ولماذا تريدون استمرار هذا الوضع؟

 


 

 

 


في الوقت الذي كانت فيه صفوف العربات تتكدس أمام محطات الوقود الشحيح، وصفوف أخرى تتجمع حول المخابز؛ أملاً في قطعة خبز تسدّ الرمق باتت متعذرة، وصفوف ثالثة تحاصر البنوك، لأن المودعين يريدون شيئاً يسيراً من أموالهم المودعة لديها، والبنوك لا تستطيع أن تلبّي مطلبهم لأن السيولة النقدية ليست متوافرة لها..

في مثل هذا الوقت، إذا سمعت أن الحزب الحاكم في ذلك البلد قد دعا مجلس شوراه إلى اجتماع عاجل، ستظن منطقياً أنه اجتماع مكرّس لاستنباط الحلول العاجلة لهذه الأزمة التي أحالت حياة المواطنين إلى جحيم، وربما كان هذا التكهن صحيحاً بالنسبة لأي بلد، لأنه من المنطقي أن ينشغل الحزب الحاكم بهموم المواطنين؛ ولكن ليس ذلك ما حدث في السودان، حيث رأى الحزب الحاكم أن يواصل ممارسات عُرف بها وظلّت لصيقة به وهي ممارسة «الهروب إلى الأمام»، التي تمكّنك من أن تتجاهل الأزمة الراهنة، لتتعامل مع واقع افتراضي يتوقع أن يحدث بعد عامين.. تنسى الحاضر المأزوم، لتهرب إلى المستقبل الذي هو في ضمير الغيب!

ولذلك كانت الأولوية أثناء ذلك الاجتماع لانتخابات عامة يُفترض أن تُجرى بعد سنتين!!

وحتى هنا لم يكن البحث حول نزاهة الانتخابات، ولا ضرورة حدوث تغيير حقيقي يغادر بالبلاد مستنقع الشمولية، وإنما كان حول الطريق الأمثل لاستمرار الوضع الحالي، حتى لو أدى ذلك إلى تمزيق الدستور. وكان القرار الذي اتخذه أن يعدّل الدستور مرة أخرى ليناسب مزاج الحزب الحاكم.

فالدستور لا يعني عنده شيئاً كثيراً، والحديث عن (جمود) الدساتير عندهم هو مجرد «حديث خرافة»، وهو مجرد مصطلح أجنبي يحقّ لك أن تلعب وأن تتلاعب به - وقد ظل الدستور بما في ذلك دستور 1998م الذي كتبه «عرّاب الإنقاذ» الراحل الدكتورحسن الترابي يخضع للتعديلات التي تناسب مزاج الحكام قبل وبعد المفاصلة.

وبعد ذلك مورس «التحرش» مع دستور 2005م المؤقت حال انفصال الجنوب، وعكف «ترزية» التعديلات على إنجاز مهمة تقطيع أوصال الدستور، وشطب كل مادة من موادّه لا تروق لهم، أو تُضعف من قبضة السلطة المطلقة المتوافرة لرئاسة الجمهورية، وهي سنام الجهاز التنفيذي. وعَبَرت التعديلات الجهاز التشريعي بسرعة فائقة، دون أن يرتفع صوت واحد محتجاً على هذا العبث بالدستور.

والآن يتكرر السيناريو نفسه، دون أن يتوقف أحد ليسأل نفسه عن مصير حكم القانون في بلد يتعامل بمثل هذه العفوية مع الدستور الذي هو «أبو القوانين»! بل لم يسأل أحد نفسه كم دفع السودان في الماضي من ثمن لمثل هذا العبث بالدستور؟

وفي الذاكرة تجربة تعديلات دستورية شكّلت قمة العبث بمبادئ الديمقراطية تحت نظام ديموقراطي كان يحكم السودان يومها، أقدم ذلك النظام الديمقراطي عام 1965م على تعديل الدستور، ليستطيع أن يحرم الأعضاء الشيوعيين الذين احتلوا مقاعدهم التي فازوا بها خلال منافسة انتخابية نزيهة من حقهم النيابي.

وبعد أربع سنوات دفع النظام الديمقراطي في السودان الثمن غالياً، حين استولى نظامٌ شمولي على السلطة بانقلاب عسكري، فكانت تجربة قاسية أثبتت أن العبث والتحرش بالدستور يورد الناس موارد الهلاك، ليس هذا في السودان وحده، بل وفي دول الجوار أيضاً.. وفي دولة مصر القريبة.

العبث بالدستور يعكس حالة مأزومة داخل أي حزب حاكم، وهو لا يلجأ إلى هذا العبث إلا حينما يدرك تماماً ضعفه وقلة حيلته، وأن وجوده في الساحة يعتمد تماماً على استمراره في السلطة؛ ولذلك تصبح كل مجهوداته متجهة نحو الاستمرار بأية طريقة وبأي ثمن في السلطة؛ حتى لا يختفي تماماً عن الساحة!!
العبث بالدستور - إذاَ - هو علامة ضعف، لا علامة قوة للحزب أو الأحزاب التي تمارسه.

 

آراء