وقفة نقدية لمسألة التوسع في الجلد بالسياط تعزيرا .. بقلم : محمود عثمان رزق
morizig@hotmail.com
لقد نص العلماء قديماً وحديثاً على ضرورة اعادة النظرفي الفتاوى ذات الطابع الاجتهادي الظنّىإذا تغيرتالعواملالآتية:
1- تَغيّر المكان
2- تَغيّر الزمان
3- تَغيّر الحال
4- تَغيّر العرف
وأضاف الشيخ القرضاوى من عنده ستة عوامل أخر هي :
1- تغيُّر المعلومات
2- تغيُّر حاجة الناس
3- تغيُّر قدرات الناس وامكاناتهم
4- انتشار عموم البلوى
5- تغيُّر الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية
6- تغيُّر الرأي والفكر
ولا شك أبداً أنّ هذه الأشياء العشر هي أشياءٌ معتبرة عند مراجعة بعض الأحكام الظنية التي لا نص فيها، ومن المعلوم عند علماء أصول الفقه أن معظم أحكام الشريعة هي أحكام ظنية متحركةٌ مرنة.وفي الحقيقة إنّتجديد الفتاوى هو تنشيطٌلدور الدين في المجتمع، وتجديدٌ لمعانيه، وتِبيانٌ لمقاصده، وتأكيدٌلحكمته وأهدافه حتى يحرص الناس عليه في كل زمانٍ ومكانٍ لأنّه حريصٌ على مصالحهم في الدنيا والآخرة. ووفقاً لهذه المقدمة أريد أن أتناول مسألة توسع قضاة السودان في مسألة الجلد بحجة تطبيق الشريعة حتىأصبح الحكم بالجلد عندهم شيئاً أساسياً لا تتم العقوبة ولا تكتمل إلا به فأرفقوه بكل الاحكام تقريباً وجعلوه متمماً للعقوبات كلها.فقد قرأت في جريدة الوطن العدد 4719 بتاريخ 7 مارس 2014 الأتي :
السجن والغرامة لعازف أورغن شهير بالحاج يوسف:
بحري : أحمد حمزة
قضت محكمة المدينة بالحاج يوسف الوحدة عقوبة السجن 6 أشهر والجلد 40 جلدة على عازف مشهور تحت المادة 174. وتشير الوقائع الى أن العازف حضر إلى صاحب معداتٍ موسيقية وطلب منه ايجار أورغن، وتم الإتفاق بينهما على مبلغ من المال قام بتسليمه لصاحب الأورغن، واخذه واختفى بعد ذلك ولم يتم العثور عليه إلا بعد فترة [عندما] قابله صاحب الأورغن وطلب منه ارجاعه والمبلغ قيمة الفترة التي قضاها الأورغن بحوزته. فذكر له أنّه ذهب في رحلة خارج البلاد مع إحدى الفرق الأجنبية ولم يعثر عليه منذ فترة. فقام صاحب الأورغن بقتح البلاغ في مواجهة العاوف الذي اتضح له عدة بلاغات من هذا النوع تحت المادة 147. (انتهى الخبر) ونلاحظ أن عنوان الخبر يخالف نصه، فالعنوان يقول "السجن والغرامة" والنص يقول "السجن والجلد".
الخبر الثاني في نفس الصحيفة ونفس العدد ونفس الصفحة ونفس الصحفي بقول:
السجن والجلد لمتهمين سرقا منزلاً بالحاج يوسف:
قضت محكمة المدينة بالحاج يوسف برئاسة القاضي سيف الدين حامد على المتهمين تحت المادة 174 لارتكابهاما جريمة سرقة بشهرين سجن و40 جلدة. وتسير وقائع البلاغ إلى أن لصان تسللا إلى منزلٍ بالحاج يوسف الامتداد وقاما بسرقة مبلغ مالي وقدره 1300 جنيه من داخل دولاب باحدى الغرف وعند هربوهما...الخ.
نلاحظ أن القاضي حكم بالجلد 40 جلدة في كلا الحالتين مع أن الأولى هي حالة احتيال واضحة، والثانية جريمة سرقة واضحة والسرقة من الحرز معلومٌ جزاؤها.
والتعزير هو العقوبة الاجتهادية في جناية لا حد فيها بقصد التأديب. وطالما التأديب هو الغاية لا يمكن أن يكون القتل جزءً من التعزيرات أصلاً لأن القتل هو اتلاف للنفس وليس تأديباً لها، فالتأديب للحي وليس للميت. والتعزير وفقاًللإمام ابن القيّم الجوزية يتنوع " بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر". قال ابن الجوزية : " إن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة", وقال أيضا " إن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها، وكبرها وصغرها."ومن هذا الكلام الذي ذكره الامام ابن القيّم نفهم أن التعزير يتطور في وسائله فلا يجوز التمسك بوسيلةٍ واحدة بحجة أن السلف الصالح عمل بها. فالوسائل يجب أن يراعى فيها تغير الزمان والمكان والحال والعرف وكل الشروط الأخرى.
فالمسلم المعاصر قد تغير عرفه فلم يعد يرى للتوسع في الجلد- فيما وراء الحدود الشرعية-حكمة تخدم الدين، وخاصة عندما يقع الجلد على النساء علناً في ميادينٍ عامة.إنّ الزوق الإنساني المعاصر أصبح بدون شك ينفر من هذا السلوك، ولذلك لا بد من مراعاة ذلك التغيّر العرفي بقدر ما يسمح به الاجتهاد، لأنّأعداء الإسلام في المقابل يستخدمون مثل هذه الأشياء ليشوهوا بها صورة الدين الحنيف! فالضرر الواقع على الدعوة بسبب التوسع في الجلد أكبر من المنفعة التي يجلبها التمسك به في عقوبات تعزيرية في أساسها. والتمسك بالجلد كتعزير لا مبرر له في زماننا هذا لأن القاضي عندما يستبدل الجلد بالغرامة أو السجن أو الزام الجاني بتأدية مهمة اجتماعيةما، لا يحاسبه الله تعالى على اختياره ولا يُحسب في تعدادالمخالفين للشرع! وذلك لأن الشرع لم ينص على التعزير بالجلد تحديداً، وإنّما قال التعزير هو عقوبة اجتهادية دون الحدود المعلومة. فقضاة السودان إذن يمكنهم استبدال الجلد في التعزيرات كلهابأي عقوبة عصريةتؤدّب الناس وتنفع الدعوة. والجلد يجب أن يقتصر في حدي الزنا والقذففقط على أن تطبق كل العقوبات الحديةفي أماكن مقفولة وليس في الميادين العامة لحفظ كرامة الجناة حتى يتوبون فيتوب الله عليهم.
ونقول للذين سيستنكرون هذا الرأي ما قاله الإمام الشافعي لمخالفية: "لم يدعُنا هذا (الخلاف) إلى أن نجرحهم، ونقول لهم إنّكم احللتم ما حرم الله، وأخطأتم، لأنّهم يَدَّعون علينا الخطأ كما ندّعيِه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرّم ما أحل الله".أي هم ينظرون إلينا من نفس الزاوية التي ننظر بها إليهم في أمور خلافية فنحن لسنا أفضل منهم حتى نحكم عليهم. وقديما سئل الإمام علي عن الخوارج أكفارٌهم؟ فرد قائلا : "لا، هم من الكفر فروا" فقد كان حرصهم على الدين دافعا لهم لقتال الإمام علي! ومن مبادئ الإمام الشافعي أيضا: "ألا ينسب لساكت قول" في اشارة له لرفض الإجماع السكوتى الذي هو موضوعُ خلافٍ بين علماء أصول الفقه. وفي الحقيقة مثل هذا الإجماع المُدَعى طريق العاجزين إذا اعيتهم الأدلة قاموا فجاءوا به حجةً على مخالفيهم.وهذه الدررالعلوية والشافعية مع غيرها تؤسس لأدب الخلاف وفنونه، وتضرب أروع الأمثلة في فقه الخلاف وتأكيد حرية البحث العلمي واشاعة المناخ الديمقراطيوالأخلاقي في المجال الأكاديمي.وخلاصة الموضوع هو أن الوقت قد حان لمراجعة مسألة الجلد كتعزير في قانون العقوبات السودانية فهل سيكون أهل التشريع فينا على قدر المهمة؟