“ولدنا جاب…؟” .. حول نرجسية الأفندي وأحلام التفوُّق الكاذبة !!

 


 

 

تمتلئ وتُفيض ما تُسمى بمنابر التواصل الإجتماعي المختلفة، من وقت لآخر، بإبتهالات "التفوّق" لـ" أبنائنا" و نجاحاتهم الباهرة اجتيازهم لامتحانات الشهادة السودانية، على وجه الخصوص. و يتهلل البعض من هؤلاء المُحتفلين إلى حد دخولهم في حالة من الهذيان الشبقي و الذي هو ليس سوى تمظهر لطقس نرجسي كامل الدسم. و بالطبع لا يكتفي هؤلاء المحتفلون بإزكاء أسمى آيات المدح و الثناء للـ"متفوقين" و حسب، و لكن أيضا يقومون بعرض الدرجات التي تحصّل عليها هؤلاء المُحتفى بهم كأدلة دامغة و قاطعة على هذا التفوّق و النبوغ وعلى هذه العبقرية الخارقة. و نحن نعتقد جازمين بأن مثل هذا الإحتفال وهذه الاحتفالية ليست في مجملها تُعني حصرّيا بالأطفال "المتفوقين" و لكنها، و لربما في جزئية كبيرة جداً منها، يُراد لها أن تُعبّر عن مدح مجاني للسيدات و السادة المحتفلين أنفسهم حتى يُصبح هذا التفوق المزعوم لحظة إستثنائية تُمثلهم على نحو نُستالجي أو كملك حُرّ لهم بوشيجة الأُبوّة أو الأُخوة، أو حتى الجيرة، إلخ، التي يُعتقد بإمكانية توارُثها عبر الدم العائلي، أو النفّاج، الخ.
نحن نعتقد بأنه ليس هناك ثمة مبرر معقول يستدعي و يُحفز على مثل هذا الإحتفاء المُمل و الدعي و المكرور و بهذه الصورة الشبقية/البورنوغرافية!
أي نظام تعليمي هذا الذي يتم الإعتراف بقدرته على تقييم "المتفوقين" من غيرهم، أو على تقييم "العارفين" من غيرهم، أو على تقييم "النوابغ" من غيرهم، إلخ؟ أوليس هذا النظام التعليمي هو ذاته الذي تمت صياغته و من ثم ترجمته إلى ارض الواقع بواسطة القوى الكولونيالية لسببين رئيسيين: (1) إنتاج كادر مُطيع (Docile) غايته الأُولى و الأخيرة هي المساعدة في إدارة المستعمرة (و التي تُشمل ضمن ما تُشمل إخضاع مكوناتها البشرية واستغلال مواردها الطبيعية لمصلحة المستعمر و من ثم للقوى المُهيمنة التي ورثته من بعد ذلك) ، و (2) "إخصاء" هذا الكادر عن مجرد التفكير في سؤال التغيير إلأُ إذا جاء ذلك من المستعمر نفسه. و لهذه الأسباب مجتمعة عمل النظام التعليمي في السودان _و لا يزل يعمل_ على إنتاج كادر (ذات) مُطيع و مخصي! و لعل الوسيلة أو المنهج الناجع لإنتاج مثل هذا الكادر هو التلقين و الحفظ المُستمدة بصفة أساسية من مؤسسة الخلوة و بنيتها الذهنية المُهيمنة و التي من أدواتها الرئيسية هي العقاب البدني و التخويف الوجودي كُره و إحتقار الآخر و المُختلف! و من نوافل القول، أنه بذهاب القوي الكولونيالية جسمانيّا من المشهد السياسي المباشر ورثت الذات المُطيعة و المخصية (هذا الأفندي السعيد) النظام التعليمي الإقصائي و حافظت على فلسفته و إن فشلت في المحافظة عليه بنفس درجات الحرفية و الإتساق السابق، و ذلك لأن الأفندي سرعان ما بدأ في الإهتمام بإشباع رغباته و رغائبه ككائن فردي متفوق و صورة "طبق" الأصل من الكولونيالي المُزاح، و ذلك بدلاً عن العمل في المحافظة على الموروث الكولونيالي كما هو.
ما هي، إذن، الرسالة "الخفية" التي يود هؤلاء المحتفلون السعداء توصيلها للمجتمع؟
نقول، يُريد هؤلاء المحتفلون المحافظة على إعادة إنتاج علاقات المجتمع وفقا لمكونين مُتوهمين، ألا و هما "مُتفوقون" و "غير متفوقين" (بحسب معايير ذات النظام التعليمي المُتهالك) حتى يتسنى لهم الحفاظ على مصالحهم كصفوة تزعم التفوق و بالتالي الحفاظ على حقها الإلهي في السيطرة والهيمنة الأبدية على شئون البلاد و اهلها. و على الرغم من فشل هذه الصفوة طيلة هذه الفترة من عمر الدولة السودانية لما بعد الكولونيالية (و في حقيقة الأمر ليست هناك من دولة سودانية قبل الكولونيالية)، نقول على الرغم من فشلها الصارخ و الماثل و المُتمثّل في عدم قدرتها على إنتاج معادلة سياسية و إجتماعية كفيلة بتحقيق الحد الأدنى من متطلبات الحياة العامة، إلاّ أنها لم تتنازل قيد أنمُلة عن شهوتها في السيطرة و الحكم و لذا تسعى جاهدة كلما تسنت لها الفرص إلى تأكيد هذه الهيمنة و السيطرة عبر نفخ أسطورة التفوق الأكاديمي ضمن نظام تعليمي عاقر و مُتبلد كمعيار وحيد لتوزيع السلطة والثروة.
نهضت الفلسفة التعليمية في السودان على مبدأ تضخيم الذات الفردية و التي من أهم مظاهرها التأكيد على الإنتصارات الفردية و تأصيل مبدأ النرجسية بها. و الفلسفة التعليمة في السودان هي كذلك أُوحادية النظرة لأنها مبنية على منظور "الأيديولوجية الأفندويّة" التي تعمل على إقصاء و قتل مهارات الأطفال و قدراتهم المتنوعة و المتميزة (المستمدة من ثقافاتهم المغايرة) و اعتمادها قدرات محددة مُستمدّة على أحسن الفروض من رؤيتها الضيقة للعالم والتي تعتبرها بوعي منها أو بغير ذلك كحالة كونية عامة تُمثل الحقيقة والحق المُطلقين! و قد مثّل هذا المنحى الإقصائي أُولى "رصاصات" التطهير المُعرقن التي أسست للظُلم و عدم المساواة البنيويتين اللتين لا زالتا تنخران في الجسد السوداني المعلول و تقودانه رويدا رويدا إلى حتفه الأخير (و الذي هو في حقيقة الأمر حتفه الأول!). لقد تساقط عدد كبير من أطفال السودان عن ما يُسمى بـ"السلم التعليمي" أُوحادي الهوية و الهوى و إنضموا إلى جيوش ما يُسمى إحتقاراً بالـ"فاقد التربوي" و ذلك ليس لسبب أخر سوى فشل النظام التعليمي ليس فقط في إستيعاب مهاراتهم و قدراتهم المختلفة و المتنوعة و حسب، و لكن ايضاُ احتقاره لمثل هذه المهارات و القدرات و وسمها بالدونية أو غير الحضارية أو غير المتحضرة و العبثية. نعم لقد عاصرنا زملاء و زميلات في كافة المراحل التعليمية المختلفة (بخاصة قبل الجامعية) ممن كانوا يتمتعون بمهارات فائقة في شتى ضروب الحياة قدرتهم على الإنتاج باللغات المحلية؛ السباحة؛ التخطيط الإستراتيجي؛ الزراعة؛ القص و الحكي؛ الرياضة الجسمانية؛ إلخ و لكن بسبب النظام العليمي العاقر و المخصي تم إقصاء هولاء العباقرة و النابغين و إلقائهم في أتون الفشل و "الغباء". نقول، مثل هذا الإحتفاء غير المُبرّر و غير العادل لا يعمل فقط على تقسيم المجتمع إلى طبقات خيالية غير منتجة إجتماعيا أو سياسيا أو إقتصاديا و حسب و لكنه أيضا يُساهم في قهر الاغلبية من كل جيل و وسمهم بالغباء و عدم قدرتهم على المشاركة في إنتاج الحياة العامة.
محمد عثمان (دريج)
هاملتون، يوليو 2022

zalingy@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء