يحيى الزبير… جنرال الروعة

 


 

شوقي بدري
5 February, 2022

 

الأخ العزيز/ يحيى الزبير طيب الله ثراه: كان أخًا حقيقيًا للجميع.

ونحن في مدرسة الأحفاد الثانوية أو في حي العرضة لم يكن هنالك من لم يحبه ويحترمه.

يحيى ولد وعلى شفتيه ابتسامة وبريق على العينين ونفس سمحة جعلته متصالحًا مع نفسه ومع الجميع.

  وكما كتبت من قبل فإنه كان يندر أن يكون أحد الطلاب رياضيًا رائعًا واجتماعيًا محبوبًا ومتميزًا في علمه، مبرزًا في الكديت أو التدريب العسكري الذي كان يشتمل على ضرب النار، ويأتينا من الجيش مدربون على ضرب النار-البيادة وحياة المعسكرات.

كل هذا توفر ليحيى طيب الله ثراه.

كنت أراه يجادل في الدروس الأخ حمودة أبوسن ومجموعة الداخلية وميدان الباسكت بول.

حمودة  طيب الله ثراه غادرنا قبل فترة قصيرة وشُيِّيعَ في رفاعة بالنحاس، كعادة الشكرية مع زعمائهم.


كان يحيى الزبير يتواصل مع الجميع؛ من الشيوعيين بزعامة أسامة الفيل ووداعة محمد يوسف من أولاد الموردة والذي درس الكيمياء ثم الزراعة في براغ.

ولم يكن عند يحيى طيب الله ثراه عداء مع الأخوان المسلمين بزعامة عبد العزيز حميدة، شقيق البروفسر/ مامون حميدة الأكبر، والذي انتقل من الطفل الوديع من مدرسة بيت الأمانة الوسطى إلى شاب متشنج عدائي ومتنمر، بعد أن انضم إلى جماعة الجامع تحت رعاية أستاذين من كبار الكيزان، هما: صادق عبدالله عبدالماجد وعلى عبدالله يعقوب.

يحيى الزبير كان متصالحًا مع الجميع؛ مما أكسبه احترام الطلبة والمدرسين.

   الصول بخيت،  الرجل الذي قاد الطابور السوداني عندما ذهبوا إلى انجلترا، احتفالًا بنهاية الحرب وفوز الحلفاء. الصول بخيت كان معجبًا ببعض الطلبة في الكديت أو التدريب العسكري وكان للمدارس الثانوية مخازن للمعدات والملابس العسكرية والبنادق. ومن المبرزين في الكديت كان أبوسن، بجسمه القوي، وبابكر محمد مالك، ويحيى الزبير.

وليس غريبًا أن يحيى قد التحق بالجيش وكان معسكر خور عمر ثم معسكر جبيت للمميزين.

 كلما أفكر في يحيى الزبير؛ أتخيله، وهو في ميدان الكرة، غرب المدرسة، يرواغ باحترافية كبيرة، يذرع الميدان طولًا وعرضًا، وابتسامته تتسع وتتسع. تلك الابتسامة التي كانت تعكس الود والثقة بالنفس بدون تعالٍ. كان في المدرسة فطاحلة كرة القدم الذين مسحوا الأرض بفريق الكمبوني، في الخرطوم. منهم لاعب الدرجة الأولى وصخرة دفاع فريق بري ورفعت حارس مرمى المريخ.

 سعدت جدًا عندما عرفتُ أن يحيى الزبير الذي كان وقتها، عميدًا في الجيش سيحضر ألى السويد. تلك الزيارة كانت من أجمل الزيارات بالنسبة لي، ولمجموعة من السودانيين؛ ومنهم طلاب الأحفاد؛ مثل حمزة محمد مالك، عبدالخالق أحمد مالك، وحسين خضر رحمة الله ود الحاوي، وخليل إبراهيم بدري  وآخرين ممن عرفوا يحيى عن قرب.


السفارة السويدية كانت في بداية تكوينها وهم الذين تواصلوا مع يحيى عندما كان على رأس  المؤسسة الصناعية العسكرية، والغرض كان فتح قنوات تواصل، مع السودان تجاريًا وصناعيًا.

يحيى انضم إلى جامعة الخرطوم وتخرج في كلية العلوم تخصص الكيمياء، وتحصل على الماجستير، إلا أنه كان يحب العسكرية والرياضة.

علاقته مع جنوده ومن عمل معه، كانت مثالية، خاصةً مع نائبه الأخ نبيل حسون. يحيى لم يكن مثل عبدالرحيم أحمد حسين وخريجي الجامعات، من مهندسين وأطباء ... إلخ، لا يعرفون الكثير عن العلوم العسكرية ويحملون النياشين، ولهذا لا يتبع اسمهم، اسم ركن، حتى بعد أن صاروا جنرالات. وهذا يعني عدم اجتيازهم امتحانات كلية الأركان والتي  تماثل أخصائي، في الطب، أو شهادة الزمالة، في المحاسبة.

يحيى تحصل على هذه الشهادة، وأنا أعرف  الكثير من الضباط الذين تخرجوا في الكلية الحربية وفشلوا في التحصل على هذه الشهادة، بعد أكثر من محاولة. يحيى طيب الله ثراه كان  رائعًا، في كل شيء. زيارته في صيف الثمانينات،  كانت من المناسبات التي لا يمكن نسيانها. قبلها لم يكن الجسر والنفق، قد تمت بنايتهما. وعند خروجنا من العَبارة استوقفنا ضابط جوازات؛ بسبب شكلنا الأجنبي. وخاطب الضابط أخي يحيى، بالسويدية، فتردد يحيى، وردد الظابط كلامه، وبحده، وأضاف: هذا أمر هل تفهم؟ قلت للضابط: إن يحيى لا يفهم السويدية. فأعاد الضابط كلامه بالإنجليزية.

فرأيت عينَي أخي يحيى تشتعلان وهو يردد: نعم، أفهم الأوامر... آي آم آي فُل كولونيل.. أنا عميد كامل.

وعندما أحس الضابط بالنبرة القوية أعاد النظر إلى الجواز، ثم أرجع الجواز، وقام بالاعتذار.


الزيارة الأولى، كانت لمصنع (سوبريكس) خارج مدينتنا مالمو. (سوبريكس) نوع من ما عرف بالخرصانة الخفيفة الوزن. هذا الاختراع السويدي حظيَ بنجاح ضخم في كل العالم.

إنها بلوكات ضخمة من  الأسمنت بوزن أقرب إلى  (الطرور)، إلا أنها قوية، يمكن نشرها وتشكيلها بسهولة، وهى رخيصة الثمن. تساعد كثيرًا وتسرع البناء.

أذكر أن السويديين، قد باعوا مصنعًا ضخمًا لمصر، سبب ترحيله مشكلةً في الشحن. وكان المصنع يحتوي على وعاء ضخم، تخلط فيه الخلطة التي تشكل في ألواح وبلوكات ... إلخ.

الوعاء كان من الضخامة لدرجة أن  وضعه في السفينة كان معضلة وكان الغرض أن يشتري السودان مصنعًا في ذلك الحجم، أو أصغر.

حضرت تلك المناقشات التي لم أفهم الكثير فيها، عن التركيبات الكيمائية والتفاعلات، ولكن لا حظت الإعجاب والدهشة في عيون السويديين، بسبب علم يحيى الذي كان قد (نجض شغلو). شكرًا أخي يحيى، لقد رفعت رأسنا كثيرًا.


والرحلة الكبرى، كانت إلى شركة (كيما نوبيل) التي لا تحتاج تعريفًا.

فهي الشركة التي أسسها (ألفريد نوبيل) والذي تحمل اسمه منظمة (نوبيل) التي بدأت بإعطاء جائزة (نوبيل) في السلام والطب والاقتصاد والأدب ... إلخ . بدأت الجائزة في 1900م، وكان السبب هو أن (ألفريد نوبيل) المولود في (اسطوكهولم)، هو الذي  اخترع الديناميت، وحصد ثروة ضخمة من اختراعه؛ فأراد أن يكفر عن الخطيئة التي سببها اختراعه، في قتل البشر. عندما اقتسم السويد والنرويج الجائزة عند استقلال النرويج؛  احتفظ النرويجيون بجائزة (نوبيل) للسلام.

الرحلة إلى خارج مدينة (أوروبرو)، كانت 700 كيلومتر. غير أنها لم تكن أبدًا مُمِلة. قضيتها وأنا أستمتع بقفشات ونكات أخي يحيى. وقد لا يعرف البعض أن أخي يحيى كان خفيف الظل، يستمتع بسماع النكتة، ويحكي الطرفة والنكته بسخاء. وبعض النكات التي سمعتها منه أرددها حتى اليوم.

حكاوي الذكريات؛ العرضة وأم درمان، جعلتنا، في حالة نفسية جيدة، وصلنا ووجدنا السويديين، حسب برنامج السفارة في انتظارنا. صُدِمت ويحيى، عندما لم نجد ناطحة سحاب أو مبنًى من عدة طوابق. وعرفنا فيما بعد، أن الشركة، عبارة عن مدينة صغيرة متفرقة، في أعداد، لا تحصى من المباني الصغيرة، تفصلها كيلومترات. والغرض أنه في حادث حريق أو انفجار، لا تتأثر المباني الأخرى. في طوافنا، بين المباني، أسَر لى أحد السويديين، أن يحيى الزبير، يختلف عن الكثير من الزوار الذين كرِهوا المشي وزيارة المكان. وردي كان: إن يحيى رجل رياضي، احتفظ كل حياته، بجسم منسجم، غير مترهل، وهذا يختلف عن الكثيرين، من كبار الضباط، وخاصة الجنرالات، الذين حضروا، لزيارة الشركة.


حضرت الاجتماع الذي ناقش فكرة إنشاء مصنع للمتفجرات، في السودان، والذي سيستفيد منه الجانب المدني كثيرًا؛ في تكسير الجبال؛ لرصف الطرق، وإزالة العوائق، أمام الطرق السريعة، وخطوط السكك الحديدية. وما لم أستطع استيعابه، وقتها، واليوم، وهو تركيز يحيى، على توفر زغب القطن، في السودان، الذي يمكن أن يستخدم في  صناعة المتفجرات.

لم أفهم طبعًا الكثير من الحوار العلمي، إلا أنني لاحظت إعجاب السويديين، ونظرات الدهشة، والموافقة على كل ما يقول من معلومات علمية.

أذكر، في تلك الزيارة، أن حادثةً صغيرةً، قد أثرت على يحيى؛ فعندما أتى وقت الأكل، قطعنا مسافةً طويلةً، إلى قاعة الطعام، وانضم إلينا عدد كبير، من الموظفين، والمهندسين، والرؤساء والمدرين، أتوا من مبانٍ مختلفة  ومتباعدة؛ ووقف الجميع في طابور كعادة السويديين في الأكل  سويًا، وأخذ كل إنسان صينيته وكوبه والشوكة والسكين والملعقة. وأذكر أنها كانت الأكلة الاسكندنافية المعروفة وتعرف بِـ(كالوبس) وهي عبارة عن لحم البقر المطبوخ مع البطاطس المسلوق. وقبل أن تضع الطباخة ملعقة كبيرة، من المربى السويدية المصنوعة من الأعناب البرية التي تغطي مساحات شاسعة في الصيف، صرختُ بطريقة، لفتت الجميع. وشرحت للطباخة أن  يحيى زائر ليس بمتعود على خلط السكريات باللحم، كما يفضل الفايكينق.  وضحك البعض بتفهم.


بعد الأكل، قام الجميع بوضع كل شيء، في مكانه، بعد خرط بقية الطعام، من الصحن ووضعه في مكان مُعَدٍ. وهذا ما يقوم به الجميع، من المدير إلى أصغر عامل، أو موظف في السويد. تعليق يحيى على هذه الحادثة، أن المجتمع في السودان، في طريقه إلى أن يصير مجتمعًا طبقيًا، وهنالك فرق شاسع بين الضابط والجندي، والمرؤوس والرئيس وهذه المعادلة غير عادلة. والغريبة هو أن الرئيس أو الضابط، إذا أراد أن يتبسط، أو أن (يعمل البساط أ حمدي) قد يفقد -الضابط او الرئيس-  احترامه، ولن ينجح العمل. كان يقول إن العلم والتقدم، قد يغير الحال. إن يحيى كان يتكلم عن بساطة الدنيا قديمًا، ويتحدث عن  العشائرية، والحب القديم بين الناس. تحدث عن سبب رحيلهم إلى القطعة التي اشتروها في العرضة، عندما قسمت العرضة. العمدة في أمدرمان، كان في زيارة أهلهم، قبل  تقسيم العرضة، وأبدى إعجابًا، بحمارهم الكبير الأبيض. وكبعض إكرام وفادة العمدة، أتاه الحمار، هديةً، كعادة الناس قديمًا، في إعطاء خير ما عندهم للزائر. وعندما كانت اللجنة تقسم القطع السكنية، أشار العمدة إلى قطعة سكنية مميزة  في الخرطة، وطلب من اللجنة أن تستبعدَها، لأنه يريدُها، لشخص عزيز، وسيكون سكنه في العرضة، مكسبًا لأهل العرضة، وسيكون نعم الجار...

وصدَق العمدة فأسرة آل الزبير، كانت نعم الجار. عرفتُ العرضة جيدًا لأن أختي فاطمة إبراهيم بدري، كانت جارتهم، ولها أبناء، في عمرنا.


أحدُهم الدكتور/ المُعِز مالك إبراهيم مالك، الذي زامَلَ يحيى، في الأحفاد، وجامعة الخرطوم.

كما سكن، في العرضة، العمات: السارة بدري وابنُها أبوقرجة، الذي زامل أخي يحيى، في الجيش. والعمة أم سلمة بدري، والدة أول الدفعة العاشرة، المشهورة  في الجيش: بابكر عبدالمجيد علي طه، والضابط/ مامون عبدالمجيد على طه. والعمة صالحة بدري، والكثير من آل بدري، الذين كانوا يكنون حُبًا صادقًا واحترامًا شديدًا، لأخي يحيى والذي يستحق كل الاحترام. وعلى رأسهم العميد/ يوسف بدري والعميد/ قاسم بدري الذي زامَلنا، في الأحفاد. ويجب أن أذكر صدِيقَ يحيى، الضابط المميز، وابن العرضة، حسن عماس، الذي سارت بذكره الركبان، طيب الله ثراه. فلو كان هنا لحكى الكثير عن يحيى.

 لم يحدث أبدًا، وأكرر أبدًا، أن تعرض إنسان لأخي اللواء/ يحيى الزبير، بكلمة سيئة. وهذه شهادتي، أمام الله.

 المؤلم أن تلك الزيارة، إلى السويد، كانت في الفترة التي سبقت إبعاد نميري ولم تنفذ كل تلك المشاريع التي خطط لها يحيى. فمن عادة السودانيين أن يتخلصوا من كل ما خلفه أو خطط لهُ، مَن قبلهم، بِغَض النظر، إذا كان العمل مفيدًا، أو غير مفيد.


حضرتُ إلى الخرطوم، في طريقِنا، إلى كينيا، والجنوب الإفريقي، مع الشيخ/ عبدالله النهيان ابن عم عبدالله النهيان وزير الخارجية.

أخذته لمكتب يحيى الزبير الذي رحب بنا بحرارة، وبعد المؤانسة أراد يحيى أن يكرم الشيخ/ عبدالله بشيء، وكابن الكرام الذين أهدوا أحسن حمير الحلة، انتزع يحيى. من الحائط، في مكتبه، رأس غزال محنط بطريقة، تجعله يبدو، وكأنهُ، لا يزال يتنفس، وله عنق طويل. وأعطاه هديةً للشيخ/ عبدالله، الذي صار يتحدث عن الجنرال اللطيف وكرمه ويذكره بإعجاب.

 وفي بداية 1988م، كنتُ قد حضرتُ كالعادة، لقضاء أعياد الكريسماس، ورأس السنة، في السودان، متجنبًا تلك الأعياد، التي لم تكن تعجبني. وفجأةً، يقتحم المكتب، في شارع واحد الامتداد، أخي يحيى طيب الله ثراه. ووسط دهشة الجميع كان يلومني:

إنت قايل بتجي البلد دي، وانحنا ما بنعرف؟ انت مما ختيت كراعك في المطار أنا عندي علم.

ضحكنا واحتضنا بعضنا. وبعد ذهاب يحيى، قال لي المدير العقيد مهندس/ عبدالله علي عبدالله، مدير مكتبي، والذي تعرفت به في أبوظبي عندما كان مُعارًا، لجيش الإمارات، في قسم الصيانة، والكشف على  الآليات، قبل الشراء:

ده مدير  المؤسسة الصناعية العسكرية، ممكن يدينا شغل، عندهم مشاريع كتيرة. وكان ردي عليه: إنني لن أتجرأ، لأن أناقش الموضوع، مع أخي يحيى الزبير، لأنني أعرف أنه رجل أمين وشريف، ولن يحابي أحدًا .

 وكثيرًا ما كنتُ أتحدث مع يحيى، طيب الله ثراه، تلفونيًا وفي أغلب الأوقات، يكون هو، بروحه السمحة. من يتصل بي. كان يواسيني ويتحدث عن اللقاء بعد الثورة، كنتُ على اقتناع بأننا سنلتقي، إلا أن الشر، لم يترك الوطن بعد.



نِحنَ كُنَّا الأولاد المطاميس، في المدرسة، لكن يحيى الزبير، كان مثالًا، للطالب النجيب، والشخص اللطيف، والعاقل.

إن مقركَ، في أعلى الجنان، أخي الحبيب يحيى، إن شاء الله.

أنا حزين جدًا، لأنني، لم أحضر، في الميعاد.

 فرحم الله أخي يحيى الزبير، لقد فكرتُ فيه ولا أزال أفكر فيه، كلَّما شاهدتُ ما صار إليه حال الجيش، ورجال الجيش، من هوان، وفساد، ومذلة.

لقد ترك يحيى الزبير الطيب، لأهله أكبر ثروة؛ إنها السيرةُ السمحةُ، والاسمُ النظيف.


شوقي بدري


shawgibadri@hotmail.com

 

آراء