احتفاليَّة السِّبِر بالدلنج .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
The Dilling Ceremony
P. D. Fletcher بي. دي. فليتشر
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال قصير كتبه الإداري البريطاني بي. دي. فليتشر من مذكرات قال إنه كتبها في ذات يوم الاحتفال الذي أقيم بمدينة الدلنج (يوم 28 أكتوبر 1922م). ونشر المقال في العدد السادس من "مجلة السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادر عام 1923م.
ويتناول المقال احتفالية " السِّبِر Sibr" في منطقة بجبال النوبة. ولا يخلو وصف هذا الكاتب لذلك الاحتفال من بعض السخرية المتعالية كشيمة الإداريين في تلك السنوات الباكرة من العهد الاستعماري. وقد تعرض لذلك الاحتفال أيضا – بذات اللهجة - الإداري البريطاني ريتشارد أوين في فصل كامل بعنوان "رجال النوبة" في كتابه "أيامي في السودان Sudan Days “الذي صدر عام 2016م عن دار نشر "ماتادور" بليستير في بريطانيا.
وتعريف "السبر" بحسب الإفادة التي وردتني شاكرا من الدكتور قندول إبراهيم قندول – بطلب مني - هو: "احتفاليَّة تقوم بها جميع القبائل النُّوباويَّة وتتعلَّق تقريباً بالزراعة وطقوسه المتعدِّدة. والغرض منها هو المحافظة على وإدامة العلاقة الوديَّة بين الإله (مِسلْ) والمجتمع لرفع الشرور والآثام. ولفئة الكجرة حق الامتياز الشعائري للقيام بطقوس "السِّبر". وتتفاوت المدة التي تستغرقها احتفالات السِّبِر على حسب المناسبة ذاتها، فمنها ما يستغرق يوماً واحداً ومنها ما يستمر لعدة أيام". ومن أمثلة أسبار المنطقة: سبر النار، وسبر اللوبيا وسبر تافوتيه (السباق). أصداء
المترجم
***** ***** ***** *****
قدمت إلى الدلنج في يوم 27 أكتوبر (1922م). وأخبرت على الفور بأنه يجب علي أن أشهد في صباح اليوم التالي أكبر وأهم احتفالية سنوية تقام بالبلدة، ويسمونها "السبر"، وذلك إنابة عن الباشمفتش بمب دين، والذي لم يكن موجودا في الدلنج يومها. وأخبرت كذلك بأن الاحتفال سيبدأ في السابعة، وستكون هنالك احتفالية ابتدائية في مساء اليوم (27 أكتوبر).
ولجهلي الشديد، لم أستفسر عن تفاصيل الاحتفالية الابتدائية. وإن كنت قد فعلت فقد كان بالإمكان الربط بين ما شاهدته أنا وما شاهده قسيس البعثة التبشيرية النمساوية، وسجله في مذكراته.
كان المكَّان (مثنى "مك") الرئيسان في الدلنج هما عيسى ود ضيف، والكجور فنداما (Findma)، وكانا َقَدْ بَلَغْا مِنَ الْكِبَرِ عُتِيًّا، ويقيمان في أكبر جبلين من جبال الدلنج: جبل المك وجبل الكجور. ولا تفصل الجبلين غير نحو خمسين ياردة.
وعند الساعة السابعة صباحا في يوم 28 أكتوبر امتطيت حصاني، ومضيت نحو سفح جبل كجور في رفقة المأمور اليوزباشي صالح أفندي زكي. وصعدنا سويا نحو بيت الكجور على ارتفاع ’150 في الجبل. واستجاب لندائي له للسلام عليه، فخرج إلينا بعد بعض التأخير من غرفة صغيرة (تكل) مرتديا ثوبا متسخا أحمر اللون، وهو اللون المفضل عند كثير من كجور النوبة. لقد كان ذلك الكجور قد عزل نفسه لنصف عام كامل في تلك الغرفة الضيقة للقيام بمهمة جليلة هي استجلاب (إنزال) المطر عند بداية موسم قطع الحشائش – ولذا كان سعيدا بأن يعود إلى عالم الأحياء مرة أخرى. وبكل وقار تقبل مني تهنئتي له بالنجاح منقطع النظير الذي أحرزه في استجلاب المطر هذا العام. ثم أتخذ له مجلسا على "عنقريب" تحت ظل "راكوبة" خارج غرفته الصغيرة، وتحدث إلى لمدة 45 دقيقة، وأنا أنتظر مجيء المك، وهو ما يعني البداية الحقيقية للاحتفالية الدينية. وفي أثناء حديث الكجور معي انضم إلينا مساعده - وهو رجل بسيط بالغ السذاجة – إلا أنه كانت له لحية كبيرة مُشَذَّبٌة (!؟. المترجم). ولا شك عندي أن ذلك الرجل سيحل محل الكجور عند رحليه. وكان ذلك المساعد هو الرجل الوحيد (باستثناء المك والكجور) هو الذي شارك في تلك الاحتفالية. ثم رأيت بعد ذلك عددا كبيرا من النساء ممن يعدن "كاهنات priestesses" يقبلن على المكان، ولعل اختيارهن للمشاركة في تلك الاحتفالية بسبب سنهن المتقدم (وليس لمظهرهن!). ثم تبعتهن زوجة الكجور وثلاثة من أولاده الصغار. وبدأت النساء في ضرب "النقارة" في تناغم، وكانت تلك النقرات دعوة للناس ليقبلوا على مكان الحفل (أورد الكاتب في مقاله صورة لأولئك النسوة). ولكنهن لم يتوقفن عن ضرب "النقارة" حتى بعد أن تحققت الغاية من "نقرها"، وداومن على ذلك حتى النهاية (في الأصل "النهاية المريرة"! المترجم).
وعند الثامنة تقريبا جاءت الإشارات بأن المك سيشرف المكان في أي لحظة، فأسرع الكجور بالانسحاب إلى غرفته وعزلته المجيدة. وسرعان ما بدأ سكان الدلنج في التجمع، وأخذ أماكنهم في مجموعات صغيرة حول حوش الكجور، من غير اختلاط بين الرجال والنساء (أورد الكاتب هنا صورة أخرى لذلك الجمع). ولم يجرؤ أحد من الحضور على الاقتراب من ذلك الحوش لأنه من الشائع عندهم إن أي من يدخل ذلك الحوش في أثناء الاحتفال سيموت خلال ذلك العام (بالطبع باستثناء المك والكجور وعائلته، والكاهن والكاهنات، وآمل أن أضيف لتلك الجماعة الناجية الباشمفتش والمفتش البريطاني أيضا). ولم يجرؤ على دخول الحوش حتى ابن المك (علي ود المك) الذي يعمل كوكيل له ويؤدي كل أعماله تقريبا ويعد أهم شخصية الآن في الدلنج، بل وقف في جانب الجبل يشاهد الاحتفال مع بقية النوبة.
ثم أقبل المك عيسى ود ضيف ودلف إلى حوش الكجور وهو يحمل عصا طويلة، ودخل مباشرة لغرفة الكجور الصغيرة. ولوح المك بعصاه للأمام والأعلى، وهو يهتف صارخا بكلمات لم أتبين معناها، ولكنني أخبرت بأنه كان يدعوا إله الجبل (واسمه أرو) لذلك الاحتفال. وعقب تلك الدعوة أطل الكجور من غرفته الصغيرة وسلم على المك، ودعاه للجلوس على مقعد صغير مقابل لعنقريبه، وجلس هو والكاهن على العنقريب الوحيد في تلك الراكوبة أمام الغرفة. وبدأ الاثنان في الحديث مع بعضهما لنحو نصف ساعة (خلتها دهورا)، ثم نهضا، وعاود المك تحريك عصاه كما فعل من قبل مع دخول الكجور لغرفته مرة أخرى. وبدأت الكاهنات في ترديد الدعوات لإله الجبل. وجلس المك مرة أخرى، وما هي إلا دقيقة أو نحوها حتى بدأ في الارتعاش بشدة وينبح مثل الكلب. وفي ذات الوقت دخل الكاهن والكجور في نوبة ارتجاف عنيفة. وعلمت لاحقا أن ذلك تزامن مع هبوط إله الجبل عليهم. وكانت تلك إشارة للكاهنات ببدء فترة من النِّيَاحَة تواصلت – على فترات – حتى نهاية الاحتفال! ثم نهض المك وبدأ يجر قدميه في خطوات راقصة وهو يدلف نحو غرفة الكجور (وهذا نشاط بدني يحمد له وهو في تلك السن المتقدمة!). ونهض الكجور كذلك وحاول تقليد تلك الرقصة (الملكية)، وكاد يسقط في عدد من المرات لولا استناده على حيطان تلك الغرفة. ثم نهض الكاهن وحاول هو الآخر أداء رقصة حول حوش الكجور، ولكن لم يخل منظره وهو يفعل ذلك من بعض حُمق، فقد كان يميل بجسده إلى الأمام مدليا يديه مرتخيتان أمامه متشبها بالقرد. ولحق بالمكو الكجور في تلك الغرفة.
وجلس ثلاثتهم (المك والكجور والكاهن) وهم يرتعشون بشدة في حضرة الاله أرو لفترة امتدت لربع ساعة، خلا دقيقة واحدة خرج في غضونها المك حاملا سيفه المسلول (سيف الشرف) وملوحا به فوق رأسي اثنين من أولاده كانا يجدان في نقر "النقاقير". لا أعلم لماذا قام بذلك، ولكن قد تكون النشوة الدينية قد حركت فيه مشاعر الفخر الأبوي، ففعل ما فعل، إذ لم تكن ثمة علاقة بين ما فعله المك وذلك الطقس الديني. وعقب أوبة المك لغرفة الكجور دخل الكجور في نوبة ارتجاف أشد عنفا من الأولى، وشرع في القُباع (صوت الخنزير الناخر). وكانت تلك إشارة أن "سلطان الأرو" (الإله الرئيس لكل الجبال) قد هبط عليه. فنهض المك من فوره وغطى الكجور من رأسه إلى أخمص قدميه في قطعة قماش متعددة الألوان، وساعده في الوصول لعنقريبه حيث رقد وهو ينخر ويرجف بشدة لمدة ربع ساعة أخرى. وفي ذلك الأثناء دخلت الكاهنات (واحدة إثر أخرى) إلى غرفة الكجور حبوا على رُكَبهن، وقبلن رجلي الكجور، ثم عدن لأماكنهن بذات الطريقة.
وبعد نحو ربع الساعة توقف الكجور عن النخِير، ولكنه ظل يرتجف بشدة وهو مستلقي على عنقريبه. ثم قام المك بمساعدته في النهوض، وبتغطية رأسه بتلك القطعة المتعددة الألوان التي كانت تلفه وهو مستلقي على العنقريب. ثم خرج المك مع الكجور من الغرفة وهو يضع ذراعه حول عنق الكجور، ويساعده هو نفسه بعض الكهنة في الوقوف (أورد الكاتب صورة هنا لذلك المنظر).
وكان خروج المك والكجور هو ذروة ذلك الاحتفال. حينها أصدر كل الحضور في تلك اللحظات صرخة تردد صداها في أرجاء الجبل – كانت صرخة إثارة مختلطة ببعض الخوف والقلق والترقب، إذ أنهم كانوا يؤمنون بأن تعثر الكجور وسقوطه في تلك اللحظات كان يعني أن كل فرد منهم (رجلا كان أم امرأة) سيسقط مجندلا ويفارق الحياة من فوره. وجدت ذلك الإيمان صعب التصديق، ولكن تأكدت من منه من عدد من رجال النوبة.
أفلح الكجور في الخروج من الحوش متكئا على المك، ووضع في يده فأس. وقام الكجور بالتلويح بالفأس جهتي الشمال والغرب، وكان ذلك يعني أفضل الأمكنة التي ينبغي على الناس الزراعة فيها في عامهم المقبل. وكان السكان قد زرعوا في عامهم المنصرم (1922م) في اتجاهي الجنوب والشرق، فلا بد أن الكجور (وهو مغمض العينين) قد علم ما هو اتجاه مدخل الحوش. وهذا مما يدل على أن نشوة الكجور الدينية لم تكن كافية لسلبه الفطرة السليمة وحصافة الرأي.
ثم اقتيد الكجور برفق وبطء عائدا إلى الراكوبة أمام غرفته الصغيرة، ومدد على العنقريب وسجَّى بتلك القطعة متعددة الألوان من رأسه لأخمص قدميه. وظل ممدا وهو في حالة تشبه الغيبوبة التامة. وأخبرت بأنه سيظل على تلك الحالة حتى يتم ذبح ثور في الحوش، ويستخرج من شحمه قطعة تدخل في منخاريه. بعدها سيفيق الكجور من سباته ويغدو رجلا عاديا تارة أخرى. وبعد ذلك أحضرت قبضة من الحبوب من حصاد العام ووضعت خارج غرفة الكجور.
عند ذلك كان الشمس قد ارتفعت، وشعرت بالجوع. ووجدت أنني لا أستطيع الانتظار حتى يفيق الكجور تماما، فأخذت طريقي إلى أسفل الجبل حيث رأيت ثورا بائسا على الأرض، ينتظر أن يساق للذبح. ويبدو أن الحيوان المسكين كان قد أصابه إجهاد عظيم وهو يكابد مشقة صعود الجبل. لم أشعر بالأسف لعدم بقائي في مكان الاحتفال لأشهد ذبحه.
وقضى الجميع باقي نهار وعصر ذلك اليوم في ألعاب بالخيول والعصى. أما ليل ذلك اليوم والأيام التالية فلا بد أنها كانت مخصصة للمريسة والمشروبات الأخرى.
alibadreldin@hotmail.com