمّت بها أسباب السماء، رفعت قمّتَها. ثم إذا ألمت بها أسباب الأرض، أخذت قمتها تتطامن نحو القاعدة، حتى تطمئن. فتتسع القاعدة، وتنحط القمة. واتساع القاعدة هذا، إنما هو استعداد لارتفاع القمة، إلى قمةٍ جديدة، أعلى من سابقتها، عند إلمامة أسباب السماء المستأنفة. وإلمامة السماء في الأوج، نسميها زمن بعثة، وإلمامة الأرض في الحضيض، نسميها زمن فترة. وهكذا ظلت هذه الفكرة الكبيرة، تسير في مراقي الاكتمال، كما تسير الموجة، بين قمةٍ وقاعدة. وكل قمةٍ أعلى من سابقتها، وكل قاعدةٍ أوسع من سابقتها، إلى أن التحقت الأرض بأسباب السماء، أو كادت .
فاتساع القاعدة، وهي مجمل أحوال الناس التي يشيدونها بوسائلهم، متخطين في منعطفات كثيرة منها، حدود بعض تشريعات الدين، وموجهاته، بعد أن ضاقت، يمثل في نظر الأستاذ محمود، تهيئة للمسرح، تمكِّن الدين من العودة، ليخاطب الواقع، في مستوىً جديد. بعبارةٍ أخرى، إن ابتعاد الدين، تحت ضغط اتساع قاعدة الحياة، الذي ينتج منه خروجها عن قوالبه، هو الذي يهيئ المجال للدين للعودة، ولكن في صورة أرقى من سابقتها. ولذلك، فإن الدين الذي يغيب عن المسرح، ثم لا يلبث أن يعود إليه، ليغيب مرة أخرى، لا يكون هو النصوص القابضة الحاكمة، المتسمة بانغلاق النهايات. لأن هذه النصوص الحاكمة، هي التي سبق أن ضاقت، عمليًا، فاضطرت حيوات الناس، المتطورة دومًا، لكي تنفلت عن قبضها. فالدين، حين يعود، لا يعود بنفس الصورة التي كان عليها قبل أن يغيب عن حياة الناس. وينبغي أن نفهم كلمة "دين" هنا على غير المعنى التاريخي الذي ارتبطت به دلالاته في أذهاننا. فالدين هو "المعنى"، والمادية هي "اللامعنى".
جاءت كل الديانات الكتابية، التي تعاقبت على مسرح الحياة، بروح الدين، ولكنها جاءت في كل مرحلة بتشاريع متفاوتة، من حيث القرب من جوهر لدين. وجوهر الدين هو ما لن تنفلت الحياة من قبضته، أبدًا. فروح الدين في القمة، هي المثال الأعلى للقيم الإنسانية، المتمثل في، الحرية، والعدل، والمساواة، وسائر الأحلام البشرية الكبيرة، التي ظلت منتظرةً عبر حقب التاريخ. وتحكي هذا المفهوم، الآية القرآنية، التي تقول: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ". فإقامة الدين وعدم التفرق فيه، تعني إقامة روحه، وليس تشريعاته المرتبطة بقيود ظرفية تاريخيه. فرغم أن تشريعات كل من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى تشريعات مختلفة، إلا أنهم جميعًا يشتركون في "روح الدين". فروح الدين هي ما أمروا بألا يتفرقوا فيها. أما من حيث التشريعات، فهم متفرقون فيها أصلا، بحكم اختلاف أزمنتهم.
يعكس الدين في حقيقته، المثال. وفي مستوى المثال، لا تختلف الفلسفة، أو علم الاجتماع، مع الدين. أما ما يتقيد من الدين في حياة الناس، فهو يقع في دائرة أنماط التدين. فهو لا يعكس، بالضرورة، "روح الدين، ذاتها، وإن استلهم بعضها، وجسدها في الواقع. تتعارض التشريعات مع "روح الدين"، في حالات الإصرار على التفسيرات الحرفية الجامدة للنصوص. ومن ذلك، على سبيل المثال، التمسك الآن بحقوق المرأة المرحلية، التي منحتها لها الشريعة الإسلامية في القرن السابع الميلادي. وكذلك الإصرار على حكم الردة، أو الاصرار على قتل تارك الصلاة إن هو أنكر وجوبها أصلا، أو كسل عن أدائها. وكذلك، الاصرار على تشريع الرق، واتخاذ الإماء. فأنماط التدين، تتغير بتغير الأزمنة، وفي ذلك، فهي يمكن أن تتوافق مع العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، أو تتعارض معها. وحين تتعارض معها وجب أن نتفكر، ولا ننسب قصور إدراكنا، وعجزنا عن فهم المقاصد، إلى جوهر الدين.
ظلت "روح الدين"، تأتي على أقساطٍ مع النصوص الحاكمة، في كل عودة من عودات الدين، بقدر ما يطيق الناس. وقول الأستاذ محمود محمد طه، إن الأرض قد التحقت بأسباب السماء، أو كادت، مما ورد في النص الذي أثبته له، في الفقرات السابقة، تعني، مقروءةً مع كثير من إشاراته الأخرى، المبثوثة في كتاباته، أن الفرد البشري قد أصبح قادرًا على "التلقي الكفاحي"، من الله. وتحمل عبارة "التلقي الكفاحي" من الايحاءات الصوفية التاريخية، ما قد يجعل بعض العقول المعاصرة، تراها تعبيرًا صوفيًا، مغموسًاً في إدام الغنوص والابهام. لكن ما تعنيه، حقيقيةً، هو أن عهود الكهنوت الديني، قد أزفت نهايتها. فقد ارتقت العلوم، وارتقت الفهوم، وأصبحنا نستقبل شروق شموس الأفراد الراشدين، القادرين على إدارة معارك إنزال المثال إلى أرض الواقع، وفق نهج تعاقدي سلمي، يحتضن الجميع، بمختلف مشاربهم. فالنظرة الثاقبة تقول، ليس هناك فكر ديني، وفكر علماني، منفصلين، تمامًا. هناك فكر إنساني ما انفك يهفو، لكي يصبح جديلة واحدة، مجدولة من مختلف الشعيرات. وقد ظل هذا التوق للوحدة والاتساق والمؤالفة، ينمو باطراد، خاصة في نهايات القرن الماضي. وقد استوى، هذا الحراك، الآن، على سوقه، أو يكاد. وقد أخذ يُعجب الزُّراع من المبصرين. غير أنه، لا يزال يبعث الدهشة، والعجب، بل والتوجس، وسط من بقوا أسرى للثنائيات القديمة المتعارضة.
"ما بعد الحداثة" وحقبة الروحانية :-
من بنية التيارات الفلسفية الناقدة لحقبة الحداثة، انبثق الاتجاه لإعادة الاعتبار للروحانية، من جديد، وربطها، عضويًا، ببنية العقل والنفس البشرية. وقد خرج تيار "الروحانية، في الأصل، من التصورات العلمانية، نفسها، حوالي أواسط النصف الثاني من القرن العشرين. يعد الناقدون لبرادايم الحداثة، تجفيف الحداثة للروحانية في عالم اليوم، مجرد انقلابٍ متعجلٍ على سيرورة بالغة الطول. كما يرونه، انقلابًا غير متسق مع البنية الكلية، لتلك السيرورة الطويلة، التي امتدت منذ فجر الخليقة، حتى العصور الحديثة. يقول موريس بورمان، "إن التاريخ الإنساني ظل، ولأكثر من 99% منه، تاريخًا مروحنًا، رأى الإنسان نفسه فيه جزءًا متكاملاً معه. وقد أحدث العكس الكلي لهذا التصور، والذي حدث في الأربعمائة سنة الأخيرة، تحطيمًا لاستمرارية التجربة البشرية، ولتكاملية البناء النفسي للإنسان" .
ويرى زوهار، ومارشال، في بحثهما الشيق، عن "الذكاء الروحي"، أن الفلسفة التي قامت على رؤية نيوتن للعالم، التي اتسمت بالذرية، atomism، أو قل، "الفردانية الاجتماعية"، أو "التذرية الاجتماعية" . كما اتسمت رؤسة نيوتن، أيضًا، بالحتمية، determinism، والهدفية، objectivism، التي ولّدت وَهْمًا مفاده، أن كل شيء في العالم الطبيعي، يمكن التنبؤ به، كما يمكن، من ثَمَّ، التحكم به. فالثورة العلمية التي أتى بها اسحق نيوتن ورصفاؤه، لم تقتصر على وضع الأساس للثورة العلمية، التي قادت للنهضة الصناعية، وحسب، وإنما تعدت ذلك، بأن جلبت معها تأثيراتٍ سلبيةٍ، تمثلت في التآكل العميق للعقائد الدينية التقليدية، والرؤى الفلسفية التي شكلت الأساس للمجتمعات البشرية، حتى ذلك الوقت. ورغم أن زوهار، ومارشال، يؤكدان على أن التطور التقني، الذي قام على فيزياء نيوتن، وتصوره للعالم، قد جلب معه بركاتٍ كثيراتٍ، إلا أنهما يقولان إنه جلب معه، أيضًا، لعناتٍ كثيراتٍ. فقد اقتلعت الثورة التقنية، الناسَ من أرضهم في الأرياف، ودفعت بهم إلى المدن الكبيرة. كما أنها أربكت حركة نمو المجتمعات، بما قادت إليه من إضعاف للروابط الأسرية، وإزاحة للتقاليد الموروثة، والحرف اليدوية. لقد تم اقتلاع المعاني المصاحبة لأنماط العيش القديمة، من التربة التي نمت فيها. ثم جاء، بعد ذلك، الخطاب الفلسفي الذي قام على النظرة النيوتونية للعالم، ليكمل الأمر، باقتلاع روح الإنسان نفسها .
لكن من الضروري أن نقول إن الثورة العلمية التي دشنتها فكرة نيوتن عن العالم، قد استتبعت ثورة فلسفيةً، ووعيًا سياسيًا نضاليًا، بهما تخلصت أوروبا من قبضة الكنيسة، والكهنوت. وانطلقت، من ثم، البرجوازية الأوروبية، في مشوار التحرير، الذي قام على التأكيد على حرية الضمير، وعلى التأسيس للحقوق الأساسية، وترسيخ التجربة الديمقراطية في ممارسة الحكم. لقد كانت تلك الصورة الجديدة للعالم، التي رسمها نيوتن، ضرورية جدًا، ليصبح التحرير ممكنًا. إذ لولاها، ما تجرأ الأوربيون، ولا قدروا، على مناهضة سلطة الكنيسة، التي ظلت تحرس بالعصا الغليظة، صورةً راكدةً للعالم، وللمجتمع، عاشت قرونًا طويلة .
....................................................
7/ عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، (ج1)، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، 213، ص 290.
8\ ِ Alexander M. Sidorkin, (1999). Beyond discourse: education the self and dialogue, State University of New York Press, New York, USA, 2001, p. 38.
9\ Huston Smith, Beyond the postmodern mind, Quest Books, Wheaton, IL, USA, (Ed 3) (2003), p. 209.
10/ محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الإسلام، (ط 4)، مطبعة مصر، سودان، الخرطوم، السودان، 1969 ص. 119 ـ 120.
11/ الشورى، آية 13.
12\ Morris Berman, The reenchantment of the world, Bantam Books, New York, NY, USA, (1984), p. 23
13/ تعبير "التذرية" قصدت به مقابلة كلمة atomism، أي، جعل الأفراد ذرات تلف في مدارات فردية تضعف وحدة الضمير الجمعي وتمثلاته في التكاتف، والتعاطف، والتضامن الإنساني الواسع.
14\ Zohar, D., & Marshall, I. SQ: Connecting with our spiritual intelligence, Bloomsbury, New York, USA. 2000, p26,
15\ Ibd.


elnourh@gmail.com

 

آراء