في اليوم العالمي للمسرح: ستارة مسارح السودان موشحة بالسواد والرماد
رغم أنها مناسبة عزيزة على أفئدة جموع الدراميين والمسرحيين السودانيين، والتي يحرصون على الاحتفاء بها في يوم المسرح العالمي الذي يصادف السابع والعشرين من مارس كل عام، ومعهم جموع المهتمين ورواد المسرح كأحد أشكال الفنون بشكل عام، ولكن للأسف أبى إحتفال هذا العام إلا أن يأتي وأروقة المسرحيين السودانيين تتوشح بالحزن الممض ويظللها الأسى الحقيقي وهي تشهد رحيل كوكبة عزيزة من الدراميين وأهل المسرح الذين ارتبطوا به كمهنة.
فقد بدأ العام بتتالي رحيل عدداً منهم، واحدهم خلف الآخر وهم الذين تركوا بصماتهم على خشبة مسارح البلاد.
يرحل عثمان الحويج بصمت يشابه صمت حياته التي إنكفأ عليها منذ سنوات طوال وهو يستنط لموجته الخصوصية، تلك الموجة التي حاول عدد من أقرب أصدقائه أن يخلصها منه، كان آخرها الحفل الذي تبنى ترتيبه له صديقه الشاعر الراحل محجوب شريف بالمطرب الراحل هو الآخر محمد وردي على خشبة مسرح قاعة الصداقة، ولكن هيهات، وهكذا مضى الفنان الحويج لآخر أشواط قصيدته الأخيرة التي أصر على كتابتها بصمت، فيرحل، لينعيه الدرامي الكبير مصطفى أحمد الخليفة وقلبه ينفطر من هكذا رحيل، حيث يكتب تحت عنوان "أودعناك سيد الوداعه":ـ كان جزء لا يتجزأ من هذه المؤسسه العريقه تاريخها وصانع أحداثها وشاهد علي عريق عظمتها ، درامي ، شاعر، قاص ، ناقد ، صحفي ، ومسؤول عن الدراما التلفزيونيه في بدايه بريقها وتوهجها…فقدت الأشياء ترتيبها ، وترك ترتيب نفسه ليرتب الحال ، فما ترتب وله أجر المحاوله ، نهلنا من إضاءات حكمته (وتجلياته) والتي يضن بها أحياناً ويبسطها حينا لمن يحب وفي عجله لا تتكرر ولا يكررها ، صاحب نبوءه وتجليات، تحسبه أحيانا نبي الله (الخضر)، وأحياناً يبدو لك (سلمان الزغردات) وحينا قليلاً (الحويج) ، ملاماتي بحكمته ومظهره الذي لا يبين جوهره إلا حينما يستفزه الألم، ذهب معه تاريخ المسرح وملحه، وكان أخر عناصر البناء، كلنا (عثمان الحويج) في هذا الزمن الكئيب، وكان شجاعاً في أن حسم أمره، وكنا واهمون نظن أن الأشياء هي الأشياء، والحزن أننا لن نراك منذ اليوم وأنت تجول في أرض الدراما بذاكرتنا التي تحملها يا سيزيف خيبتنا، أرقد في سلام (أخي عثمان) الحويج برحمه الله وكرمه ، فلم تجد عندنا حتي السلام، فنحن نجيد (النعي)، ألم تري كم (نعينا) بحياتك دون أن يطرف لنا جفن?، أنت عند الكريم الآن فلا حزن عليك بعد اليوم.
ويبدو أن دوامات الأسى تأبى ألا تفارق قلم المبدع ود الخليفة، فتفرض عليه مرة أخرى لكي ينعي صديقاً آخراً له من أهل الدراما، يرحل المسرحي الفخم إبراهيم حجازي بعد صراع قصير مع المرض بمصر، بعد أن طبع قبلات وزفرات حارة على كنزه الذي ظل يجمعه بهمة تعادل مهام وزارات كاملة للثقافة والعلوم، كنزه المتمثل في التراث الشعبي، ولم يجد من يعتني به من المسؤولين المنشغلين بما هو أقل من هذا الهم، يرحل وفي حنايا قلبه جرحاً من هذا الاهمال البائن، دون أن يتلقى ولو كلمة شكر يتيمه أو إستحسان بما فعل، دعك من إلاء جهده قيمة تتلخص في تخصيص متحف ولو في ركن قصي من أركان صالات وقاعات وزارات الدولة غير المنشغلة بهموم الناس سوى الكلام الذي يحوم حوله الذباب. يرحل حجازي فيعود مصطفى الخليفة ليكتب عنه تحت عنوان "سكت الأداء الفخيم":ـ ذهبت ومعك كل الجمال وكل معني أن تكون فناناً متواضعاً إنسانا طيباً وأجرك عند الله بإذنه تعالي ، كنت أيقونه صبرنا ومنافحات هذا الفن الجميل والصبر علي مكارهه من أجل عميق رسائله ويبقي ماينفع الناس.
وتدور دوائر الرحيل في أوساط أهل المسرح السوداني فينعي مدير المسرح القومي وأعضاء الفرقة القومية للتمثيل والعاملين بالمسرح القومي بأم درمان رحيل عبد الواحد عبد الرحمن عامل الستارة بالمسرح القومي، وهو الذي حذق مهنته طيلة سنوات ممتدة تعرف خلالها على فنيات المسرح وأهله.
لا تمض سوى أيام قلائل ليفجع أهل الدراما والتمثيل برحيل عفاف الصادق حمد النيل الأكاديمية والأستاذة الجامعية والشاعرة والممثلة القديرة زوجة المطرب الكبير أبو عركي البخيت الذي يقول في رحيلها أمام جمهوره وجمهورها الذي احتشد بالمسرح القومي بأم درمان ليؤبن معه راحلته:ـ جملتيني وأديتيني البعد المفروض والداير أكونو علي الاطلاق في تكويني، ساهمتي معاي بأن أكون أجمل انسان بتشوفو عيونك بعيوني، أصبحت صباح أصبحت مساء، أصبحت خريف، أصبحت ربيع، اصبحت شتاء، وصيف، بقى أجمل مما يكون، صالحت الكون، وبقيت ممنون لي زولة بتشبه قرص الشمس، ومجنونة بترسم بي ألوان الطيف السبعة مدار الكون، وبقيت استطعمك بالشم والثم بهاك بود العين، وفي الأصل نحن زول واحد، وحرام الناس تشوفنا اثنين.
ثم هاهي آخر الفواجع تأتي من نواحي قبة الشيخ حمد النيل بمقابره غرب أم درمان، حينما يتهجم أحدهم على الدرامي والمسرحي والشاعر الفاتح مطيع بسكين حادة ليرديه قتيلاً دونما سبب وجيه، ومطيع من أهل الله العارفين به مسالماً ودوداً طيب المعشر والأخلاق، فكيف وبأي آلاء ربه يعتدي عليه من يعتدي على على حياته بهذه الطريقة البشعة، وهو الذي ظل يجمل حياة الناس بما قدمه من أعمال مسرحية، كان أشهرها مسرحية " الحب على الطريقة السودانية" ،، ينعيه صديقه العالم الفلكي دكتور أنور أحمد عثمان فيقول عنه:ـ يموج بك الموج وتعتلي اسابيله وفي أعماقك تسكن درر هاماتك الوامضة، يا أهل السماء، قد جاءكم زائر بوردة ذهبية وحصان أبيض وسيف مكسور، فأستقبلوه بزغرودة العديل والزين، هو أهل علم وفكر وتقوى وصلاح فأفتحوا له أبواب جنانكم بترحاب أبدين فلا مكان غيره يستحق، تشرئب الأعناق فرحاً بنورك المضئ أخي الفاتح، وتنهال الدموع أنهاراً وبحاراً لرحيل أمثالك، لا شئ هنا يبقى،، وغير المولى عدم، كنت ناصحاً ناضجاً واضحاً، حانياً غير خانياً معلماً مدبراً مثابراً ،، أحببناك ومازلنا، تنحني لك القلوب مسداراً وتخفت لك الأصوات إحتراماً ، نار علم وقاد، وشعلة نشاط غير وهاد كنت. فسلام عليك ،، سلام عليك أخي الفاتح .،، إنطوى بموتك كتاب لن يتكرر أبداً ،، سنلتقي هناك إن طال الزمن أو قصر. ثم تضيف إبنته سارة وهي تنعيه:ـ مساء الأربعاء توفى أبي صديقي وحبيبي، أبي ،، كيف حالك بين القبور ،، أبي يا فقيد قلبي، لقد اختارك الله بعيدًا عني، افتقدتك جداً وبكيتك كثيراً وانتهي لقائي بك في الدنيا ،، يرحمك الله بعدد ما تمنيت بقائك.
وهكذا ينضم الفاتح مطيع برحيله لقائمة المغدورين من أهل الابداع السوداني والوسط الاجتماعي، المطرب زنقار، والمطرب الآخر خوجلي عثمان، واللاعب الدولي وفريق الموردة العاصمي عمر عثمان، ثم الشاعر الرقيق عوض جبريل وآخرهم الدرامي الفاتح مطيع!.
سلام عليهم جميعاً وللمسرح السوداني وأهله الدراميين والمبدعين الف عزاء في هكذا رحيل ممض والذي نتمنى أن يكون آخر فواجع الرحيل.
ـــــــــــــــــــ
نشرت بصحيفة الميدان
helgizuli@gmail.com
/////////////