يا شهداء السودان: شهداء الحرية انتم تمائم تحرس الوطن
Abdullahi.gallab@asu.edu
تتأمل في وجه اي من اؤلئك الذين حصدهم رصاص النظام فلا تملك غير ان ترى ما ترى في عيونهم ووجوههم ما هو اكبر مما قد يرى او رأى النظام. انظر مليا في وجه كل من وفاء ومازن وبابكر وصلاح وهزاع ومنى. قد ترى بعين الخيال وجوه اخرى غيبها ذلك الرصاص الغاشم في نيالا وودمدني ومناطق اخرى للاسف لم نتعرف حتى على صورهم. شباب وشابات قد ترى آمالا إنسانية عراضا ومشروعة تضئ في لمعان عيونهم. وترى فيها ما قد يأمله الانسان لمستقبل حياته له ولأسرته ولموطنه. وتسأل: باي حق أجهضت؟ وقد ترى أحلاما يافعة خضراء تداعب العقل والقلب والوجدان قد انطوت قبل ان يتأتى لها ان تغادر أماكنها الأثيرة في الذهن وفي الحلم والخيال. وتساءل بي حق قمعت. لك ان تسمع وان تقرأ الان حلم مصعب وهو يقول: بحلم بسودان ما فيه عنصرية وما فيه قبلية بحلم بسودان جميل ما في ليهو مثيل. ولا شك قد ترى دموع ام بابكر الثكلى التي وهبت ابنها تميمة تحرس الوطن وتقول بطوي قليبي فوق مري وفراقو الحار بكفكف يابا دمع العين بنوسر بالوجع زي نار بقيف زى النخل شامخة اطمن صحبته الأخيار. وأم ولاء الدين وهى لا تستطيع الا ان تغالب أمرها فقد ضاق بها واسع الفضا وكتر الأسى والويل كما تقول وتسأل الكريم ان يجود بالجود ويلطف فالدم دفر زي سيل. فلتبك مع أولئك الأمهات ومع قلب اب مفجوع وأخوة وأخوات تغالب هم الفاجعة الساعة اثر الاخرى اكثر واكثر كلمات وتبنوا لذلك المرقد الخالي او طاف بالخيال ذلك الصوت الذي غيب. تمائم تحرس الوطن هم الان وسيظلوا. وقد يفجعك اكثر بان إنسانا وعالمه الممتد من الاسرة للأصدقاء للزملاء للوطن قد خيم عليه الأسى من جراء ذلك الفقد. تمائم تحرس الوطن وسيظلوا. ولك ان تبكي مع من يبكى. فالقتلة لا يبكون. غير ان ما يزيد القلب مرارة ويضاعف منك الغضب هو ان ذلك الشخص المقتول ومن مثله لم يكن اي منهم ليتساءل بأكثر من السؤال الذي سأله عمر قبل أربعة عشر قرنا: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ولك ان تسال كيف أعز الله العالم بأحد العمرين وأزل شعب السودان بعمر الاخر. بالطبع لا يكلف الله نفسا الا وسعها. فقد كان وسع الاسلامويين ان التقطوه فكان لهم عدوا وحزنا. وظل وسعه هو كما هو اذ بعد ربع قرن من الزمان على كرسي الحكم لم يفهم شيئا ولم يتعلم شيئا.
وقد لا يسعف الخيال ان يتصور اي منا كيف شاهد عمر الاخر تلك الوجوه النضرة على الأقل لمرتين. المرة الاولى بعيون من اقتنصوهم وسددوا لهم طلقات قاتلة لا عن طريق الصدفة ولكن مع سبق الإصرار. والمرة الثانية عندما بدأت جماعات وأفراد السودانيين تتامل وتتعرف على صورهم. في المرة الاولى تتجسد لك ابعاد الصورة الخاصة لما يعتقد بان قام به النظام من اجل تأهيل مثل اؤلئك القتلة. وكيف انه أعاد تركيب شخصية اي وكل منهم للحد الذي نزع منها اي شعور إنساني. فأصبح كآلة صماء لا يشعر فيما يقوم به من قتل باكثر من فعل روتيني فلا يتردد في ان يفعل مثل ذلك من قتل بدم بارد وان يكرر ذلك مرارا وتكرارا دون ان ترتجف له عين او وخز من ضمير. فهو لا يرى في الذي أمامه إنسان جدير بالحياة فهو مجرد هدف درب عليه اصطياده كجزء من عمله او ظيفته. لك ان تتساءل كيف يمكن ان يغيب الضمير والعقل والحس. فالناس لم يولدوا وحوشا او آلاتا صماء. ولم يخلقوا أسرارا. ولك ان تتامل كيف ارتقى النظام بمثل ذلك الأمر الى اعلى درجات عدم الحس الإنساني الى حد الجريمة. اذ ان قيمة الإنسان عندهم في حالة كونه ميتا تظل هى اعلى بكثير من حالة كونه حيا. فقتل الانسان يحقق غاية لا يمكن ان يحققها وهو حي. فالشخص المقتول هو الرسالة للآخرين بان مصيرهم قد حدد أصلا وما لم يبتعدوا عن المكان ويتخلى كل عن ومن إنسانيته. وإلا فدون ذلك مردة وزبانية على اعلى درجات التقنية في فنون القتل للقضاء عليه كإنسان. اذ ان قتل الناس جميعا فيه حياة النظام.
وقد ندرك ذلك بجلاء عندما نشاهد كيف يتجسد ذلك الانفصام في شخصية نافع علي نافع 'بريا' النظام كمثال حي. ذلك الانفصام البائن يتجلى بين نافع القاتل الذي ظل يدير طاحونة العنف التي لا تنفك تباشر أنواعا من القتل والتعذيب على مدى ربع قرن من الزمان على الأقل ونافع الاخر الذي لا يرى حرجا والحال كذلك ان يذهب لأداء العزاء في مقتول هو المسؤول عن قتله بشكل او باخر. فالأمر الاول هو عمله اليومي اما الامر الاخر فيقع في باب العلاقات العامة لشخصه كمدير لإدارة القتل. امر يجعل اكثر السودانيين صبرا لا يتمالك نفسة الا ان يقول له اخرج من منزلي فأنت بفعلك هذا والحال كذلك تستفذ مشاعر الأمة والخلق والدين. فيخرج دون ان يبدو عليه الى خجل فهو من جهة قد نفذ مهمته ولن يألوا ان يعود سيرته الاولى اكثر عنفا واكثر إصرارا على قتل المزيد من البشر. هكذا جعلت الاسلاموية من واقع تربيتها لأعضائها وإسقاطها للآخر من أمثال نافع حوشا كاسرة تمشي على الارض. فنافع على سبيل المثال حالة وجودية: فهو نافخ كير الاسلاموية بلا منازع فان اقتضى الامر خطابا يفترض فيه ان يكون سياسيا. فهو اما ان يحرق عقلك لا ثيابك فقط وأما ان تشتم منه ريحا منتنة وذلك بنابي والقول. فهو في كلا الحالين مدير إدارة القتل والتعذيب وبيوت الأشباح بلا منازع.
وقد يحتار الانسان لماذا يتبارى هؤلاء الاسلامويين في تكوين وإدارة اجهزة الأمن والتعذيب المتعددة. انظر الى الصف الاول منهم. فردا فردا. قد لا تجد من ليس له علاقة بأجهزة الأمن والتعذيب تلك. قد يكون الواحد منهم في موقع النائب الاول لرئيس الجمهورية ولكنه في واقع الامر هو الممسك بأحد اجهزة التجسس او المليشيات. وقد يكون الاخر هو وزير الخارجية او الطاقة ولكن عينه وإذنه على جهاز الأمن اذ انه قد تخرج في مدرسة الدبابين من منازلهم. وكل اجهزة الأمن تلك موجهة صوب حبس أنفاس المواطنين للحد الذي جعل من الدولة ترسانة أمنية أقوى وأكثر عدة وعديدا من القوات المسلحة والبوليس. الامر الذي جعلهم يفاخرون بانهم هم الذين تصدوا لحرمة العدل والمساواة في ام درمان. واهم كانوا على وشك من اسقاط نظام الرئيس التشادي ادريس دبي انتقاما منه لمساعدته حركة العدل والمساواة . كما اصبح لأجهزة الأمن تلك شركاتها الخاصة وطائراتها ودباباتها وصحفها ومطابعها ومقدمي برامج تلفزيونها وما لا يعرفه غير الماسكين بأمرها. اجهزة تتجسس على بعضها البعض. ورئيس يتجسس عليه نائبه. وذات الرئيس على يقين ان نائبه وقبيلته قد جبلوا على التامر. ونائب الرئيس يتجسس عليه مساعد الرئيس وكل تحت مجهر قوش الذي كان قويا ذات يوم. وقوش يعد او يساهم في تغيير نظم الحكم المجاورة. وقوش ينحره نافع على مجامر علي عثمان. "بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بانهم قوم لا يعقلون." ولكن وفوق هذا وذاك يذبح الشعب السوداني.ومن واقع تطور منهجية القتل التي ابتدعها نظام الانقاذ نمت وتنافسات ستة نماذج لم تعرف البلاد لمثلها قبل. اذ لم يأتي باي منها من قبل غير الاسلاموين في اي من مجالات التجربة السودانية.وهي قتل الجنوبي بالجنوبي وقتل الشباب بالشباب وقتل للدارفوري بالدارفوري والقتل بإخراج الناس من ديارهم وقتل إنسانية النساء وقتل الاسلامويون بعضهم بعضا.
(1)
اما في إطار النموذج الاول هو قتل الجنوبي الجنوبي فقد كانت للاسلامويين تسمية لذلك لا اود ذكرها هنا لما يفوح منها من عنصرية منتنة. من ذلك قتل الجنوبي الجنوبي بصورة لم يسبق لها مثيل والنظام فرح بما أتى
(2)
اما نموذج قتل الشباب للشباب فقد مارسه هذا النظام عندما كان يصطاد شباب المدن القصر من الشوارع وبعد التخرج من المدارس الثانوية وإرسالهم لساحات القتال دون اعداد لذلك يذكر ومن ثم يقيم لموتاهم الشيخ الاحتفال بعرس الشهيد وهو الذي وصفهم لا حقاً بانهم ماتوا فطائس. مسالة يحاول النظام يكررها بشكل اخر تجاه شهداء ثورة سبتمبر القائمة
(3)
اما ما يخص الدافوريين فقد أعد لهم الاسلاميون نفرا من مواطنيهم في دارفور ذاتها ظلوا متعايشين
ومتصاهرين مع بعضهم البعض لقرون. شحنوهم بالعداوة و البغضاء ودججوهم بالسلاح من اجل تفكيك مجتمع ظل متآلفا. وفي تفكيكه ما يدفع به وبهم الى الموت بمزيد من التهميش لهم جميعا. وومهما يكون اصل اسمهم وما يعني او ان كانوا قد تسموا به هم او سماهم غيرهم بالجنجويد فان الامر لا يمكن ان يكون حالة خاصة الا في إطار انه احد الابتكارات الشريرة للنظام في القتل الجماعي لشعب السودان. ومن ثم فقد ابتدع النظام أنواعا وأشكالا من الجنجويد في جبال النوبة وفي المدن. ومن اجل تخويف الأمنيين في المدن يشيع النظام بان يقوم النظام الان بترحيل الجنجويد من دارفور الى عاصمة للتصدي للثوار
(4)
اما النموذج الرابع فقد أتى عن طريق القذف الممنهج بالسودانيين الى خارج بلادهم. فهناك من
اخرجوا من ديارهم وأموالهم اما عن طريق الفصل عن العمل و ما لحق من أشكال التضييق عليهم في حياتهم ووجودهم في البلاد او عن طريق إجبارهم على النزوح القسري الى المهاجر والملاجئ في داخل وخارج البلاد حتى نال السودان من جراء سياسات الحرب الحارة والباردة الي تشنها الانقاذ تجاه المواطنين المركز الاول في طرد ما لا يحصى من المواطنين خارج وداخل أوطانهم. الان نجد أجيالا من الموطنين ولدوا وشبوا وشاخوا ولم تتعرف طفولتهم وشبابهم وشيخوختهم الا على ذلك الوجه القبيح للإنقاذ
(5)
وخامسة الاثافي ذلك الطرد الممنهج للمرأة السودانية وعرضها كنموذج للجلد لمجرد الخروج من منزلها كما تريد هي لا كما يريد النظام . لقد صنعت لإنقاذ قوانين تقع في إطار قذف المحصنات تحاسب ما يعتقدوا هم في قلوب الناس مثل الشروع في الزنا ووي تتناسل من ذلك قانون النظام العام وشرطة النظام العام. كل ذلك من اجل طردها من مجالات المشاركة الحرة في الحياة العامة وحصرها على سجنها اما في سجن النساء او داخل منزلها.
(6)
وأخيرا وليس آخراً نجد قتلهم لبعضهم البعض. فهناك القتل عن طريق الطائرات والسيارات وقتل لتغطية ما تبقى من اثار جريمة قتل فاشلة وغير ذلك مما لا نعرف.
لعل لكل ذلك معنى. اذ لا تنفصل مالات ونتائج هذه المسائل والنماذج عن بعضها البعض. فكل ذلك يقع في إطار الإبادة الجماعية للسودانيين التي نمت واستطالت وتنوعت أساليبها ووسائلها واتسع نطاقها في ظل الانقاذ. اذ لم تقف الإبادة الجماعية للسودانيين على يد الاسلامويين طوال عهد حكمهم على مكان واحد او ان تتخذ شكلا واحدا بعينه. وإذا لم ينجح الاسلامويون طوال فترة حكمهم الأطوال في تاريخ السودان في شيئ فقد نجحوا نجاحا يحسدون عليه في ابتداعهم واستعمالهم وسائل للعنف وتفوقهم في إجادة القتل . فالان لا توجد مرحلة وسطى بين الاسلامويين والسودانيين فاما ان يقضوا عليه او يقضي هو عليهم. ومنهج الاسلامويين في ذلك واحد وهو العنف. وذلك ما يجعل منهم ما هم عليه وما نراه منهم الان.
وقد يتندر السودانيون من واقع حالهم ويتساءلون بأنهم ظلوا يسألون الله في صيامهم وقيامهم بان لا يسلط عليهم بذنوبهم من لا يرحمهم. وقد لا تكون للسودانيين ذنوبا جماعية تجلب عليهم مثل تلك المصائب التى لا مثيل لها. ولكن لهم حسنات كبرى في انهم قبل غيرهم قد اسقطوا نظاميين مستبدين عن طريق هبتهم الجماعية وعصيانهم المدني في مايو 1964 وابريل 1985. وان كانوا قداستعادوا حريتهم وإلا انهم لم يتحرروا تماماً. ولذلك ولما كان النظام المستبد الحالي يعرف ويعلم علم اليقين ما ينطوي عليه مثل ذلك الإرث العظيم وما هي مالات ذلك فقد عقد العزم على ان لا يبنى بقاءه على محاسن او حسنات ما أنجزه السودانيون من قبل في مايو وأبريل لان في ذلك نهاية أمره. وانما له وعليه ان يسعى من اجل تطوير أسوأ ما أتت به الاسلاموية طوال عمرها وارثها الطويل كثورة مضادة الا وهو العنف. لقد أنتج عنفهم ذلك ما أنتج من رجال نعرف الان وعن طريق التجربة المريرة من اين أتوا. وكيف أنتجت تجربة يتوارى أمامهاخجلا بول بوت. وكأني بزهير يصدح من هضبة التاريخ العالية قائلا كرديف للحرب:
وما 'الاسلاموية' الا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضري اذا أضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
لذلك فان الشعب يريد اسقاط النظام الان ومن ثم يقوم هو وحده بتغيير النظام الى نظام يتفق وآفاق كرامته وحلمه بالافضل. وبذلك وعن طريق ذلك يمكن ان نتحرر. وهكذا نقول يا شهداء السودان ...شهداء الوطن انتم تمائم لحماية هذا الوطن حتى لا يتكرر مثل هذا المشهد العنيف.