وما هو عنها بالحديث المُرَّجم

 


 

 


boulkea@yahoo.com

في عام 2009 قام المعهد الهولندي للعلاقات الدولية (كلينغدايل) بنشر تقرير بالغ الأهميَّة حول سيناريوهات المستقبل في السودان. إشتمل التقرير على أربعة سيناريوهات,  إثنان منها في حال وقوع الإنفصال وإندلاع حرب بين البلدين في 2012.
السيناريو الذي حذَّر منهُ التقرير تنبأ بنشوب الحرب بين دولتي السودان بعد الإنفصال, وقال إنهُ إذا نجح الجيش الشعبي لتحرير السودان (جيش الجنوب) في مقاومة قوات الشعب المسلحة (جيش الشمال) فقد يتفاقم الوضع الي سيناريو الحرب الأهلية والفوضى الذي حذر منه بالتساؤل : هل ترغب في صومال اخرى ؟
أسَّس سيناريو الحرب فرضياته على أمورٍ تحققت بالكامل وكأنها " نبوءة" حيث جاء في التقرير أنَّ : ( الإستقطاب الحاد بين الشمال والجنوب سيؤدى لإغفالهما نقاش العديد من القضايا المهمة كما يصرفهما عن الوصول لإتفاق حول قضايا ما بعد الإستفتاء. الوضع الحدودي لمنطقة أبيى والعديد من القضايا المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها في النيل الأزرق وجبال النوبة/جنوب كردفان لم يتم حلها. قضايا الجنسية وأوضاع الملكية للشماليين في الجنوب وللجنوبيين في الشمال لم  يتم التعامل معها بطريقة سليمة. وكذلك تظل قضايا مثل الديون الخارجية ومؤسسات الدولة وشركاتها غير واضحة وغائمة).إنتهى
وبناءاً على هذه الفرضيات  تنبأ سيناريو الحرب بأوضاع السودان في 2012 بالقول :
( في عام 2012 تتراوح خطوط المواجهة الأمامية بين قوات الشعب المسلحّة والجيش الشعبي لتحرير السودان حول حدود الأراضي الغنية بالنفط, وعلى الرغم من أنّ الجيش الشمالي مدرّب بشكل أفضل ومزّود باليات عسكرية متقدمة الا أنّ دوافع الجيش الشعبي للقتال أكبر لأنه يدافع عن وطنه بينما يتلاشى السند للحرب في الشمال الذي أضحى لا يحتمل رؤية النعوش التي تحمل جثث القتلى. يدورالقتال في البؤر الملتهبة حول  حزام على طول الحدود يضم – إضافة لأقاليم أخرى- أبيى, جبال النوبة/جنوب كردفان, والنيل الأزرق. القتال في منطقة أبيى تقوم به القوات الشمالية مستخدمة الدبابات في معاركها بينما يقع معظم القتال خارج أبيى على عاتق المليشيات. تستخدم حكومة الشمال بعض المليشيات القبلية كالمسيرية لقتال من تسميهم بالعصابات كالنوبة الذين لم تشملهم دولة الجنوب الوليدة ولكنهم لا يريدون أن يكونوا جزءاً من السودان الشمالي. في أبيى يتقاتل المسيرية مع دينكا نقوك. إنضمت بعض الجماعات الإسلامية المسلّحة التي تؤمن بأن يظل السودان دولة أسلامية موحدة لقوات الشمال الأمر الذي أدى لبروز البعد الديني للصراع بوضوح. ربما يكون الشمال في وضع عسكري أفضل ولكن الجنوب يتمتع بدعم الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي ). إنتهى
عدتُ لقراءة هذا التقرير بعد إنهيار مفاوضات الحكومة مع دولة الجنوب حول رسوم عبور النفط,  و في أعقاب العديد من تصريحات المسئولين بالحكومة مثل الدكتور الحاج آدم نائب الرئيس الذي قال إنَّ ( صبر الحكومة تجاه الحركة الشعبية قد بدأ ينفذ وإنه إذا دعا الداعي فإن جوبا ليست بعيدة ), و الدكتور نافع الذي قال إنَّ : ( الجنوب لا ينفع معه الفضل والإحسان وإنما تنفع معه المذلة وإنه إذا ما تمادى في خططه سنذهب إليه). و وزير الخارجية علي كرتي الذي هدَّد باللجوء للخطة (ب) للتعامل مع الجنوب وأكد أن الخرطوم لن تقف مكتوفة الأيدي. وأخيراً حديث رئيس الجمهورية الذي قال إننا أقرب إلى الحرب مع الجنوب من السلام.
لا شكَّ أنَّ إنفصال الجنوب زاد من تفاقم أزمة الحكم  الموجودة أصلاً في الشمال. فبالإضافة للعنف المُستعر في دارفور منذ عدة سنوات, ظهرت جبهتان أخريان للقتال : جنوب كردفان والنيل الأزرق. و بلغت الأزمة السياسية ذروتها بحرب المذكرات داخل حزب المؤتمر الحاكم وما تبدَّى من تمرُّد واضح من قبل بعض الولاة على المركز, إضافة لتفشي الفساد والتدهور العام في الخدمات, والمشاكل التي تنتشر في كافة نواحي البلاد ولا توجد لها حلول ناجعة . ثم إكتملت الدائرة الجهنمية بالأزمة الإقتصادية الخانقة التي تسبَّب فيها إختفاء البترول الصادر الإساسي والمورد الأكبر للنقد الأجنبي مما  أدَّى لتفاقم الضائقة المعيشية, و إرتفاع الأسعار, وزيادة سعر صرف الدولار مقابل الجنيه بنسبة بلغت (100 %) في أقل من عام.
هذا وضعٌ شبيهٌ بذاك الذي واجههُ الرئيس العراقي السابق صدام حسين حينما فرغ من حرب الثمانية سنوات العبثية مع إيران . حين وجد نفسهُ أمام ازمات سياسية وإقتصادية خانقة تسببت فيها تلك الحرب لم يجد مخرجاً منها سوى غزو الكويت مُبرِّراً فعلته بأنَّ دول الخليج عملت على "خنقه" بالديون في الوقت الذي كان يدافع فيه عن شرف العروبة. وهذا شبيهٌ بما يصرَّح به بعض كبار المسئولين في الحكومة هذه الأيام بترديدهم القول أنَّ الجنوب يريد "محاصرتهم" بحسب قول وزير الخارجية على كرتي. 
جنوب السودان – من ناحية أخرى - ليس في وضع أفضل من الشمال, فمنذ الإنفصال تواصلت فيه حروب القبائل التي حصدت أرواح الآلاف من المواطنين, وتقول تقديرات الأمم المتحدة أن المتأثرين بالصراعات القبلية بلغوا (120) ألف مواطن , و تواجه مناطق كبيرة منه نقصاً حاداً في الغذاء, إضافة للأزمات الإنسانية الأخرى المتعددِّة, حتى أنَّ مساعد الأمين العام للامم المتحدة للشؤون الإنسانية فاليري آموس قالت الإسبوع الماضي أن الأوضاع في الجنوب "خطرة للغاية" وأن احتمال تدهورها احتمال قائم بشِّدة.
أمام هذه الأوضاع المتدهورة في البلدين يُصبح من المُحتم على من يتخذ قرار الدخول في الحرب وإطلاق الرصاصة الأولى أن يُدرك أبعاد قراره, خصوصاً إذا كان في الشمال. فأرض المعركة هذه المرَّة لن تكون كما كانت في الماضي, والسلاح المُستخدم فيها لن يكون هو السلاح القديم. و من المؤكد أنَّ خطوط المواجهة لن تقتصر على ما تنبأ  به سيناريو "كلينغدايل", بل ستمتد حتى تصل قلب الشمال. وفي هذا الخصوص لا بُدَّ أن أقتبس شيئاً من الورقة الهامة التي نشرها قبل أكثر من عامين العميد حيدر بابكر المُشَّرف, والتي ذكر فيها العديد من الحقائق حول الحرب القادمة, والتي منها :
( إنَّ مسرح العمليات القادم لن يقتصر على حدود جنوب السودان المعروفة في 1/1/1956, بل ستتسع رقعة الصراع المسلح لتشمل دارفور الكبرى وجنوب كردفان والنيل الأزرق وربما شرق السودان وهى مساحة تعادل 65 % من مساحة السودان الجغرافي الحالي . إنَّ الشمال الجغرافي لن يكون بمنأى عن الحرب القادمة فقد انتهت وإلى الأبد قدرة الشماليين على إبقاء الحرب في مسرح العمليات الجنوبي. إن انسحاب القوات المسلحة السودانية من الجنوب حسب اتفاق نيفاشا قبل عامين من الاستفتاء  قد نقل الحافة الأمامية لميدان المعركة من قرى ومدن وسهول وتيجان الجنوب إلى شمال خط العرض (12) وبالتالي أصبحت مدن الوسط الغربي والأوسط والشرقي بدءاً من نيالا والأبيض وكوستي وسنار والقضارف ضمن مدى طيران ومدفعيات جيش دولة الجنوب. إن القاذفات المقاتلة مثل السوخوي الروسية أو اف 14 – 15 – 16 الأمريكية أو الميراج الفرنسية تستطيع تدمير أهداف في النسق الثاني والثالث من الدفاع وفي هذا المجال تبدو الأهداف التي يمكن انتخابها في الشمال أكثر بكثير من الأهداف الموجودة في الجنوب فسدود السودان الرئيسية مثل الروصيرص وخشم القربه وجبل أولياء وحتى سد مروي بجانب مدن كبرى مثل الخرطوم وكوستي والقضارف ووادمدني قد تصبح أهدافاً مناسبة لتلك الطائرات خاصة وان أنظمة الدفاع الجوي تبدو هشه يمكن اختراقها في كلا الجانبين . إنَّ الخسائر وسط المدنيين تعتبر ضربة قاصمة لجهود أي دولة تحترم حقوق مواطنيها في السلام والأمن ومن هنا فإن الكثافة السكانية في مدن الشمال تبدو أهدافاً قيِّمة لهجمات القوات الجوية والأرضية الثقيلة ( فالراجمات مثلاً ترمي حتى 110 كلم ) كما ان مرافق الخدمات الأساسية مثل المستشفيات والمدارس ودور العبادة والأندية الرياضية قد تتلقى ضربة موجعة من الجو مثلما حدث في غزة مؤخراً ). إنتهى
إنَّ قرار الدخول في الحرب يُعتبر من أكثر القرارات صعوبة و خطورة. وإذا إنبنى هذا القرار على تقديرات سياسية خاطئة وحسابات عسكرية مغلوطة فإنه حتماً يؤدي إلي عواقب وخيمة . وهو ما حدث لصدَّام حسين الذي كان لآخر لحظة يستبعد التدخل الدولي لإخراج قواته من الكويت. وأخشى أن يكون صانع القرار السوداني واقفاً في ذات المحطة التي كان يقف فيها صدَّام, وهو ما يوحي به تصريح وزير الخارجية على كرتي الذي قلل من قوة الولايات المتحدة، ووصفها بالدولة " الضعيفة جداً ", في إشارة لإستبعاد تدخلها حال نشوب الحرب بين دولتي السودان. وهو الأمر الذي جاءت إشارة نفيه الإسبوع الماضي في المقال الذي كتبهُ المبعوث الأسبق للرئيس الأمريكي للسودان أندرو ناتسيوس في مجلة " فورين أفيرس" وقال فيه إنَّ على بلاده أن توصل رسالة لحكومة الخرطوم مفادها أنَّ قيامها بأي هجوم على الجنوب يُعتبر إنتهاكاً لدولة ذات سيادة وانَّ أمريكا  " ستستخدم إمكانياتها الجوية الخاصة للرَّد على ذلك الانتهاك ".
من المؤكد أنَّه لن يكون هناك رابحٌ في الحرب القادمة, لا السودان ولا جنوب السودان. ولا سبيل لحل الخلافات بين البلدين سوى التوصل لإتفاق حول كافة القضايا العالقة بينهما بدءاً من الجولة المُقبلة للمفاوضات في أديس أبابا . لقد جرَّب الطرفان الحرب لأكثر من نصف قرنٍ من الزمان ولم يحصدا منها سوى الموت والغبن والجراح و الدمُوع والدمَّار, وهو ما سيتكرَّر حال وقوع الحرب مرَّة أخرى :
وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتمْ وَذقتـمُ      وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـم
مَتَـى تبْعَـثوهَا تبعثوهَا ذمِيْمَـة        وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتمُـوهَا فَتضْـرَم
فَتعْـرُككمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفالِهَـا           وتلقحْ كِشافاً ثمَّ تنتجْ فتتئِم

 

آراء