يمشن القمصان بلا ناس في هجاء الفراغ الفكري والتهريج السياسي

 


 

 

مع مهرجان الأربعاء بقاعة الصداقة قفزت إلى ذهني حكاية شعبية معبرة. يحكى أن العمدة (كينش) في منطقة مروي واجه بعض المشكلات في عموديته فقرر أن يجمع أصحاب الرأي والمشورة (آلية) للتفاكر معهم. جاء الأعيان والشيوخ بملابسهم الفخمة وأمضوا وقتاً طويلاً وانفض الجميع دون تقديم حلول للعمدة. وقد حضر (حسونة) شاعر الشايقية اللمة والمهرجان، فسئل عن رأيه وكان رده:

(يمشن القمصان بلا ناس)

يقصد رجال أصحاب ملابس وأبهة ولكن عديمي الرأي بل مجرد مظهر، هذا هو نفس المنظر والشعور الذي تملكني وأنا جالس أمام التلفاز أتابع لمة (توقيع الإعلان) لم يتقدم أي فرد من هذه الجموع ليخطب مقدماً أفكاره الجديدة أو البرنامج الذي يخرج الشعب من أزماته، اكتفوا برفع الملفات الجلدية في الهواء مع الهتافات والزغاريد.

هذا مشهد يتكرر منذ عهد حواء الطقطاقة وهي ترتدي ثوباً من ألوان العلم وردد الحضور: حررت الناس يا إسماعيل الكانوا عبيد يا إسماعيل!! ثم تكرر المشهد مع الرئيس القائد. ثم صاحب المشروع الحضاري الذي قالعنه أحد رجال الطرق الصوفية الشيخ الصايم ديمة: “المشير البشير خادم القرآن الكريم وهو من بيت صوفي” (صحيفة أخبار اليوم 15/9/2016).

ارتبطت ظاهرة الحشود بالنظم الدكتاتورية لذلك لا أدري لماذا تلجأ إليها حكومة الثورة؟

بالإضافة للحشود والمهرجانات اتسمت فترة الحكومة الانتقالية بتشكيل كيانات فارغة المضمون وهذا ايضاً ضمن ظاهرة تكاثر وتضخم الأشكال التي تعطي وهم وجود أغلبية شعبية وراء الحكومة، ولا تحدد مهام هذه الكيانات بل تساهم في عرقلة الأداء الحكومي المتعثر أصلاً. ظهر مجلس الشركاء قدم نفسه كجسم استشاري ولكنه بدأ يمارسصلاحيات تنفيذية مثل ترشيح الولاة. ثم جاءت المبادرة رغم أن رئيس الوزراء لا يقدم مبادرات بل يصدر قرارات واجبة التنفيذ. وقبل أن نفيق من ضجيج المبادرة إذ بها تقذف بما يسمى الآلية للساحة السياسية ومعنى الآلية هو الأداة التي تقوم بالتنفيذ والمتابعة وبهذا المعنى فالآلية هي مجلس وزراء وسيادة ورئيس وزراء!! وكان أحدث المهرجانات “التوقيع على الإعلان السياسي للحرية والتغيير” رغم أن (ق. ح. ت) لا تحتاج لإعلان سياسي بل إلى “تكريب” تنظيمي جاد يحدد وظائف وواجبات كل فصيل أو فرد داخل التنظيم وكيف يقوم بتحويل الأقوال والتصريحات إلى واقع وحقيقة.

أخشى أن تكون حكومة الثورة قد فقدت الثقة في اليسار والقوى الحديثة بسبب ضبابية الرؤية والمواقف المتذبذبة، لذلك صارت تعتمد على القوى التقليدية وتنشط الإدارة الأهلية لتساعد في بعث القبلية والجهوية والتي تم تكريسها من خلال موضة المسارات التي أخذت شرعيتها في مفاوضات السلام، وهي في حقيقتها قناع لعنصرية مضادة وتبرير لدعاوى الانفصال مستقبلاً. ولا أدري كيف توفق الثورة وحكومتها بين تحديث الحكم المحلي- الإقليمي وبين إحياء الإدارة الأهلية، ومن الوهم الظن بأنها تعمل على رتق النسيج الاجتماعي والعكس صحيح تماماً. ومن المفارقات أن يكون الذين جلسوا في الجمعية التشريعية في أربعينيات القرن الماضي لهم القيادة في مجالس ثورة أبريل 2021، ليس المطلوب عزلهم ولكن تأهيلهم بمبادئ الديمقراطية والحداثة وقبول الآخر والعمل على بناء وطن قومي يسع الجميع.

وينطبق نفس القول على الطرق الصوفية فقد تم توظيف الإدارة الأهلية والصوفية من أجل تحقيق أهداف الاستعمار في البدايات وحتى خروجه: الأمن والاستقرار، وبعد معركة كرري كان تدجين المشائخ والفقرا ولم يعودوا مجاهدين أو كما يقول العامة: فلان دا زول الله ساكت! ونجح نظام الإنقاذ في احتواء الطرق الصوفية ضمن الحزب الواحد وتشكلت داخل المؤتمر الوطني ما يسمى بـ: “المجلس القومي للذكر والذاكرين”. وصارت له أمانة بنفس الاسم وأن تقوم بإصدار مطبوعات دعوية مثل مجلة الفيض ودليل المجلس ورسالة المولد ودليل القوافل، لقاءات بين أعيان المتصوفة والأخ رئيس الجمهورية ونائبه مما أدى لإزالة الجفوة وتوسيع دائرة المشاركة وتكوين باب الشورى، إقامة المركز العالمي لعلوم التصوف وهو الآن تحت التنفيذ، مشروع القوافل الدعوية التي طافت كل مدن السودان.

من الواضح دور أمانة المتصوفة داخل نظام الإنقاذ وما نريده الآن أن تكون الطرق الصوفية مستقبلاً رصيداً لقوى الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية ولكن بخلفيتها الحالية لن تفيد كثيراً في اكتمال أهداف المرحلة الانتقالية.

وأختم بالقول، لا جدوى من لملمة الناس دون برامج ورؤية فكرية وهذا ما نحتاجه خلال الفترة الانتقالية أن تتحول السياسة إلى سياسة مفكرة مشغولة بالفكر والفلسفة والحوار وفهم الواقع وتفسيره من أجل تغييره. كنت أتمنى أن يكون هذا الحشد من أجل صياغة مشروع وطني ديمقراطي حديث خاصة وأن الوطن لم يتوصل إلى مشروع قومي منذ الاستقلال، وهذه الأزمة المتمثلة في الدائرة الشريرة للانقلابات والانتفاضات.

نحن في حاجة إلى قانون انتخابات جديد لكي تظهر أحزاب ديمقراطية وحديثة ولا تقودنا أحزاب لا تعرف الديمقراطية الداخلية وذات زعامات خالدة يغيرها الموت، وحتى بعد الموت يصعب تداول المواقع. أحزاب تدخل الانتخابات بلا برامج ولا تملك صحيفة ولا مركز دراسات ولا تمتد عضويتها قومياً إلى كل أنحاء الوطن.

كفى تهريجاً وغوغائية والتفتوا إلى معاناة هذا الشعب الصبور الذي صار يفتقد حاجاته الأساسية، الكهرباء والعلاج والخبز ونظافة البيئة.
///////////////////////

 

آراء