وعلى المستهلكين مراعاة فروق الأسعار بين البقالات
abusamira85@gmail.com
تحتفظ الخرطوم المدينة التي في خاطري برونقها ووقارها، لكن أسواقها تعيش حاليا ارتفاعا غير مسبوق للأسعار تتحمل الرقابة المفقودة وجشع التجار الجزء الأكبر من وزره.
ولعل المواطن هو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، حيث انعكس بشكل واضح على ضعف القوة الشرائية للمواطن وعزوفه عن شراء الكثير من الحاجيات في ظل لعنة الدولار التي تجثم على السوق وتغير السعر بين ساعة وأخرى.
وربط ارتفاع أسعار السلع بتدني سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار، معادلة مريحة نظريا، وتتيح المجال للثرثرة والتنظير، لكنها مسألة معقدة جدا عمليا. وقد تختل تماما عندما نربط سعر البصل مثلا بعهدة الدولار.
واقع الحال أن التسوق في الخرطوم أصبح عملية خارج سياق المعقول ولا تطاق، فالأسعار تكوي بنارها المستهلكين وتحصرهم في شراء السلع الضرورية. وهناك إجماع دولي على أن ارتفاع أسعار السلع الارتكازية يشكل تهديدا حقيقيا على المستهلك وعلى أصحاب الدخول المحدودة والمتدنية لاعتبارها محركا لكل القطاعات وتدخل في صلب سلع وخدمات عديدة.
ولندع كل هذا العناء قليلا، فأي جولة بين بقالات الخرطوم تكشف عن تفاوت كبير في أسعار نفس السلع بنسبة وصلت إلى 30 في المائة. ويتصدر السكر قائمة السلع الارتكازية، إذ لاحظت أن عبوة عشرة كيلو جرامات من سكر كنانة تباع في بقالة بـ 52 جنيها وفي أخرى بـ 55 جنيها وفي ثالثة بـ 60 جنيها وفي رابعة قال صاحبها دون رأسه من الصحيفة التي يقرأ فيها 65 جنيها.
وفي سلع ثانية مثل البصل كان سعر الربع في البقالة الأولى 30 جنيها. وفي البقالة الثانية 28 جنيها. وفي البقالة الثالثة 26 جنيها. وفي البقالة الرابعة كانت عبوة الملوة داخل كيش شبكي بعشرة جنيهات، مما يعني أن سعر الربع 40 جنيها. وعندما سألت البائع عن مبرر زيادة السعر؟ أجابني نحن نبيع البصل معبأ بطريقة حضارية.
وفي سلعة ثالثة هي الجبنة السودانية كان سعر عبوة ربع الكيلو جرام في البقالة الأولى 8 جنيهات. وفي البقالة الثانية 7 جنيهات. وفي الثالثة 6.5 جنيه. وفي الأخيرة 6 جنيهات.
وفي سلعة رابعة هي الويكة كان الوضع مثيرا للدهشة فهناك محلات تبيع بالربع الذي يبلغ 80 جنيها. وعادة زبون الويكة المحترف لا يشتري من الويكة المطحونة سلفا، إذ يتعين عليه أن يخلط بين نوعين من الويكة الخشنة والناعمة والقطع الصغيرة والمتوسطة حتى تحصل على الطعم واللون ودرجة اللزوجة حسب وصف ذلك البائع الصغير في السوق المركزي، والذي ترك الدراسة في السنة السابعة، لأن المدارس (ما نافعة) حسب تعبيره.
والويكة سلعتنا الرابعة تجد من يبيع لك الرطل بـ 8 جنيهات ومن يقدم لك الرطل بـ 12 جنيها. وستجد أيضا لك رطل الويكة (الكرب) من سنار بـ 15 جنيها. ولعل هذه التفاوت يثير سؤالا إن كانت هناك مواصفات معتمدة للويكة؟ أجابني تاجر للويكة لأكثر من 50 عاما ساخرا (مواصفات شنو ما هي بامية نتتقطع وتنشف بالشمس وتطحن، عايزة ليها كمان مواصفات).
ومع الاعتراف بأن الفروقات في أسعار السلع ظاهرة تقتضيها المنافسة، لكن ينبغي أن لا تتجاوز عدة قروش. لكن التفاوت الكبير الذي تعيشه بقالات الخرطوم، يدفع إلى المطالبة بضروة تشديد الرقابة على أسعار السلع.
وتثير المطالبة السابقة سؤالا فحواه: هل هناك جهة مسؤولة عن هذه الرقابة؟ حسب معلومات الدكتور ياسر ميرغني الأمين العام لجمعية حماية المستهلك لا توجد حاليا جهة تقوم بهذه المهمة. ومع هذا النفي الواضح يعكس د. ياسر سعي الجمعية لوضع عشرة سلع أساسية تعتمد عليها (قفة) في دليل اسعار معلن وشفاف ومتفق عليه ومراقب بشدة؟
وتبدو فكرة دليل أسعار جذابة من جهة أن مؤشّر أسعار المواد الإستهلاكية (سي بي آي) هو طريقة لقياس تغييرات متوسط الأسعار لسلة من السلع المنزلية والخدمات خلال فترة زمنية. تتكون سلة السلع والخدمات من مجموعة من السلع التي تمثل الإنفاق المثالي على السلع المنزلية. يتم جمع أسعار هذه المواد شهريا من قبل إدارة المواد الاستهلاكية، وتعطى كل سلعة من هذه السلع نسبة معينة وفقا لأهميتها النسبية لمصروفات العائلة. وبمقارنة مجموع الأسعار المرجّحة بالمجموع في السنة يكون بمقدورنا مراقبة التغيير العامّ في مستويات الأسعار.
صحيح أن الفكرة جذابة، لكن مؤشر أسعار السلع فكرة نظرية في ظل عدم وجود إدارة للمواد الاستهلاكية. لكن يلفت النظر أن الوزارة المختصة في ولاية الخرطوم تحمل اسم (المالية والاقتصاد وشؤون المستهلك). ويجتهد وزيرها المهندس صديق محمد علي الشيخ في تقديم حلول مبتكرة لتمويل التنمية، والمهم هنا أن هذا الوزير الهمام يتحدث دائما عن أن قانون تنظيم التجارة وحماية المستهلك يهدف لـ (تنظيم التجارة وفقا للمنافسة ومنع الاحتكار وإن يجد المستهلك السلع بأسعار معلومة).
على أن المهم في هذا النوايا الطيبة لفت النظر إلى أن المستهلك في الخرطوم لا يفرح بالأرقام والنسب المئوية المبثوثة في التغطيات الإعلامية ما لم تكن تعبيرا عن زيادة نقدية يحس في جيبه أو سلعا وخدمات يحصل عليها بجودة وسعر في مقدوره سداده. وهكذا نصل إلى أن السوق هو نتيجة لتطور طويل المدى، وهو بذاك يتغير ويتحسن نتيجة للتطورات الاجتماعية، أي أنه لا يمكن إنشاء السوق بمجرد إجراءات إدارية، فهي عملية أكبر بكثير من تحرير الأسعار أو الخصخصة، فهو تنظيم مؤسسي متكامل يتعين توفر إطاره الكامل حتى يصبح فعالا ويحقق الأهداف المنوطة به.
ويبقى السؤال كيف نحمي المستهلك في ظل اقتصاد منفتح؟
لعل ظاهرة ارتفاع الأسعار الناتجة تحت ستار ارتفاع التضخم دفعت التجار إلى رفع الأسعار بطريقة عشوائية، لا تأبه بتكلفة الإنتاج وتحديد هامش ربح معقول، مع غياب مسئولية الولاية لحماية المستهلك من خلال أدوات رقابة مباشرة، خوفا من الاتهام بالتراجع عن اقتصاد السوق.
ببساطة شديدة، يتمحور دور الولاية في ضبط السوق بتوفير قائمة أسعار استرشادية وآليات لمعرفة التكلفة الحقيقية لكل سلعة؟
وريثما تهبط كل هذه الروؤى إلى أرض الواقع، لا خيل عندي أهديها ولا مال، فقط أدعو المستهلك إلى مراعاة فروق الأسعار بين بقالات الخرطوم.
حصاد القول إن ارتفاع تلك السلع الارتكازية يؤثر على المستهلكين، ويلحق الاذى بالاقتصاد المحلي، بسبب تراجع الطلب على السلع. ويعطل خطوط الإنتاج ويفقد عدد كبير من العاملين وظائفهم. وتصبح الحصيلة زيادة في نسب الفقر والبطالة. ويحدث وهذا خللا في البنية الاجتماعية يجعل المجال مفتوحا لكافة الاحتمالات. و(الله يكضب الشينة).