36 عاما من الغياب
رئيس التحرير: طارق الجزولي
4 March, 2015
4 March, 2015
(كلام عابر)
يوم 29 يناير من كل سنة يحمل لي ذكرى خاصة أتوقف عندها كل سنة بطريقتي الخاصة.. هذه المرة تزامنت هذه الذكرى مع فعل قبيح ضمن سلسلة القبح التي بدأت، ولم تنته، منذ فجر يوم 30 يونيو 1989.صدر خطاب من وزارة الإعلام، باعتبار أنها الجهة المسؤولة عن اختيار وتوجيه تفكير الناس ومزاجهم الثقافي، إلى إتحاد الكتاب السودانيين تحيطه علما بإلغاء الإتحاد ووقف نشاطه، ولم تكن هذه المرة الأولى التي يصادر فيها نشاط هذه الإتحاد المولود بسبعة أرواح، والذي يعود عقب كل مصادرة وهو أكثر حيوية. قادت اتحاد الكتاب السودانيين في سنوات مضت صفوة من أصحاب القامات الطويلة جدا منهم جمال محمد أحمد،ودكتور يوسف فضل،وعلي المك، ودكتور عبدالله علي ابراهيم. لم تكن هذه المرة الأولى التي يعصف فيها بقلم الإتحاد، ولكن لربما تكون الأخيرة.
في عصر يوم 29 يناير 1979 الموافق غرة ربيع الأول 1399هـ رحل والدي الحاج محمد يوسف علقم من دار الفناء إلى دار البقاء في بداية حياتي العملية عملت مساعدا لضابط تنفيذي مجلس بلدية القضارف(هكذا كان مسمى الوظيفة تلك الأيام)، سبقتها بضع أسابيع من العمل في مصلحة البريد والبرق. كانت نصيحة والدي الوحيدة لي وأنا في بداية حياتي العملية ألا أمد يدي لما ليس لي،ولا أتمنى أن أمتلك ما في يد غيري من الناس.كان لشاغل وظيفة مساعد ضابط المجلس في زمن المجالس والحكم المحلي قبل أن تمتد إليه يد العابثين والمنظرين، فاعلية تتجاوز ما عليه الوزير الولائي في هذه الأيام. لم أمد يدي لما ليس لي بفضل الله،وأحسب أن هذا الذنب ليس من بين ذنوبي الكثيرة التي أرجو أن يغفرها لي ربي. فشلت في الحصول على ما هو حق شرعي لي، فخرجت خاوي الوفاض على مر السنين من كل الخطط الإسكانية،حتى في مدينة القضارف. شاركت في بلدية بورتسودان، من بعد بلدية القضارف، في عمل لجنة مصغرة وزعت آلاف الأراضي السكنية على مستحقيها مطلع عام 1971، ومن فضل الله علينا،إخوتي أعضاء تلك اللجنة وأنا، أنه لم ينل أي منا مترا مربعا واحدا من مئات آلاف الأمتار المربعة من الأراضي التي وزعناها على مستحقيها الحقيقيين في بورتسودان، بمثلما لم يذهب متر مربع واحد لغير مستحق. عفوا.. هذا ليس للتباهي،فما من سوي يتباهى بأنه لم يسرق،أو يتباهى بما يسمى بلغة هذه الأيام بأنه (نظيف)، فالأصل في الإنسان ألا يسرق وألا يأخذ ما ليس له.
أكمل والدي حفظ القرآن الكريم وتجويده بقراءاته السبع علي يد شيخه العارف بالله عبدالباقي حمدالنيل أزرق طيبة،وتفقه في الدين، وكان يكتب بخط جميل، وكانت لديه هواية القراءة التي تحولت بمرور السنين غلى مكتبة كبيرة تجاوزت شهرتها مدينة القضارف تحمل اسم مكتبة علقم، تميزت على ما سبقها وعاصرها وتبعها من مكتبات أنها كانت تملك المعرفة لهواتها بأقساط شهرية مريحة وبأسعار مريحة هي الأخرى. لم أسمع أن تجربة مكتبة علقم الفريدة هذه تكررت في مدينة أخرى في السودان. أول مكتبة أو مجموعة كتب أقتنيها في حياتي كانت هدية من والدي، طيب الله ثراه، وأنا في سنتي الثانية الأولية وكانت مجموعة سيرة الأنبياء من تأليف عبدالحميد جودة السحار وسيد قطب، ثم مجموعة الأبراشي وكتيبات مكتب النشر التي لم يكن ثمن الكتاب منها يتجاوز القرش ونصف القرش(التعريفة). اختفت مكتبة علقم كدار للتنوير وبيع وتمليك المعرفة مثلما اختفت أشياء كثيرة جميلة من حياتنا، وتبقى منها عبق الذكرى الطيب.
اتخذ والدي دنياه مطية لأخراه. تحاشى التعامل الربوي مع البنوك، رغم أنه كان بوصفه أحد كبار تجار المدينة هدفا للبنك الأهلى المصري وبنك باركليز عندما فتحا فرعيهما في القضارف في سنوات الأربعين من القرن الميلادي الماضي. هو ونفر قليل من تجار المدينة رفضوا استغلال ما أتيح لهم من تسهيلات وقروض بنكية لتوسيع أعمالهم التجارية لأن تلك التسهيلات والقروض كانت (ومازالت) تقوم على الربوية الصريحة رغم ما استحدث في هذه الربوية من تجميل لفظي.
وهذه التقوى التي عرف بها في مجتمعه كانت وراء سابقة لم تدونها سجلات السوابق القضائية وان تناقلها البعض شفاهة، فقد مثل شاهدا في نزاع بين خصمين في محكمة القضارف، ولما طلب إليه أن يؤدي القسم بأن يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق، اعتذر للقاضي بأنه لا يقسم على كتاب الله قط، وكادت أن تحدث أزمة في المحكمة لولا أن كلا الخصمين أكدا قبولهما بشهادته وثقتهما في صدقه دونما حاجة لأن يقسم على المصحف.
حينما التحقت بمدرسة حنتوب الثانوية، كانت وصيته التي يكررها لي كل مرة أن أبتعد من أنصار السنة والشيوعيين والإخوان المسلمين، وكانت وصية أهل بيتنا أن أبتعد من البحر،وهو النيل الأزرق الذي كنا نعبره برفاس المدرسة، وبالبنطون فيما بعد والمراكب أحيانا، ذهابا إلى ودمدني وإيابا منها، فلم أنتم إلى يوم الناس هذا لأي من هذه المذاهب الفكرية،وإن جمعتني هموم الوطن في كثير من المواقف بالشيوعيين.ولم تكن لدي الرغبة الجادة لتعلم السباحة ربما بحكم أصولي القضارفية،وأهل القضارف ما زالت ضالتهم الماء.
واخيرا ، رغم حرصي على أن أكون دائما في وداع الأحباب والاصحاب كعادة دائمة، سواء أن كانوا على سفر من بقعة في أرض الله الواسعة هذه إلى بقعة أخرى،أو كانوا في سفرهم الأخير من دار الفناء إلى دار البقاء، فإن البعد الجغرافي لم يمكنني من بلوغ القضارف لوداعه إلا في ظهر اليوم التالي، بعد عدة ساعات من رحيله. ولكني استغرقت وقتا أطول..سنوات طويلة للوصول للقضارف عندما لحقت أمي بوالدي بعد ثمانية عشر عاما من رحيله.
وأستميح القاريء عفوا أن أتشارك معه قراءة هذه الخواطر، فقد آثرت هذه المرة أن أكتب عن والدي ..لأول مرة..
رحم الله والديّ وغفر لهما.. ودعواتي بالرحمة والمغفرة لوالديكم جميعا أحياء كانوا أم أمواتا..
(عبدالله علقم)
Khamma46@yahoo.com